إيران ما بعد رحيل رئيسي أ.د. مؤيد المحمودي الكثير من علامات الاستفهام تثيرها رواية الجانب الايراني والطريقة المتناقضة التي تعامل فيها مع حادثة مصرع رئيسي ووزير الخارجية المرافق له، لاسيما وأن الطائرتين المرافقتين لطائرة الرئاسة قد نجحتا في تجنب الظروف الجوية الصعبة والعودة بسلام الى طهران. وفي ظل الفساد والمحسوبية في حكومة الملالي من غير محتمل أن تعمل لجان التحقيق بشفافية كامله للوصول الى الأسباب الحقيقية لسقوط تلك الطائرة. وحسب المعطيات المتوفرة حاليا يبقى عامل الأسباب العرضية المتزامن مع انعدام الرؤيا بسبب الظروف الجوية الصعبة من أكثر الاحتمالات التي تفسر ما حصل للطائرة المنكوبة، حتى تظهر أدلة من طرف محايد تثبت عكس ذلك. ولمعرفة تأثير غياب رئيسي على مجمل الأوضاع السياسية في إيران، لا بد في البداية من التطرق الى طبيعة التركيبة المعقدة للنظام السياسي الغريب في طهران. والذي يمكن وصفه بأنه نظام متشدد يغلب عليه النعرة الطائفية، ويستند في حكمه على المراكز الرئيسية التالية: أولا: المرشد الأعلى يعد أقوى شخصية في إيران وهو القائد العام للقوات المسلحة الإيرانية ويسيطر على الأجهزة الأمنية كافة، كما أنه يعين رئيس القضاء ونصف أعضاء مجلس صيانة الدستور الواسع النفوذ. والمرشد الأعلى هو المسؤول الأول عن الحرس الثوري الايراني الذي يملك نفوذا وتسليحا أقوى من الجيش الايراني. ويتولى تعيين كبار قادة الحرس الثوري الإيراني والقادة العسكريين في الجيش النظامي الإيراني، الذين يتحملون المسؤولية أمامه فقط ولا أحد سواه. وفي نفس الوقت يوجد تحت إمرته هيئة متكاملة من الموظفين اسمها مكتب المرشد تمتلك صلاحيات استثنائية للإشراف على جميع مؤسسات الدولة. ثانيا: الرئيس وهو ثاني أكبر مسؤول في البلاد، وهو يمثل أعلى سلطة تنفيذية في دفة الحكم كما أنه مسؤول عن ضمان تنفيذ الدستور، ويُنتخب لمدة 4 سنوات لكن تعيينه يخضع لموافقة المرشد الأعلى. ثالثا: البرلمان (مجلس الشورى) للمجلس سلطة إصدار القوانين ورفض الميزانية السنوية ويتم انتخاب الأعضاء وعددهم 290 عن طريق التصويت الشعبي كل 4 سنوات. رابعا. مجلس صيانة الدستور وهو الهيئة الأكثر نفوذا في إيران، الذي يتولى الموافقة على جميع مشاريع القوانين التي يقرها البرلمان وله سلطة الاعتراض عليها. كما يمكنه منع المرشحين من خوض انتخابات البرلمان والرئاسة ومجلس خبراء القيادة. وهو مكون من 12 عضوا وللمرشد الأعلى سلطة كبيرة على هذا المجلس من خلال التحكم في تعيين نصف أعضاؤه. خامسا: مصلحة تشخيص النظام يقدم هذا المجلس المشورة للمرشد الأعلى ويتمتع بسلطة الفصل النهائية في النزاعات حول التشريعات بين البرلمان ومجلس صيانة الدستور. ويعين المرشد الأعلى أعضاءه الـ 45، وهم شخصيات دينية واجتماعية وسياسية بارزة. سادسا: مجلس خبراء القيادة يتم انتخاب أعضاء هذا المجلس بالاقتراع الشعبي المباشر كل 8 سنوات ويشمل على 88 من علماء الدين أو رجال الدين، بعد اخضاعهم الى عملية غربلة من قبل مجلس صيانة الدستور الذي يتحكم فيه المرشد الأعلى. ونظريا فان هذا المجلس مسؤول عن تعيين المرشد الأعلى ومراقبة أدائه، وإذا