التحديات لا تقف عائقاً أمام نهضة الأمة إذا وجدت الاستجابة المناسبة لها أ.د. مؤيد المحمودي أغلب التحديات التي واجهت رسالات الأنبياء والرسل ابتداءا من دعوة سيدنا نوح وحتى رسالة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم قد تم تجاوزها لأنها حظيت بالعناية الالاهية التي مدتهم بالمعجزات (الأعمال الخارقة للطبيعة) ووسائل الحماية الأخرى لدرأ المخاطر عنها. ومن هذه الأمثلة معجزة سيدنا ابراهيم عليه السلام الذي نجاه الله من الموت على يد الكفارعندما أوقدوا له نار حامية ليحرقوه فيها وهو شاب صغير بسبب تحطيمه لأصنامهم . لكن رعاية الله تعالى حالت دون ذلك كما ذكر في الأية التالية (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ) وعلى أثرهذه المعجزة الالاهية خرج سيدنا براهيم عليه السلام من النار الموقدة سليما معافيا .لتحصل له بعد ذلك معجزة أخرى عندما أصبح طاعن في السن اذ رزقه الله تعالى بغلام اسمه اسحق رغم أن زوجته كانت عاقرة. وحصلت كذلك مع النبي موسى عليه السلام معجزات ربانية ساعدته في مهمة مقارعة الطاغية فرعون. اذ كان عليه تبليغ فرعون رسالة من الله تعالى بأنه طغى وعليه السماح بهجرة بني اسرائيل مع النبي موسى عليه السلام. غير أن النبي كان مترددا في القيام بهذه المهمة الصعبة لأنه يغشى بطش هذا الطاغية خاصة وأنه مطلوب بثأرسابق بسبب مشاجرة حصلت له مع أحد سكان المدينة . لكن الله تعالى طمأنه ومنحه الاسناد المطلوب له ولأخيه هارون قائلا (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُون) . وقد تحققت هذه المعجزة الالاهية على أرض الواقع عندما حاول فرعون وجنده اللحاق بأتباع موسى عليه السلام فانشق البحروعبروا سالمين بينما تم اغراق جيش فرعون في اليم. وتكررت هذه المعجزات الربانية مع عدة مرسلين كان أخرهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي واجه تحديات كبيرة في بداية الدعوة وهو يحاول جاهدا حث الناس على الدخول في الاسلام. حيث كان يستغل موسم الحج عند البيت الحرام لكي يدعو الناس في كل سنة الى الدعوة وتوحيد الله تعالى. وقد بقي الرسول على هذا المنوال 11 عاما ولا يتلقى الا الاستهجان والأذية بينما كانت حياته معرضة للقتل في كل دقيقة من كفار قريش الذين كانوا يتربصون به العداء . لكن ذلك التحدي والاحباط لم يحط من عزيمته حتى نجح بعد مضي تلك السنوات الطوال في اقناع مجموعة من قبائل الخزرج القادمين من المدينة المنورة للدخول في الاسلام . وكانت هذه الاستجابة نقطة تحول مهمة في انتشار الدعوة الاسلامية اذ فتحت باب الهجرة لاحقا من مكة التي كان الرسول وأصحابه يتعرضون فيها لشتى المضايقات الى المدينة المنورة حيث الأمان وتعاظم انتشارالدعوة الاسلامية فيها بشكل واسع. لكن عملية الهجرة هذه لم تخلو من مخاطر جسيمة بعد أن تتبع الكفارمن قريش أثار الرسول ورفيقه أبو بكر أثناء رحلة الهجرة ولولا العناية الالاهية التي كان الرسول على ايمان مطلق برعايتها له كما اتضح من خلال كلامه لصاحبه في تلك اللحظات الحرجة (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) بعد أن كاد الكفار يدركوا مكان اختبائهم في المغارة . لقد قضت حكمة الله تعالى أن تبقى تلك الرسالات السماوية في مأمن لا تؤثر فيها التحديات التي واجهتها كي تستمررسلة الايمان بالله وحده لا شريك له متواصلة من جيل الى اخر حتى بلوغها يومنا هذا. وبعد اختتام مرحلة الرسالات السماوية وانتهاء دور المعجزات، برزت في عصرنا الحالي تحديات من نوع أخر تتمحور بالدرجة الأولى حول الصراعات التي تغذيها المصالح الاقتصادية والسياسية بين الأمم . و كان لهذه الصراعات تأثير كبير بشكل خاص على الأمة العربية بسبب موقعها الجيوسياسي المهم الذي يتمركز بين منطقتي الشرق والغرب. ومع ظهورالنفط بكميات وفيرة فيها بداية القرن التاسع عشر أخذت الأطماع الأجنبية تزداد شراسة لاستعمارالمنطقة العربية تحت ذرائع