بسم الله الرحمن الرحيم الكتابات الأدبية الأولى للقائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق بمناسبة الذكرى الرابعة والثلاثين لوفاته جابر خضر الغزي المقدمة: تبقى ذكرى القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق رحمه الله ملهمة لكل المناضلين والمفكرين والسياسيين والمثقفين العرب الذين ينهلون من هذا المفكر الكبير العربي الأصيل المتصل اتصالاً حياً وأخلاقياً ومبدئياً بروح الأمة العربية المجيدة، فمن الصعب الإحاطة بحياته الفكرية والسياسية والأدبية، وهذا ما يحتاج إلى بحوث ودراسات يشارك فيها أبرز المفكرين العرب والأجانب، كما حدث في الندوة القومية حول فكر الأستاذ في بغداد 23 حزيران 1990. في هذه الذكرى العطرة تناولت محطة واحدة هي: الكتابات الأدبية الأولى منذ بداياته الأدبية 1925 _ 1936 ذات الطابع الفكري والأدبي، حيث طرح مفهوماً جديداً للثقافة والمثقفين، فكان أديباً وشاعراً في مرحلة الثلاثينيات وكذلك قاصاً. في مقابلة صحفية للقائد المؤسس مع الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب بتاريخ 9 /8 /1958 لجريدة الجمهورية يقول : " لقد بات حياتي بالأدب , ومع ذلك فلا أريد أقول بأنني أديب , وكنت أعطي القيمة الأولى للأدب والأدباء في الفترة بين سن 15 _ إلى 20 سنة، ولكن نوع الأدب الذي كنت أقرأه حتى في صغري , كان على الأكثر , أدباً فلسفياً , فقد قرأت اللزوميات للمعري وسقط الزند , وأنا في السادسة عشرة من العمر , وانتخبت لنفسي مختارات من اللزوميات , كما قرأت المتنبي في تلك السنة نفسها , ولما ذهبت إلى باريس للدراسة , بعد حصولي على البكلوريا , فإن الأدباء الذين أغرتني كتبهم , أدباء ومفكرين لذلك كان من الطبيعي الانزلاق من الأدب إلى الفلسفة , وأول فيلسوف تعرفت عليه عن طريق الأدب هو (نتشه ) , وقد شغل مكاناً خاصاً في مطالعاتي , كما أعجبت غاية الاعجاب بالقصاص الروسي ( ديستوفسكي ) ".انظر ميشيل عفلق في سبيل البعث ج5 ص3. يبدو أن أغلب الرفاق والمثقفين يعرفون الاتجاهات الفكرية للقائد المؤسس لحزب البعث العربي الاشتراكي ولا يعرفونه، إلا القليل، بأنه شاعر وأديب الذي كتب العديد من القصائد الشعرية والروايات "الذي سنتناولها لاحقاً والتي نشرت في مجلة (الرسالة ) العدد 168 مجلد 3 وفي 7 /10 / 1935 إضافة إلى المسرحيات منها القصة الحوارية ( موت السندباد ) التي نشرت في مجلة ( الطليعة ) العدد الخامس السنة الثانية 1936 وهناك روايات اجتماعية منها ( إنسان جديد ) نشرت في جريدة ( الأيام ) في تشرين الثاني / نوفمبر 1934 (وراس سعيد افندي ) نشرت في جريدة ( الأيام ) في 21 حزيران/ يونيو1935 . وعلى ضوء ذلك قسمت كتابي الموسوم المحطات الفكرية في حياة القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق إلى ثمان فصول منذ الكتابات الأدبية الأولى في الثلاثينيات إلى آخر كلمة له في 7 نيسان 1989 , ووضعت المفاتيح المركزية لكل محطة فكرية لتكن عناوين كبيرة للدارسين والباحثين لمشروعه الفكري وهو أشهر وأبرز المشروعات , عندما يأخذ كل