إرادة المقاومة الفلسطينية أجهضت طموحات العدو الصهيوني لطمس القضية الفلسطينية أ. د . مؤيد المحمودي أصبحت القضية الفلسطينية بجميع محاورها سواء كانت على المستوى الوطني أو العربي أو الدولي قبل معركة طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر، ليست ما هي عليه الأن بعد ذلك التأريخ. فمنذ مجيء نتنياهو الى الحكم اعتمدت استراتيجية العدو الصهيوني لاحتواء القضية الفلسطينية وتهميشها على ثلاثة سياقات رئيسية: 1. على المستوى الفلسطيني حاولت سلطة الاحتلال ايصال الشعب الفلسطيني الى حالة من اليأس والتشرذم من خلال الافراط في القمع وزج أكبر عدد ممكن من الناشطين ضد الاحتلال وخاصة القيادات السياسية في السجون وتعريضهم لشتى أنواع التعذيب أو الاغتيال في حالة فشل عملية الاعتقال. كما عمدت هذه السلطات الغاشمة الى محاولة ابعاد أي تقارب بين قوى الشعب الفلسطيني من خلال تشجيع التناقضات بين منطقة الضفة الغربية وقطاع غزة ومحاربة التقارب بينهما. اضافة الى أنها وقفت بقوة أمام أية محاولة لإجراء استفتاء في عموم المناطق الفلسطينية من أجل انتخاب المجلس الوطني الفلسطيني الذي يجمع كافة فئات الشعب الفلسطيني الموحد، خاصة إذا شمل هذا الاستفتاء مدينة القدس الشرقية التي تعتبرها إسرائيل باطلا جزء ا لا يتجزأ من عاصمتها الأبدية. واضطرت حكومة الاحتلال في 15 أب 2005 الى فك الارتباط عن غزة من طرف واحد وأصبحت خارج سيطرتها الادارية وذلك نتيجة للمقاومة الشرسة التي تعرضت لها في هذا القطاع ابان حكمها لها قبل ذلك التأريخ. لكن تلك الحكومة أبقت على حصار غزة برا وبحرا وجوا وادعى رئيس وزرائها آنذاك أريئيل شارون أن تلك الخطوة سوف تمنح مواطني بلاده أقصى مستوى من الأمن. ولكن لم يمضي وقت طويل حتى انهالت الصواريخ من غزة على الأراضي الفلسطينية المحتلة والتي صاحبها بالمقابل قيام النظام الاسرائيلي بغارات غاشمة عن طريق الطيران الحربي. واستمرت هذه المناوشات العسكرية بين الطرفين حتى توجت بعملية طوفان الأقصى التي فاجأ فيها حوالي 1000 مقاتل فلسطيني فرقة غزة الاسرائيلية التي تقع في غلاف غزة وقدر عدد قواتها بحدود 15 الى 20 ألف عسكري اسرائيلي، تم أسر أكثر من 200 فردا منهم بعظهم يحمل رتب عسكرية عالية وقتل حوالي 1400 اسرائيلي بضمنهم سكان المستعمرات الموجودة في غلاف غزة. وعلى أثرها قامت القوات الاسرائيلية بعملية انتقامية بربرية استخدمت فيها القصف الجوي لمدة حوالي خمسون يوما دمرت على أثرها البنى النحتية ومعظم المباني في شمال غزة ووسطها وخلفت ما يقارب ال 15 ألف قتيل، 70% منهم من الأطفال والنساء. كما أجبر معظم سكانها على الرحيل الى جنوب غزة ما عدا حوالي 700 ألف منهم أصر على البقاء في منطقة شمال غزة. وفي يوم 27 اكتوبر عززت سلطة الاحتلال اعتدائها الغادر بالحرب البرية التي ركزت على اجتياح شمال غزة المدمرة أصلا بسبب الغارات الجوية. لكنها واجهت في هجومها البري حرب استنزافية من قبل المقاومة الفلسطينية التي اعتمدت اسلوب حرب العصابات، متبعة بذلك نفس اسلوب المقاومة العراقية سابقا الذي نجحت فيه بتكبيد المحتل الأمريكي أفدح الخسائر وأجبرته على الانسحاب من العراق عام 2011. وبعد مرور 27 يوما من الهجوم البري الكاسح الذي شاركت فيه