وتبريرات واهية. اذ لجأ الاحتلال التركي والفارسي والصهيوني على فرض نفوذهم كأوصياء على المنطقة باسم استحقاقات الدين أو الطائفة أو ادعاء الارث التأريخي . كما اعتمد الاستعمار الغربي فكرة نقل التطورالتكنولوجي وتحديث الأنظمة السياسية كوسيلة ليتغلغل في عدة مناطق من الأمة العربية. وقد تسببت هذه المحاولات الاستعمارية على احداث تراجع حضاري في الأمة العربية مقارنة مع وضعها السابق ابان فترة ظهورالدعوة الاسلامية وما تلاها من حكم الخلفاء الراشدين ، عندما كانت تمتلك ارادة مستقلة ووحدة سياسية متكاملة وتطور اداري وازدهار في التراث العلمي والثقافي. وتزامن مع هذه الهجمة الاستعمارية ظهورأمراض اجتماعية في الأمة العربية غير مألوفة في السابق مثل التفرد بحالة التجزئة والتمسك بالحدود القطرية الضيقة واستبدال نظام الشورى المنفتح على تقبل اختلاف الأراء بالأنظمة الدكتاتورية والاستبدادية وتوارث الحكم. وعلى العكس من ذلك أخذت شعوب أوروبا المختلفة في اللغة والديانة للتوحد في تجمع اقتصادي وسياسي كبير شكلت الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من حالة النكوص التي وصلت اليها الحضارة العربية اليوم، إلا أن المفكر الانكليزي الراحل توينبي يرى أن هذه الحضارة المستوحاة من المبادئ الاسلامية ستبقى حية رغم الاستعمار والأطماع الغربية، وذلك بسبب أصالتها وتناغمها بين الفكر والعمل والعدل والمساواة وتعظيم قيم الحرية . وهذه الخلاصة التي خرج بها توينبي عن الحضارة العربية الاسلامية جاءت بعد دراسة وتحليل عميق لأكثر من عشرين حضارة عبر التأريخ والتي قادته الى نظرية التحدي والاستجابة . وفي هذه النظرية يرى توينبي أنه كلما ازداد التحدي تصاعدت قوة الاستجابة على شكل سلسلة قد تكون أحيانا غير ناجحة في مواجهة التحديات ولكن كثرة المحاولات المتنوعة في النهاية تؤدي الى اهتداء الأمم بأمان إلى النهضة المطلوبة. ولعل التجربة الحديثة لليابان هي خير مثال على الاستجابة الايجابية لهذه الأمة بعد أن نجحت في استيعاب خسارتها للحرب ودمار القنبلة الذرية التي سقطت عليها لتنتقل بعدها الى مرحلة الإبداع في التكنولوجيا والمعرفة تاركة ورائها التحدي الذي واجهته من ذلك الوضع المأساوي كشيء من الماضي. اننا في الوطن العربي علينا أن نرفض حالة التخلف والتجزئة والوصاية الذي فرضته علينا قوى الاحتلال والبحث عن وسائل خلاقة للتغييرحتى وان كانت جريئة وعدم الاستسلام للتجارب السابقة التي أثبتت فشلها في مواجهة التحديات . فالقبول بالاستكانة والأمرالواقع هو ليس أفضل حالا من محاولة البحث عن طرقا جديدة فعالة لتحقيق التغييرالمطلوب. فمن المعروف ان جميع الانجازات العلمية الحديثة التي غيرت نمط التطورالحضاري للانسان قد سبقتها محاولات غير موفقة، الا أن الشروع فيها كان ضروريا للتوصل الى تحقيق النجاحات الحالية. ان الصهيونية هي من أهم التحديات التي تهدد الأمن القومي للامة العربية منذ العام 1948 بعد أن تم زرع الكيان الصهيوني في المنطقة العربية. وبالذات في الفترة الأخيرة شهدت القضية الفلسطينية تراجعا كبيرا من كونها محورا أساسيا للصراع العربي الاسرائيلي الى موضوع هامشي تخلله العديد من التنازلات حتى بات التطبيع مع الكيان الصهيوني مسألة عادية. لذا برزت مؤخرا عملية طوفان الأقصى كاستجابة مهمة لتحدي المحاولات الاسرائيلية الخبيثة لازالة الوجود الفلسطيني من الخارطة السياسية وتهميش القضية الفلسطينية التي عملت اسرائيل على فرضه كأمر واقع على المجتمع الدولي . ولولا هذه الاستجابة الثورية لبقيت القضية الفلسطينية طي النسيان لعشرات الأعوام من غير تحريك أي ساكن لها. وتأكيدا على هذه الحقيقة المهمة اعترف أحد الكتاب الاسرائيلين مؤخرا واسمه آلون مزراحي بالنجاح الباهر الذي حققته عملية طوفان الأقصى والذي قال" ان حركة المقاومة الفلسطينية لم تهزم اسرائيل فحسب ، بل هزمت الغرب بأكمله وغيرت مسارالتأريخ خلال