باحث من الباحثين محطة فكرية واحدة , يتناولها بالدراسة والعمق والشمول والتفصيل والتحليل , فإن هذه المحطات الفكرية , ما هي إلا سلسلة من الاكتشافات والإبداعات الخلاقة والإنضاجات المبدعة لمنطلق الفكر العربي الثوري في هذه المرحلة التاريخية الراهنة . وبناء على ذلك سأضع بين يدي القارئ الكريم أهم المحطات الفكرية في حياة صاحب الذكرى صاحب المشروع القومي العربي الحضاري الرسالي الإنساني أحمد ميشيل عفلق رحمه الله. المحطة الأولى: مرحلة الثلاثينيات: الكتابات الأدبية الأولى لقد اهتم مؤسس البعث أحمد ميشيل عفلق في بداية حياته بالجانب الأدبي والسياسي وخاصة بعد اشتراكه بـ(ندوة المأمون) ومن خلالها تعرف على بعض الأدباء في سوريا والمهجر " كان صلتهم نموذجاً دام طويلاً بالشاعر والكاتب القصصي الحلبي علي ناصر، وتراسلا وتبادلا الآراء في الشعر وخاصة الشعر المنثور، حسب قول الدكتور شاكر مصطفى، وهو من أهم تلامذته والدارسين للقصة في أدبه، إنه في رأيي أول من شق الطريق في هذا الباب، والشعر المنثور لنازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، وإن كانت أشعار قليلة). بعد عودته من باريس بأقل من عشر سنوات (1934_1943) من الدراسة تجاوز شهرته حدودها وأصبح في عالم الأدب والفكر، فأفسحت مجلات لبنان (الأديب _ الأدب _ المكشوف) اصدارتها وكذلك (الرسالة) مجلة مصر والعرب أيضاً وصار واضحاً أنه كان من دون جيله وأكثرهم وأبرزهم محطاً للأنظار ومن أهم انتاجاته الأدبية والفكرية في الثلاثينيات هي: 1 _ نحو حياة مفجعة (نشرت في مجلة الطليعة السنة الثانية العدد الأول 1934) حيث قال رحمه الله (رويدك يا صديقي! لماذا تنظر إلى الحياة من جهتها المفجعة؟ فكر ملياً فهل ترى فيها ما يستحق الاهتمام؟ إنها أحقر من أن تتعب رأسك ساعة واحدة فأخذها كما أتتك والسلام.. إن السادة والعقلاء الذين آثروا التفرج على التمثيل والهدوء على النضال والأطلال على الحياة من شرفة عالية يكونون فيها آمنين في الطوارئ والأخطار.. فإذا بكل حياتهم خيانة، فلندعهم وشأنهم لأنهم موتى من قبل ما ولدوا، ولنتطلع دوماً إلى البطل الذي لا يحب الحياة فحسب بل يحترمها، لا يشتم القدر بل يحاربه لا يخاف من الفشل بل يرى فيه سر بطولته، ويرضى بالحياة المفجعة لا مقطباً جبينه بل مرتلاً نشيد الظفر). 2 _ عهد البطولة عام 1935م (الآن تنطوي صفحة من التاريخ نهضتنا العربية وصفحة جديدة تبدأ، تنطوي صفحة الضعفاء الذين يقابلون مصائب الوطن بالبكاء وبأن يقولوا " لا حول ولا قوة إلا بالله " صفحة النفعين الذين ملأوا جيوبهم ثم قالوا: " لا داعي للعجلة كل شيء يتم بالتطور البطيء " صفحة الجبناء الذين يعترفون بفساد المجتمع إذا ما خلوا لأنفسهم حتى إذا خرجوا إلى الطريق كان أول من يطأطئ رأسه لهذه المفاسد.. وتبدأ صفحة جديدة، صفحة الذين يجابهون المعضلات العامة ببرودة العقل ولهيب الإيمان، ويجاهرون بأفكارهم ولو وقف ضدهم أهل الأرض جميعاً، ويسيرون بالحياة عراة النفوس هؤلاء هم الذي يفتحون عهد البطولة). أخي القارئ الكريم لاحظ أن هذه المقولة كتبت عام 