حوالي 4 الى 5 فرق عسكرية من نخبة القوات الاسرائيلية لم تنجح تلك القوات من تحقيق ولو هدف واحد من الأهداف المعلنة من قبل حكومة الاحتلال والمتمثلة في تحرير أي من أسراها عن طريق القوة العسكرية وانهاء دور المقاومة الفلسطينية والوصول الى قادتها وفرض سيطرتها الكاملة على غزة من جديد. وعلى أثرها وافقت قوة الاحتلال على هدنة مؤقتة بدأت في 24 نوفمبر واستمرت سبعة أيام تم فيها اجراء عدة عمليات لتبادل الأسرى بين الطرفين. وكانت هذه الخطوة تمثل نجاحا كبيرا للمقاومة الفلسطينية بإمكاناتها العسكرية المتواضعة على اجبار الجيش الاسرائيلي المعزز بأحدث قدرات التكنولوجيا على الجلوس في طاولة المفاوضات لتبادل الأسرى بطريقة سلمية وليس عن طريق القوة. وفي هذا السياق تأمل المقاومة الفلسطينية أن تنجح في سلوك هذا الطريق التفاوضي لتحرير حوالي 8500 أسير فلسطيني لدى سجون الاحتلال الاسرائيلي. 2. وعلى الصعيد العربي عمدت حكومة نتنياهو على توسيع عملية التطبيع مع الدول العربية التي ابتدأتها مع مصر والأردن على مبدأ اعادة الأراضي المحتلة من قبل اسرائيل الى تلك الدول مقابل مقايضتها بالسلام معها. ولكن الضغط الأمريكي في زمن رئاسة ترامب للحكومة الأمريكية قد أجبر حكومات عربية أخرى على التطبيع مع دولة العدو اعتقادا منها أن تلك الخطوة سوف توفر لها الحماية الكافية من التمدد الايراني في المنطقة. أما حكومة نتنياهو فقد اعتبرت هذا الاختراق في عملية التطبيع بمثابة نجاح كبير لها في التعايش مع واقع عربي جديد بمعزل عن القضية الفلسطينية التي تسعى الى طمسها، بعد أن كانت تعتبر بمثابة قضية العرب الاولى. وكانت حكومة الاحتلال تأمل أن تتطور عملية التطبيع هذه لتشمل دول عربية أخرى تضاف الى القائمة الحالية للدول المطبعة معها. الا أن الحرب الأخيرة على غزة قد هيجت الشعور القومي العربي من جديد فترك أثره الايجابي على عملية التطبيع التي تقلص حجمها إثر سحب بعض الدول العربية سفرائها من اسرائيل مثل الأردن والبحرين. بل امتدت هذه الخطوة الايجابية لتشمل دولا أخرى غير عربية مثل جنوب أفريقيا وبعض دول أمريكا الجنوبية التي عمدت هي الأخرى الى سحب سفرائها من اسرائيل احتجاجا على العدوان البربري على غزة. 3. على الصعيد العالمي كانت القضية الفلسطينية قبل السابع من اكتوبر تعاني من الاهمال والتهميش بسبب الدعاية الاسرائيلية المغرضة التي عمدت على تشويه عدالة هذه القضية المقدسة من خلال خلق الأكاذيب التي وصفت فيها الفلسطينيين بمجموعة من الناس الذين سكنوا فلسطين بصورة طارئة بعد قدومهم من الدول العربية. وبالتالي حاولت حكومة نتنياهو بشكل خاص أن تسوق القضية الفلسطينية الى العالم الخارجي على أنها تتعلق بحالة شعب بلا وطن لا توجد له جذور متأصلة على أرض فلسطين. الا أن هذه الصورة الخداعة بدأت تتغير بعد الحرب الأخيرة على غزة التي صدمت العالم بفظاعة الجرائم التي ارتكبها العدو الصهيوني بحق الأطفال والنساء الأبرياء من الفلسطينيين. وأخذ العالم بعدها يستيقظ من سباته اتجاه عدالة القضية الفلسطينية حتى باتت الشعوب من القارة الأمريكية الى الأوروبية امتدادا الى القارة الأسيوية واستراليا كلها تتكلم بصوت واحد "تحيا فلسطين حرة". وعلى الرغم من عدم ظهور تغير جذري ملموس