الشهور الستة الماضية لأنها انتصرت في ميدان المعركة بقطاع غزة وانتصرت في معركة كسب الرأي العام واستفادت بشكل مذهل من قراءة العقلية الاسرائيلية. وأضاف لم يتم تدميرالمقاومة أو تفكيكها، وما زالت تحتفظ تقريبا بكل الأسرى الذين أخذتهم قبل 6 أشهر، ولم تستسلم لأي ضغط، وما زالت تعمل بفعالية ، في قطاع صغير محاصر ومدمر تماما. وأشار كذلك إلى أن التاريخ سيحكم على الأشهرالستة الأخيرة باعتبارها واحدة من أكثر الإنجازات العسكرية العبقرية والمذهلة في التاريخ العسكري كله. مشيرا إلى أن فلسطين لن تعود إلى الظل مرة أخرى". في العراق نحن بحاجة الى عملية طوفان جريئة تعيد المجد المشرق لعراق الحضارات ولكن ليس بالضرورة أن تتبع نفس المساق الذي سارت عليه عملية طوفان الأقصى. فقضية التغيير في العراق لها خصوصيتها وتحتاج بداية الى تحديد نقاط الضعف الرئيسية في العملية السياسية الحالية ومن ثم العمل على استغلالها بطريقة فعالة من أجل ايصال النظام السياسي الحالي الى مرحلة العجز .لا سيما وان بلورة هذه القضية على أرض الواقع يمكن أن تستمد استراتيجيتها من تجربتين ثوريتيين رائدتين سبق وأن هزتا أركان العملية السياسية التي جاءت بعد الغزو الأمريكي . وهما حركة المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأمريكي من عام 2003 الى 2011 وانتفاضة تشرين التي انطلقت عام 2019. ان الهدف الاساسي من عملية التغيير قد يتجاوز الوصول الى سدة الحكم وهي محطة عابرة لابد من بلوغها عندما تنضج مرحلة سقوط النظام المتوقع حصولها عاجلا أم أجلا. لكن الأهم من ذلك كله هو مرحلة ما بعد استلام السلطة والمتضمنة اقامة منظومة سياسية أخرى بديلة تأخذ على عاتقها ضمان الاستقلال التام اللعراق من كل التدخلات الأجنبية واطلاق عملية تنمية شاملة لكل المرافق الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية ووضع دستورا جديدا يعتمد التعددية الديمقراطية واحترام حقوق الانسان والأقليات والرأي والرأي الأخر والتعددية الدينية والقومية مع التأكيدعلى نبذ التعصب بكل أشكاله ويؤكد على الانتماء القومي العربي للعراق. لاشك أن التحديات المعقدة التي تواجه عملية التغيير في العراق نتيجة للتدخلات الأجنبية المتعددة وظهور فصائل مسلحة منفلتة خارجة عن سيطرة الدولة سوف يتطلب استجابة غير مألوفة. وفي هذا السياق لا بد من الاشارة الى وجود بعض القوى المعارضة الحقيقة على الساحة العراقية التي تتطلع الى تحقيق هذا التغييرالمنشود للنظام الحالي . الا أن الغالبية منها لاتمتلك القدرات الكافية لمواجهة مثل هذا التحدي الكبير، اما بسبب افتقارها الى التجربة السياسية الكافية أو القاعدة الشعبية الفعالة أو الاستعداد لبذل التضحيات الضرورية . بل أن البعض منها التي قد تحمل عناوين عريضة لكنها لا تتعدى أن تكون مجرد معارضة على صفحات الانترنت فقط. لذا بات قدرا للعراق أن يكون حزب البعث العربي الاشتراكي القوة االوحيدة المؤهلة لمواجهة هذا التحدي الكبير بما يمتلكه من نضال سياسي يمتد ل 77 سنة وقاعدة جامهيرية عريضة وتضحيات بالالاف منذ عام 2003 وجذور قومية تمتد الى العديد من الدول العربية . وهذه الحقائق عن الحزب يعرفها العدو قبل الصديق ، لذا بذلت قوى الاحتلال كل مافي وسعها لابعاده عن الحياة السياسية العراقية عن طريق فرض عمليات اجتثاث وتنكيل واقصاء لم يتعرض لها أي حزب أخرعلى مستوى الوطن العربي. اليوم من أهم الأولويات هو توحيد صفوف الحزب من خلال بذل المزيد من نكران الذات وتنحية التناقضات الثانوية جانبا من أجل التفرغ الى التناقض الأكبر المتمثل في مقارعة هذا النظام الولائي الفاسد. ان التحديات الطارئة التي واجهت العراق مؤخرا قد تكون سببا في جعله يمرض لا كنه لن يموت ، مادام فيه وعي شعبي متعاظم لرفض الوضع الحالي وعقيدة ثابتة لا تتزحزح عن مبادئها ورجالا باقون على العهد في مواجهة الرياح الصفراء التي عصفت به مهما كانت شديدة.