1935 بعنوان عهد البطولة وهي النداء الأول الذي أطلقه الأستاذ أحمد ميشيل عفلق في العصر الحديث، فكان الجواب الأول المقاومة الوطنية العراقية المعجزة أسرع مقاومة عرفتها البشرية بلا سند مقارنة بالمقاومات العربية في الجزائر وفلسطين ومصر وأيضاً ثورة أطفال الحجارة الفلسطينية المقدسة وموقف الشهيد صدام حسين على منصة الإعدام ويهتف للعراق والأمة وينطق الشهادتين امتداداً للموقف البطولي لشيخ المجاهدين عمر المختار وأبطال فلسطين وهم يقارعون الاحتلال والصهيونية. فالمسافة الزمنية بين النداء الأول عام 1935 والجواب الأول المقاومة الوطنية العراقية وموقف الشهيد المجدد صدام حسين على منصة الإعدام أكثر من سبعين عاماً، وكأنما القائد المؤسس يعيش هذا الموقف اليوم عندما قال: " عهد البطولة وأكاد أقول عهد الطفولة.. ولا يصدق أن الحق يحتاج إلى براقع والقضية العادلة إلى تكتم وجمجمة.. حياة هؤلاء ستكون خطاً واضحاً مستقيماً لا فرق بين باطنها وظاهرها ولا تناقض بين يومها وأمسها " .2 3 _ ثروة الحياة 1936 مقالة القائد المؤسس ثروة الحياة التي تجاوزت الفكر الماركسي بالنسبة للاشتراكية وأعطاها الأبعاد الروحية والإنسانية عندما قال:" لو سئلت عن أسباب ميلي للاشتراكية لأجبت: ما أطمع به منها ليس زيادة في ثروة المعامل بل في ثروة الحياة، وليس همي أن يتساوى الناس في توزيع الطعام بقدر ما يهمني أن يتاح لكل فرد إطلاق مواهبه وقواه.. ما نظرت إلى الاشتراكية يوماً من الأيام كواسطة لإشباع الجياع وإلباس العراة فحسب، ولا يهمني الجائع لمجرد كونه جائعاً بل للممكنات الموجودة فيه ". وأضاف أيضاً قائلاً:" إذا سئلت عن تعريف للاشتراكية فلن أنشده في كتب ماركس ولينين، وإنما أجيب: إنها دين الحياة، وظفر الحياة على الموت، فهي يفتحها باب العمل أمام الجميع، وسماحها لكل مواهب البشر وفضائلهم أن تنفتح وتنطلق وتستخدم، تحفظ ملك الحياة للحياة ولا تبقي للموت إلا اللحم الجاف والعظام النخرة". 4 _ حول (خرافة البؤس) كاد الفقر يكون كفراً. انتقد فيه السيد عجلان عندما وصف البؤس في هذا العصر بدلاً أن يقوي في النفس الإباء، ويحقن فيه الفضيلة، ويعودها على الذل، ويدفعها إلى الرذيلة والإجرام. حيث انتقد القائد المؤسس رحمه الله السيد عجلان قائلاً:" لأن السيد عجلان وأصحابه يكتبون في غرفة، كالتي يصفها هو في قصته بين الأرض والسماء، ولكنهم لو تنازلوا وأن يتركوا العلياء، سماءهم برهة ليمشوا في الطرق العامة، أو يتوقفوا أمام أبواب الجوامع، ثم يقولوا لي إجمالاً أيرون بشاعة إباء أم ذلا؟ وجهاً بشرية خلقها الله على صورته أم خلقاً وجف البؤس دمها، وحجز شعورها، وغير ملامحها حتى أمست تشكل نوعاً جديدة ... لقد أنكرت خرافة البؤس في هذا العصر لإنقاذ البأس من حاله والسيد عجلان دافع عن جمال البؤس وفضيلته لأنه يريد أن يبقي اليأس على حاله". 