تجتمع هناك وتنفرط بعد العودة.!! د. أبا الحكم وكأن الأمر لا تحكمه قضية مركزية، قضية وطن، وقضية شعب، وقضية مصيرية.. لست محرضاً أو متدخلاً، وإنما أشعر بضيق النفس حين أرمق ما حصل في قاعة الاستشراق في روسيا وما حصل بعد انفضاض الجمع والعودة إلى أرض الوطن المغتصب. ولست ممن يتمسح بذيل أحد عدا منطق العقل الذي يؤكد أن التحرير يقتضي الوحدة والتحرير ليس مبعثه دينياً وإنما مرده سياسياً- استراتيجيا- قومياً، لا التمسك بأيديولوجيا دينية يفضي مخططها الى رهان خاسر. مسعى الكرملين كان ينصب على وحدة الفصائل الفلسطينية، ليس من أجل التحرير، إنما لهدف جر القضية إلى دائرة الاعتراف بالدولة الفلسطينية والتحرك بقوة في مجلس الأمن من أجل الدفع بهذا الاتجاه والقبول بحل الدولتين الذي وافقت عليه الضفة الغربية، كما وافقت عليه غزة باستحياء وبشروط من شأنها أن تجعل العجلة عصية على الدوران على المسرح الإقليمي والدولي وهذا يذكرنا بـ(لماذا انسحبت إسرائيل من غزة عام 2005 وتركت فراغاً ملائته حماس كأيديولوجيا في جغرافيا سياسية، مقابل فتح في الضفة الغربية كجغرافيا سياسية)؟ جغرافيتان سياسيتان تتنازعان الزعامة على حساب القضية المركزية فلسطين.. لماذا؟ الكرملين يقود دولة كبرى لها أهدافها الاستراتيجية بعيدة المدى، كما أن روسيا الاتحادية لم تعد أيديولوجية اشتراكية ولم تعد أيضاً رأسمالية ولا هي مختلطة تجمع بين الاشتراكية والرأسمالية، بل هي دولة ذات توجه قاري تؤسس كيانها، ليس على نمط (الاستقطاب الأيديولوجي)، وإنما (الحركي القائم على البحث عن المجال الحيوي).. لسنا بصدد تحليل أنماط الدول جيو- سياسياً، ولكن لأغراض فهم السلوك السياسي الخارجي لدولة الكرملين. نعود الى الفصائل الفلسطينية التي استعرضت مواقفها تحت قبة دار الاستشراق في روسيا ثم عادت وانفرطت وتركت الأمور على حالها.. وهنا أيضاً، لست ممن يسعى نحو دولة فلسطينية تحت الوصاية منزوعة السلاح وتحت رحمة المستوطنين الصهاينة الذين لا أحد يردعهم، ولكن لو يؤسس الفلسطينيون دولتهم الحرة المستقلة على أرضهم تنضوي في ظلها بسلام أطياف الأقليات الدينية والإثنية الأخرى، كما كانت منذ آلاف السنين وقبل الهجرة الصهيونية المنظمة التي قادتها بريطانيا والغرب الاستعماري.. هذا الهدف يتحقق إذا لم تعتمد الأيديولوجيا الدينية التي تختزل فلسطين بالقدس، إنما يعتمد مبدأ التحرير ذو الطابع الاستراتيجي، الذي يعمل على إيجاد الأرضية الثابتة للتحرير باعتماد أحد أهم عناصر القوة وهو العمق الاستراتيجي العربي.. فمن الصعب الحديث عن تحرير فلسطين بدون العمق الاستراتيجي العربي للقضية الفلسطينية. كل قضية تحرير تحتاج إلى عمق استراتيجي.. فيتنام كان عمقها الاستراتيجي الصين والاتحاد السوفياتي وقوى التحرر الاخرى.. الصين، عمقها الاتحاد السوفياتي حين كانت سواحلها تحتلها اليابان.. الجزائر، عمقها الاستراتيجي مصر وبعض الاقطار العربية، فلسطين، عمقها الاستراتيجي العربي (مغيب)، العراق المحتل، عمقه الاستراتيجي العربي (مغيب)... فكيف تتحرر فلسطين؟ وكيف يتحرر العراق؟ الرهان على المجازر ضد الإنسانية التي يرتكبها الصهاينة في فلسطين المحتلة وحجم كوارثها المخيفة.. والرهان على التظاهرات الشعبية في كل مكان، رغم أهميتها في الضغط السياسي والإعلامي وإضعاف الكيان الصهيوني سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ونفسياً، ولكن العمق الاستراتيجي الغربي الداعم للسياسة الدموية التي تتبعها سلطة الاحتلال الصهيونية سيجعل كفة الصراع في الكم والكيف تعود إلى ما كانت عليه، إذا ما أختلت أوضاع الحرب. الزمن وعناصر القوة ونتائج الحرب على غزة.. مواضيع يهتم بها الخبراء من السياسيين والعسكريين والكتاب والمفكرين.. وكنا نأمل أن نجد إجابة عن موضوعة الحرب في غزة هل هي حرب تحرير فعلية ذات طابع سياسي- استراتيجي تستكمل فيها شروط وقواعد الحرب أم هي حرب من نوع آخر تكتفي بتحريك الموقف لإنجاز تبادل السجناء والأسرى والجرحى وجثامين القتلى؟ فحرب التحرير لها مدخلات ومخرجات، وحرب التحريك لها أيضاً مدخلاتها ومخرجاتها التي تلامس أبعادا متعددة ومتنوعة ومختلفة. كما أن للزمن نصيب كبير وواسع في مفهوم الحرب، وكما كان مقدرا للحرب في اوكرانيا ألا تتعدى الأسبوع الواحد كما هو رأي قيادة الكرملين حتى تستسلم العاصمة كييف، كانت تقديرات الحرب في غزة ألا تتجاوز الأسبوعين يتم بعدها الاستجابة إلى سلسلة من نداءات الدعوة الى (وقف إطلاق النار - الهدنة- الهدنة الطويلة- تبادل جثامين القتلى- والجرحى والأسرى- والسجناء- وفك الحصارات المختلفة. إلخ).. وهذه السلسلة من المطالب تأخذ من الزمن الكثير وتأكل الكثير الكثير في الأخضر واليابس على وجه التحديد بشراً وموارد في غزة.. والآن قوات الاحتلال الصهيونية على مشارف رفح في جنوب غزة لاجتياحها ولغرض استكمال مخطط تهجير سكان غزة وإعادة احتلالها وزيادة معدلات التطهير العرقي في عموم فلسطين والضفة الغربية على وجه التحديد. والتساؤل المحير لماذا انفردت قوة مسلحة واحدة باتخاذ قرار الحرب في السابع من أكتوبر؟ والحرب مستمرة ومستعرة، والحشود وأليات النار تزداد كثافة والمساومات تبقى خارجة عن زمن الحرب، التي لها شروطها السياسية والاستراتيجية، من جهة، ولها معاييرها الخاصة وتوازناتها الخاصة من جهة ثانية.. ولا نريد هنا ان نخوض تفاصيلها الدقيقة التي يجب ألا تغيب عن ذهن صانع قرار الحرب أبدا وهيً: (هدف الحرب ووسيلة الحرب وقدرات الحرب وتحالفات الحرب - الداخلية والخارجية - وزمن الحرب وحسمية الحرب وأخيراً الجلوس على طاولة مفاوضات الحرب). وإن أي إخلال في هذه المفردات سيكون كارثياً، ومن علامات ذلك إطالة أمد الحرب التي تنسحب على كل المفردات والتقديرات المرسومة في حقل السياسة والاقتصاد والتعبئة المادية والبشرية.. الأمر الذي يشترط الإعداد المسبق للبدائل عند التخطيط ومجابهة حالة الاستنزاف التي تدخل هي الأخرى في اعتبارات التخطيط للحرب. لماذا تأخرت حسمية الحرب في غزة؟ كما هو حال الحرب في أوكرانيا؟ وهل كانت المقاربات السياسية والعسكرية والاقتصادية محسوبة في التخطيط والتنفيذ بين حماس والكيان الصهيوني؟ دعت موسكو الفصائل الفلسطينية المسلحة للاجتماع في ضيافة دار الاستشراق في روسيا للتباحث لإيجاد مشتركات للتوحيد - وكان الكرملين يسعى الى تكوين وحدة قوى فلسطينية لكي تعترف بها رسمياً على إنها تمثل دولة فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية - ولكن الاجتماع قد انفرط، كما أسلفنا، وانفردت حماس بالرفض. ماذا وراء الرفض الذي اعلنته حماس ومعها الجناح المسلح لمنظمة الجهاد الإسلامي؟ وماذا وراء قرار السفاح الصهيوني نتنياهو باجتياح رفح، بعد ان توغل الجيش الصهيوني في 75% من أراضي غزة؟ وبعد مضي ستة أشهر ونصف على اندلاع الحرب والعدوان عليها؟ وبعد وعود إيران بحزمة من الصواريخ ووعود اخرى حزمة من صواريخ حزب الله اللبناني ووعود من فصائل الحشد الشعبي الموالية لطهران.. فأين هي هذه الحزم من الصواريخ الساندة؟ ألم يكن ذلك توريطاً للمناضلين في غزة؟ ألم يكن هذا التوريط تخطيطاً مشتركاً بين طهران وتل أبيب تحت إشراف أمريكي؟ ألم يكن ذلك مكافئة لإيران لكي تحتل مقعدها في نظام الأمن الإقليمي بدلاً من نظام الأمن القومي العربي.