هل الولايات المتحدة نمرٌ من ورقٌ حقاً؟ نزار السامرائي كل ما يجري في المنطقة العربية والعالم من حوادث وأحداث، يؤكد أن أمريكا اختارت إيران لتنفخ في صورتها، وتجعلها تتضخم إلى حد أن تتصور نفسها عملاقا ضخما، قادرا على مواجهة أكبر التحديات الإقليمية والدولية، لا سيما بعد أن عاشت زعامتها عقدة الانكسار الكبرى نتيجة هزيمتها المدوية في حربها مع العراق عام 1988 وأجبرت خميني وهو صاغر على تجرّع كأس السم، هو ومعه كل إيران جيشا وشعبا، وهو ما انعكس على عملاء إيران الذين أدخلت في روعهم أنهم منصورون لن تقدر قوة في الأرض على مواجهتهم، لأن هذه حتمية التاريخ الذي ظلت الزعامة الإيرانية تروج له منذ أن وصل الصفويون إلى حكم إيران مطلع القرن السادس عشر. منذ أن استسلمت إيران في 8 آب 1988، عزمت الولايات المتحدة والشرق والغرب على إعادة الثقة المنزوعة من قلوب زعماء إيران، وإعادتها إلى الدور المرسوم لها منذ أن تحالف حكامها الصفويون مع جيوش الغزو الأوربي لبلاد العرب وخاصة بلاد الحرمين الشريفين، هذا الدور الذي أخفقت فارس بالنهوض به لشق وحدة المسلمين، إحساسا يقينيا منها بأنها أقلية ضئيلة وسط محيط إسلامي مترامي الاطراف، فكان أعداد خميني لتنفيذ هذا الدور محكما من جانب مخابرات أمريكا وبريطانيا وفرنسا، فأعيد إلى طهران وكأنه فاتح عظيم، وتم أعداد مسرح العمليات بما يناسب المشروع المعد له، كان يجب إظهار إيران قوة جبارة قادرة على هزيمة العالم لوحدها، ولعل وصول الخميني إلى السلطة أثناء رئاسة جيمي كارتر للولايات المتحدة، والذي افتتح عهد الرؤساء الأمريكان الضعفاء، جزء من الديكور السياسي، ففي رئاسة كارتر تم إعداد مسرحية احتلال السفارة الأمريكية في طهران واحتجاز 52 دبلوماسيا أمريكيا لمدة 444 يوما، عانى خلالها كارتر من شلل سياسي لم تعشه أمريكا طيلة حياتها السابقة، وكان الهدف من عرض تلك المسرحية إعطاء جرعة قوية من الثقة بالنفس لإيران بعد سقوط الشاه بأوامر من رئيس أركان القوات الجوية الأمريكية، الذي نصح القادة العسكريين الموالين للشاه بعدم التحرك لقمع المتظاهرين وكانت نصائحه أوامر استنادا إلى مقولة عسكرية تقول "رغبات الآمر أوامر"، وقدمت أمريكا تنازلات مذلة لطهران كي تطلق سراح الرهائن، فكانت تلك الحادثة هي المؤسس لكل سلوك إيران منذ ذلك الوقت حتى الآن. ثم تم الانتقال إلى الفصل الثاني وهو شعار (تصدير الثورة) إلى العالم الإسلامي انطلاقا من العراق واسقاط نظام الرئيس صدام حسين، ولكن هذه الخطوة تعثرت من يومها الأول لأنها اصطدمت بجبل شاهق من الإرادة السياسية والثقة العالية بالنفس، مما اضطر أمريكا وإسرائيل لإمداد إيران بصفقات سياسية سرية من بين فصولها وصول ماكفرلين مستشار الأمن القومي الأمريكي في النصف الأول من عقد الثمانينيات في القرن الماضي، من بين فصولها تقديم قالب كيك على هيئة خارطة العراق مع سكين لقطعها، كانت الرسالة واضحة السطور مفهومة المغزى، وبخاصة من جانب معممي إيران الذين سبق لهم أن تدربوا في معاهد الإعداد السياسي الأمريكية البريطانية. وعقب زيارة ماكفرلين حصلت إيران على صفقة مهمة من السلاح تضمنت عدة آلاف من صواريخ تاو