بسم الله الرحمن الرحيم المشاركة السياسية الدكتور شاكر عبد القهار الكبيسي تُعد المشاركة السياسية من أهم مرتكزات الرشادة السياسية فبدونها لا يكون النظام السياسي رشيداً بل نظاماً فوضوياً متسلطاً لا يهتم بدور الفرد في مجتمعه وحقه في التأثير على مجمل الأوضاع العامة وصنع القرارات الموجِهَة للصالح العام فالفرد في النُظم السياسية الديمقراطية هو المحرّك الأساسي لجميع السياسات وغاياتها القصوى لأنه أول من يتأثر بهذه السياسات سلباً أو إيجاباً وعليه يجب أن يؤثر في دلالاتها ويشارك في صياغتها بشكل مباشر أو عن طريق ممثليه في السلطة التشريعية والتنفيذية كما له الحق في تقييم الفاعلين فيها والنتائج التي تتمخض عنها هذه السياسات. ولما كانت المشاركة السياسية تحتل هذه المكانة البارزة فقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك أهمية المشاركة في القرارات التي تخص المسلمين وحياتهم وشؤونهم بالقول ( وأمرهم شورى بينهم) و( فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) و( فإن أرادا فصالاً عن تراضٍ منهما وتشاورٍ فلا جناح عليهما) حتى أصبح مبدأ الشورى من أهم مسارات النُظم السياسية الرشيدة وضرورة مجتمعية لا يمكن أن تصح وتستقيم المجتمعات بدونها ولم يعط أي من الديانات الأخرى الحق لأحد بأن يتصدى المشهد السياسي والاجتماعي والثقافي والديني بل كانت المساواة والعدالة أساس الحكم، وبما أننا مسلمون ودين الدولة الرسمي الإسلام فشريعتنا وأحكام ديننا تُعطي للمواطن حقوقه التي يكفلها الدستور والقوانين المرعية وللمواطن كامل الحق فيها ليس منّة من أحد بل هو حقه الطبيعي المشروع لذا يستوجب أن تضمُن هذا الحق جميع القوانين والأنظمة والسياسات الحكومية وعلى القائمين عليها تطبيقها بعدالة على جميع الطوائف والقوميات والأحزاب بعيداً عن النزوع الفردي والمصلحة الذاتية والتمييز المناطقي والمجتمعي والمذهبي الّذي يُبعد المواطنين من الالتفاف حول نظامه السياسي القائم ويُضيّق مساحات المشاركة الجماهيرية حتى يُفقده شرعيته وبالتالي فإن من مصلحة أي نظام توسيع المشاركة الجماهيرية ليحظى بالشرعية والاستمرارية التي تجعل الفرد في دولته ومجتمعه مواطناً مساهماً حريصاً وصالحاً قنوعاً ومشاركاً فعالاً بممارساته اليومية التي تُظهِر دوره البنّاء في مجتمعة ودولته . يتألف مفهوم المشاركة السياسية من مقطعين هما المشاركة وتعني المساهمة في نشاط معين وعندما نلحقها بالسياسة ستعني إسهام المواطن بشكل مباشر أو غير مباشر في صنع السياسات العامة للنظام السياسي القائم وتستند المشاركة السياسية على مبدأ التعددية المجتمعية والحزبية وترعى أهمية التوجهات الإدارية والثقافية التي تستوعبها بنية سياسية قانونية توافقية وطنية مفتوحة أمام جميع فئات المجتمع حتى تُغريهم للمشاركة الواسعة في عمليات النظام مهما اختلفت وتنوعت توجهاتهم السياسية وايديولوجياتهم الفكرية ويأتي هذا المفهوم منسجماً مع طروحات (صموئيل وجون ولسون ) الذّي يُعرِف المشاركة السياسية بأنها (تعني تحديداً ذلك النشاط الّذي يقوم به المواطنون العاديون بقصد التأثير في عميلة صنع القرار الحكومي سواء كان هذا النشاط فردياً أو جماعياً, منظماً أم متقطعاً, سلمياً أو عنيفاً, شرعياً أو غير شرعي, فعَالاً أم غير فعّال) وبهذا تكون المشاركة السياسية عبارة عن نشاط سياسي مجتمعي يسعى للتأثير على صنع السياسات العامة والتدخل في ممارسة الحكومة لسلطاتها وإجراءاتها في أتخاذ القرارات الحكومية ويُمثِّل هذا النشاط سياسة مُمنهَجة تحكم آليات النظام السياسي وتُحْسِن استغلال مدخلاته للوصول الى مخرجات سياسية وإدارية وثقافية تخدم المصلحة العامة للمجتمع. إنَّ مساهمة المواطن في صنع السياسات العامة لا يتوقف عند صناعتها بل يمارس دوره في تنفيذها ومتابعة مخرجاتها والعمل على تقييمها وإصلاحها بالاستناد الى بنية النظام السياسي الديمقراطي التي تشجِّع على ممارسة