5 _ أندره جيد من الشك إلى القلق تأثر القائد المؤسس بالروائي الفرنسي أندره جيد حيث قال: " كنت تلميذاً دون الثامنة عشر أتهيأ لفحص البكلوريا وأكثر من قراءة المعرية، وكما يحدث عادة عندما يدرس المرء كاتباً مدة طويلة.. قذفت بي الصدفة إلى باريس، صرت أطرب بقول جيد: تمر بي أيام يكفيني أن أردد فيها اثنين مع اثنين لا تزال تساوي أربعة، حتى يمتلئ قلبي غبطة أو أن أرى قبضة يدي على المنضدة". فقرأ رحمه الله مؤلفات جيد، منها المزيفون والبوابة الضيقة وقوت الأرض وسيمفونية الحقول، وقد أتاح له الاطلاع على منابع الأدب الفرنسي. 6 _ ميشيل عفلق شاعراً كتب الأستاذ أحمد ميشيل عفلق الشعر، إلا أنه لا يعتبر نفسه شاعراً، فأشعاره قليلة ومنها: أ_ عاصفة: نشرت في مجلة (الدهور) في شهر أيلول عام 1934 هذا بعض منها. (اعصفي يا رياح) واهزئي بالسماء من يكن ذا جناح هل يهاب الفضاء؟ أمضت في الفناء قاصفات الرعود اغسلي يا سيول زائف الأصباغ السما كالطبول زمرت بالفراغ يا سيول افتحي لنفسي مجرى أنا نهر حيران، لم يلق بحرا أحرقت بيتي الصواعق لكن غسلت لي قلبي بذوب الضياء مزقت ثوبي الرياح ولكن نسجت من دم الشموس ردائي اعصفي يا رياح واهزئي بالسماء من يكن ذا جناح هل يهاب الفضاء ب _ قبل السفر يا صاح قل لنا، قبل أن نرفع الشراع هل لـــــــــــــــــــــــــــك متاع لأن مركبنا صغير، ليس يحمل الأشياء ســــــلي فوق جسمي رداء قل لنا يا صاح، قبل أن نجمع الرحيل هل لــــــــــــــك أهل أم قريب؟ لأن مركبنا غريب، لا يقبل غير ـــــــ بين جنبي فؤاد لا ولد ولا زوج، لا أم ولا أب وقد أثارت قصيدته العاصفة ضجة في عالم الأدب خصوصاً عندما كتب حبيب زحلاوي تعليقه في مجلة الرسالة عدد 115 على قصيدة اليازجي (عاصفة روح) يسأله هل ما ورد فيها شبيه بقصيدة ميشيل عفلق أم توارد خواطر أم غارة أدبية؟ وكتب إليه ابراهيم ناجي يستغرب قوله وينفي أي شبه بين القصيدتين , وفي العدد 118 نشرت الرسالة القصيدتين جنباً إلى جنب وقدمت لهما تحت عنوان بين ناقد وشاعر، بقولها علم قراء الرسالة من عدد مضى أن الأديب حبيب الزحلاوي اتهم الدكتور الشاعر إبراهيم ناجي بأنه استعان في قصيدته ( عاصفة روح ) بقصيدة الشاعر الدمشقي ميشيل عفلق (عاصفة ) وقد اعتبر الدكتور ناجي ذلك الاتهام تحدي وعليه أن ينشر القصيدتين في مجلة ( الرسالة ) , وأمس أرسل إلينا الناقد ومعهما نقد لاذع , واليوم بعث إلينا الشاعر بنصهما أيضاً ومعهما تعليق ساخر , فآثرنا أن نطوي النقد والتعليق بخروجهما عن خط الرسالة واكتفينا بنص القصيدتين ليحكم القراء بين الرجلين " المصدر كتابته الأولى سيرة حياته للدكتور ذوقان قرقوط ص 280. وخير ما أختتم مقالتنا بتغريدة الأستاذ حميد سعيد يوم وفاة القائد المؤسس نهاية حزيران 1989: يا مهندس روحي وسيد فكري ودليل في دروب حياتي، في ذروة الحياة وقلة زاد الوعي وحيث يصعب على المرء أن يتبين الخيط الأبيض من الأسود، وكنت ألجأ إليك فأختار المكان الذي اخترت والموقف الذي وقفت فتخرجني من حيرتي وتضيء ظلمات شكي وتمنحني من الفيضي ما يسعفني على الطريق الصواب ويقودني إلى أرض اليقين. أيها الدليل الأمين منذ نصف قرن وفكرك سيبق الدنيا إلى الحقيقة، فنم مطمئناً أيها المعلم الهادئ، يا من كلماتك بأفيائه، والضمانة التي تعصمنا من الزلل والانحراف.