المضادة للدروع، مع قطع غيار بكميات كبيرة لطائرات F4 و F5 وF14، وغيرها من الأسلحة بهدف إعادة التوازن الحربي في جبهات القتال ومنح إيران للفوز، ولكن تلك الصفقات لم تفلح في تعديل مسار الحرب فقد ابتلعتها سواعد العراقيين وحولوها إلى رماد، لتبقى شاهدا على نفاق الدول الكبرى ونواياها الشريرة. ولكن العراق رغم كل ما خُطط ضده خرج من الحرب منتصرا عالي الثقة بنفسه وبلاء العراقيين جميعا لوطنهم، وهذا الدرس كان قاسيا على الزعامة الايرانية، ولكنه كان أشد وقعاً على أمريكا وبريطانيا، فقد شعرا أن هناك دولاً لا يمكن أن تسلم مقاديرها للقوى الدولية. منذ ذلك الوقت بدأ مخطط تدمير العراق الذي كان مثل السد الذي أقامه ذو القرنين وحجز وراءه يأجوج ومأجوج، وإخراجه من معادلة الأمن القومي العربي. يجب أن تظهر إيران بمنظر قوي وتعرض فيه مسرحيات على سطح اليابسة تارة وعلى سطح البحر ثانية، وفي الجو ثالثة، فتتحدى أمريكا بكل جبروتها التي كانت تنتفض لأقل تحدٍ تتعرض من أي طرف كان، له فتسحق بحادلتها كل ما يصادفها في الطريق. فماذا جرى لأمريكا كي تتلقى كل هذه الإهانات فتقدم خدها الايسر لطهران كي تصفعها بقوة في البحر الاحمر مرة وفي بحر العرب مرة أخرى، بعد أن كانت قد صفعتها على خدها الأيمن في عين الاسد ومطار بغداد ومطار أربيل. هذا هو ما تريد أمريكا ايصاله للعالم والعرب خاصة، بأن من يواجه أمريكا بهذه القوة والثقة بالنفس، لهو أقدرُ على سحق العرب فرادى أو مجتمعين، وما عليهم في نهاية المطاف إلا أن يفرشوا السجاد الأحمر وينثرون في طريقها الزهور، كي تدخل فاتحة لا محررة، كلاً من الرياض والقاهرة وبقية العواصم العربية، خاصة بعد اقتلاع بوابة العرب الشرقية، فانهيار بوابة من السد، تعني تداعي بقية البوابات تباعا. في الأيام الأخيرة لمعركة القادسية الثانية، كتبت صحيفة كيهان مقالا افتتاحيا، اختتمته بتساؤل مرير يقول "هل وصلنا إلى هذا الحد من الضعف والهوان بحيث تنقلب موازين القوى في جبهات الحرب ونبدأ بخسارة مواقعنا، أم أن العراق امتلك هذه القوة الأسطورية بشكل مفاجئ"؟ ولكن الصحيفة لم تعرف الإجابة على السؤال ولن تعرفه، لسبب بسيط هو لأن الإيرانيين لم يقرأوا التاريخ بصورة دقيقة، وإن قرأوه فإنهم لم يستخلصوا منه الدروس الكافية، فلم يكسبوا أي حرب مع العراق طيلة تاريخهم ومنذ أقدم العصور وحتى الآن إلا بالاستعانة بقوى دولية، وهذا هو ما حاصل اليوم. لا بد لمجلس الأمن القومي الأمريكي والمخابرات المركزية CIA ومراكز الدراسات الأمريكية والسلطات التشريعية والجامعات من طرح سؤال بحجم مرارة سؤال صحيفة كيهان في نهاية الحرب العراقية الإيرانية، ولكن على أن تسحبه تلك الجهات وتحاول إيجاد إجابة شافية، هل وصلت أمريكا إلى نهاية دورها الدولي نتيجة للحتمية التاريخية التي تبدأ فيه الدول ضعيفة ثم يشتد عودها وتصبح قوة كبيرة ثم تشيخ وتصل مرحلة الاحتضار؟ أم أن إيران استقوت عليها ووصلت هذا المستوى من الوقاحة والتواقح عليها، بحيث تحولت الولايات المتحدة إلى كيس تدريب على الملاكمة وهي اللعبة المشهورة داخل أمريكا. أسئلة بحجم الأحداث التي يعيشها العالم والمنطقة العربية بشكل خاص.