حقوق المواطنة بأشكالها المختلفة والتي تبدأ بالممارسة الانتخابية وتنتهي بالمسائلة والشفافية والعدالة فلا يجوز للنظام السياسي إصدار القوانين والقرارات وفق هوية حزب السلطة في النُظم الديمقراطية التشاركية بل يجري الإعداد المسبق لذلك برلمانياً وجماهيراً وإعلامياً وحزبياً يشارك كل من له مساس بهذا القانون أو ذاك فعندما يناقش موضوع يخص الزراعة فلا بد من مشاركة كل من له علاقة بالأمر من مالك الأرض والفلاح والمستهلك للوقوف على تأثير هذا القرار على أصحاب الشأن قبل صدوره فالحكومة تسعى لكسب رضا كل من له علاقة بالأمر قبل أن تُرضي غرورها وحبها في السيطرة على الوضع واتخاذ القرارات والقوانين والسياسات العامة التي تخدم مصالح الحكومة ورجالها فالحكومة في النُظُم الديمقراطية تستمد شرعيتها من شرائح المجتمع وصناديق الاقتراع وستفقد كل ذلك إن كانت سياساتها غير صائبة ولا تلتزم بفقرات الدستور . ومما تقدّم يمكن القول أنّ المشاركة السياسية هي حقوق متعددة للمواطن كحقه في الترشيح والتصويت والانتماء الفكري وإشغال المناصب والمساهمة في العمل الحزبي والاجتماعي والثقافي وحقه في المساهمة الفاعلية في صنع القرارات العامة وحقه أيضاً في أن يُراقب وُيقيّم هذه القرارات ويضبُط مساراتها بعد صدورها من قبل النظام السياسي وفي الفكر الإسلامي تعتمد المشاركة السياسية على مبدأ الديمقراطية المجتمعية وبما عُرف بوثيقة المدينة القائمة على احترام مبدأ الحرية الفردية والعدالة الاجتماعية والتكافل والتعاون بين البشر كما لاقى مفهوم المشاركة السياسية الاهتمام لدى المفكرين الغربيين أمثال أفلاطون وأرسطو وجان جاك روسو وصامويل فيليب هونتينجتون وكارل ماركس وغيرهم ولكي تكون المشاركة حقيقية ومحفزة للنظام السياسي وللمواطن فلابد من توفر الشروط الآتية : أولاً: إقامة مؤسسات هيكلية وسياسية لأحزاب متعددة لتُمارس دورها في الإطار السياسي العام للمجتمع وهذا يستدعي وجود أحزاب سياسية تقود السلطة وأخرى تمارس دور المعارضة السياسية فيها. ثانياً: أن تكون هذه المشاركة دائمية تحكمها معايير واضحة وتُشارك فيها منظمات المجتمع المدني المدعومة في توجهاتها لتتمكن من ممارسة دورها الوطني المستقل وتحشيد الأفعال والمبادرات الوطنية السياسية والإعلامية والثقافية لتكون المشاركة غير وقتية بل دائمة وشاملة. ثالثا ً: تسعى الممارسات الديمقراطية التشاركية إلى تأطير الحريات العامة والحقوق الوطنية كالترشيح، الانتخاب، المشاركة الجماهيرية الفعلية في آليات العمل الديمقراطي، إجراءات قانونية خاصة، قوانين ومنظومة سليمة، شروط واضحة للجميع تشمل مدة التمثيل والتعددية الحزبية والعدالة وتكافؤ الفرص لكي تكون العملية الديمقراطية بنّاءة والمشاركات حرة وواسعة ونزيهة وأدواتها متطورة ومنظّمة. رابعا ً: البعد التمثيلي الّذي يتيح للسلطة التنفيذية باعتبارها ممثِلة لجماهيرها ولها الحق في تشريع القوانين والرقابة على عمل السلطات السياسية وبالتالي المساهمة في صنع سياستها العامة على المستوى الوطني. نحن نعيش اليوم أزمة واضحة في المشاركة السياسية تتسم بها أغلب الأنظمة العربية والإسلامية وستستمر هذه الأزمة كلما كانت هناك قوانين تعسفية إقصائية وعمليات تهميش وإبعاد للطرف الآخر وسلوكيات خنادق وتجمعات سياسية تلغي الحوار وتسير بمحاصصة طائفية أو حزبية وانتخابات برلمانية يشوبها التلاعب في النتائج وتوزيع للحصص إضافة إلى شيوع التأثير المالي على سير العملية الانتخابية وفساد الذمم وسرقة المال العام وظهور مفهوم دكتاتورية الأغلبية واستغلال المناصب للمصالح الفئوية والحزبية دون تحقيق أي مستوى واضح للتنمية والخدمات العامة إنّ مثل هذه السلوكيات السلبية تحجب ملايين المواطنين من حقهم في التصويت عندما تكون النتائج معروفة مُسبقة والوجوه القديمة هي التي تتكرر وتسود من جديد وكأنك يا أبو زيد ما غزيت كما يقول المثل العربي . أوسلو 30 نوفمبر 2022م