توصل الى قناعة بأنه غير قادر على أداء واجباته فلدى هذا المجلس صلاحية عزله. ولكن في الواقع لم يعرف أبدا تحدي هذا المجلس لقرارات المرشد الأعلى أو حتى الاشارة الى طريقة ادارته للحكم. أما في حالة غياب المرشد الأعلى بسبب العجز الكلي أو الوفاة خاصة وأن آية الله خامنئي يبلغ من العمر الأن 85 عاما، فيصبح دستوريا لهذا المجلس الحق في اجراء اقتراع لاختيار خليفته بالأغلبية البسيطة. باختصار إيران ليست دولة مؤسسات كما يحاول أن يصفها البعض. بل انها تتبع نظاما شموليا تديره شلة انتهازيين غالبيتهم من رجال دين لا يجرؤون على اتخاذ القرارات المهمة الا بإشارة من المرشد الأعلى الذي يمتلك سلطات استثنائية لا يملكها أي رجل دولة أخر في العالم. وهي تشمل على سلطات دينية وسياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية. ويتبع هذا النظام شكليا اسلوب ديمقراطي لإدارة الحكم لكنه في جوهره عبارة عن نظام دكتاتوري متسلط يبسط نفوذه معتمدا بشكل أساسي على قوة الحرس الثوري وباقي الأجهزة القمعية التي تدين بالولاء المطلق للولي الفقيه. وقد انعكس هذا الاسلوب في الحكم على رسم السياستين الداخلية والخارجية للنظام الايراني منذ تولي الخميني السلطة. اذ تبقى توجيهات المرشد الأعلى الملزمة لكل الأطراف هي الطريق الرئيسي الذي تسير عليه دفة الحكم واختيار القيادات المهمة التي تتولى المسؤولية فيه. وعلى الرغم من وجود تيارين بشكل عام في السلطة أحدهم متشدد والأخر اصلاحي الا انهما في الحقيقة لا يختلفان من ناحية الجوهر لكونهما ينتميان الى نفس الفكر الثيولوجي اليميني. أما المعارضة الحقيقية فينظر اليها من كلا التيارين على أنها قوة طارئة وخارجة على القانون يجب التعامل معها بكل قسوة لضمان بقائها بعيدا عن الساحة السياسية الايرانية. وبسبب الدور الثانوي الذي يتمتع به الرئيس في نظام الدولة الايرانية، لا يتوقع أن يؤثر غياب رئيسي ووزير خارجيته على مسار السياستين الخارجية والداخلية في إيران. فدور وزارة الخارجية في رسم السياسة الخارجية الايرانية محدود لأنها تدار أساسا حسب توجهات المرشد الأعلى بالتنسيق مع الحرس الثوري الايراني. وهي تتخذ من الدين كواجهة للتمدد في الدول العربية المجاورة مستفيدة بذلك من انكفاء النفوذ الأمريكي في بعض الأجزاء من الشرق الأوسط بسبب انشغاله في التفرغ التام لتقديم الدعم الاستثنائي لإسرائيل واوكرانيا في الحروب التي تخوضهما حاليا. أما السياسة الداخلية فقد تشهد تغيرا بسيطا يسمح بانفتاح محدود على التيار الاصلاحي في الانتخابات التي سوف تجرى بعد 50 يوما من مصرع رئيسي. ويعود ذلك الى محاولة زيادة عدد الأشخاص المقبلين على الاقتراع، بعد أن شهدت الانتخابات الأخيرة مقاطعة كبيرة من قبل الناخبين. وكما هو الحال في العراق، يلجا النظام الايراني في العادة الى اجتثاث القوى الوطنية المعارضة أو التي لا تتفق أفكارها مع توجهات المرشد الأعلى عن طريق نظام اقصاء صارم بواسطة مجلس صيانة الدستور. وقد اتبعت هذه الطريقة الاقصائية في الانتخابات الرئاسية الإيرانية السابقة كي تضمن عدم وجود منافس قوي لرئيسي، المدعوم من قبل المرشد الأعلى.