على المستوى الرسمي لسياسات بعض الدول التي اعتادت الانحياز للإسرائيل مثل الحكومة الأمريكية وقسم من الدول الأوربية. الا أن الضغط الشعبي المتعاظم والداعم للقضية الفلسطينية بين فئات الشباب، لا بد أن يترك أثرا كبيرا على حكومات تلك الدول المنحازة خاصة في فترة الاستحقاقات الانتخابية. ومن المبادرات التي تدعوا الى التفاؤل في هذا المجال بدأنا نسمع لأول مرة عن مسؤولين في دول أوروبية مثل اسبانيا وبلجيكا وألمانيا استعداد دولهم للاعتراف بقيام دولة فلسطينية مستقلة. اليوم ترتكب الحكومة الصهيونية حماقة عسكرية جديدة بمواصلة الحرب على غزة مجددا بعد هدنة دامت سبعة أيام، كي تجرب حظها العاثر في تحقيق أي انتصار عسكري على المقاومة الفلسطينية حتى وان كان هامشيا وذلك لتعويض الصدمة المفجعة التي تلقتها في عملية طوفان الأقصى. فهي لم تفيق بعد من أثار تلك الكارثة التي كشفت عن مدى الخلل في قدراتها العسكرية وتركها في دوامة كبيرة أبعدتها عن القدرة على استيعاب جدوى الاسلوب التفاوضي لاسترجاع كافة الأسرى الاسرائيليين مقابل تحرير جميع الاسرى الفلسطينيين، حسب مبدأ الكل مقابل الكل. وهذا التعنت الفارغ ليس بجديد على حكومة الاحتلال التي سبق وان فشلت في محاولات عدة سابقا لاجتياح غزة من خلال حملات عسكرية يائسة عدة حصلت بعد العام 2005. ويضاف الى ذلك فشلها العسكري الأخير في اجتياح غزة وإطلاق الرهائن لدى المقاومة الذي انطلق في 27 اكتوبر. اذ دحض هذا الفشل اكذوبة الجيش الذي لا يقهر والتي أطلقت على الجيش الصهيوني بعد أن تعود على خوض حروب خاطفة في السابق يستغل فيها التفوق التكنولوجي التي يمتلكها جيشه. الا أن هذه المعركة تختلف عن سابقاتها في الاسلوب التكتيكي الفعال والارادة الكبيرة التي تمتلكها المقاومة الفلسطينية التي لم تستخدم لحد الأن سوى 20% تقريبا من قدراتها العسكرية في المرحلة الأولى للعدوان. وليس من المستبعد أن يمنى هذا الكيان الغاصب بخسارة شنعاء في معركته الحالية مع المقاومة الفلسطينية والتي سميت بالمرحلة الثانية لتكون بذلك أول هزيمة عسكرية يتعرض لها جيشه طوال ال 75 سنة الماضية. وذلك على ضوء المكاسب العسكرية الهزيلة التي حققها في المرحلة الأولى، بعد أن عجز عن احتلال مساحة لا تتجاوز ال 35% من المنطقة الشمالية في غزة التي خطط لاحتلالها بالكامل ولا زال وضعه فيها غير مستقر ويدفع خسائر في جنوده. فكيف له أن يتمكن من تحقيق نجاحات باهرة بالمنطقة الجنوبية في غزة المعروفة بكثافتها السكانية العالية. علما أن توقعات بعض الخبراء العسكريين تشير الى أن الوقت المتبقي ليس في صالح العدو الصهيوني الذي عليه أن ينجز أهدافه العسكرية في فترة قصيرة قد لا تتجاوز 3 أو 4 أسابيع، بعدها سوف يضطر للرجوع الى طاولة المفاوضات ثانية تحت تأثير الخسائر الكبيرة في جنوده والفاتورة الاقتصادية الجسيمة التي سوف يدفعها وضغط الرأي العالمي عليه. لقد سئل قديما بن غوريون أحد رؤساء الوزارات والذي يعتبر من المؤسسين الأوائل لدولة اسرائيل عن تقديراته للفترة الزمنية التي تحتاجها الدولة الصهيونية للوصول الى نهايتها، فأجاب سوف يكون ذلك ممكنا في أول خسارة عسكرية تتعرض لها هذه الدولة. وكما يبدو فان تنبؤات ذلك الرجل توشك أن تتحول الى أمر واقع.