الكسندر دوغين ، وتشكيل نظام عالمي جديد .. قطبان ثنائيان !! د.أبا الحكم (دوغين) في عين الكرملين فيلسوف روسيا البارز في مجال الفكر والسياسة ، اما في عيون الغربيين وبعض المفكرين السياسيين الامريكين فهو مفكر استراتيجي خطير وخطير جداً، لأنه يمثل احد اعمدة الفلسفة القومية التي يعتقد بها ترامب وهي (الشعبوية) التي دفعت به الى قمة الرئاسة الامريكية، كما ان الشعبوية التي يحظى بها بوتين جزئيا اضافة الى المهنية الاستخباراتية قد دفعتا به الى رئاسة الكرملين وزيادة طموحاته لإعادة إرث الاتحاد السوفياتي القائم على الثنائية القطبية عن طريق (القوة) والتهديد باستخدام السلاح النووي في حالة التفكير الغربي لوقف تدفق دبابات موسكو وصواريخها وطائرات الحربية وراجماتها صوب الشرق الاوربي ، اوكرانيا. يعتقد بوتين بأن روسيا (قوة عظمى) لن تنتهج على الساحة الدولية أية سياسة تتنافى مع مصالحها الاساسية .. ويبدو انه لا يفرق بين القوى العظمى والقوى الكبرى وما يزال يعتقد بأن روسيا هي الاتحاد السوفياتي وليس روسيا الاتحادية، كما تراجعت من قبل بريطانيا العظمى لتصبح قوة كبرى بعد ان فقدت نفوذها وقواعدها العسكرية وتراجع مركزها في سلم الأولويات وبات دورها الراهن ثانويا وتابعا استشارياً للسياسة الأمريكية، فيما تقلص نفوذ باقي القوى وتراجع دورهم - الهولنديون والاسبانيون والايطاليون والفرنسيون - على المسرح السياسي الدولي، وتسيدت امريكا بقطبية احادية همجية منذ نهاية عام 1991، ولكن دورها اخذ يتراجع وينحدر، رغم سيناريوات سياسية تكتيكية بالانتشار والتموضع والانسحابات المحسوبة على مستوى السياسة والقوات المسلحة وخاصة في منطقة الشرق الاوسط وقلبها المنطقة العربية . النظام العالمي الجديد الذي لم يولد بعد، وولادته ليست سهلة، يرى البعض ان الثنائية القطبية كانت اكثر سهولة في صنع القرارات الدولية، والبعض الآخر يرى ان القطبية المتعددة هي الأكثر تمثيلاً للمجتمع الدولي، وإن قراراتها ستكون عادلة ومنصفة وقائمة على قاعدة ومنظومة مبادئ وحقائق لا احد يتجاوزها تحمي المصالح وتحمي الأمن وتعزز الإستقرار في العالم، فيما يفيد البعض الآخر بأن اصدارات قراراتها لن تكون سلسة ويسيرة بل مشحونة بالفيتو.. ويبدو، إستدراكاً لإستمرار المستنقع الاوكرانين أن موسكو طرحت في مفاوضات أنقرة على طاولة مفاوضات مع الجانب الأوكراني شرطين لوقف الحرب 1- الاعتراف بإنضمام جزيرة القرم لروسيا 2- الاعتراف بجمهوريتي (لوغاينسك ) و (دونتسيك). والتساؤل هنا، هل تتخلى اوكرانيا عن اراضيها؟ وهل ان قضم هذه الاراضي مشروع حسب القانون الدولي ومبادئ ميثاق الامم المتحدة؟ والأهم من ذلك، هل سيحقق ذلك (دولة روسيا العظمى)؟ وهل سيحقق بالتالي القطبية الثنائية التي ينادي بها الكسيندر دوغين؟ وهل ان موسكو وواشنطن سيشكلان نظاماً عالمياً جديداً؟ الكسندر دوغين صاحب النظرية السياسية الرابعة، يرى فيها الخطوة التالية في تطور السياسة الدولية بعد (الفاشية و الاشتراكية و الليبرالية)، إعتقاداً منه بان المرحلة الفاشية قد انتهت ومرحلة الاشتراكية قد اندثرت ومرحلة الليبرالية في طريقها الى التلاشي تدريجيا . ولكن دوغين ربما ينسى ان الفاشية مازالت تقبع في عمق الرأسمالية فكراً وسلوكاً .. وينسى، ان الاشتراكية مازالت مطلبا للعدالة الاجتماعية، وان الليبرالية حبيسة واقع النظم التي لا تستطيع ان تخرج برؤاها الى الهواء الطلق وتشم رائحة الحرية الحقيقية والديمقراطية الحقيقية والمستقبل الحقيقي دون خوف . الفاشية لم تنته بعد ، فهي مازالت قابعة في عقل (بوتين) حين شن الحرب على جورجيا واوكرانيا واغتصب القرم واجرى سيولا من الدم في سوريا .. الفاشية ما زالت نقطة سوداء واضحة في عقلية (بايدن) حين يريد ان يمنح النظام الايراني الفاشي فرصة امتلاك السلاح النووي بأموال الشعب الامريكي واموال الشعب العراقي لتمويل معاول التخريب في العراق والمنطقة ، وقبله كانت الفاشية الدموية تقبع في عقلية اوباما وبوش الأبن الذي شن حرباً وحشية على افغانستان والعراق دون مبرر، وتركهما نهشاً للتدمير والفوضى . دوغين ، يؤسس نظرياً لمرحلة رابعة يسميها مرحلة (أوراسيا)، ولا يدري ان القوقاز تشكيل من الصعب وضعه في سلة واحدة نظرا لتصلب القوميات وتعصب الاديان وتماهيهما على حقائق جيو- سياسية لا تتسع الى واقع جيو- ستراتيجي صارم .. هذه الافكار كانت ومازالت متداولة منذ عقود وقبل انهيار الاتحاد السوفياتي، واللآعبون الاقليميون يرونها (كياناً) واللآعبون الدوليون يرونها (مسرحاً) لإستراتيجياتهم الكونية . قامت فكرة (دوغين) على الدعوة الى إنشاء قوة عظمى أوراسية عبر دمج روسيا مع الجمهوريات السوفياتية المنفرطة السابقة في (إتحاد أوراسي) جديد لتنضم اليها بلدان اخرى مهمة ولتشكل مركز القرار الدولي وقوة اقتصادية وسياسية ضاغطة، وتلعب ادوارا مهمة في تطوير أليات التفكير السياسي الروسي.. الذي يقصده دوغين بالمركز الاوراسي هو إحياء الاتحاد السوفياتي على خلفية ايديولوجية جديدة ترتكز على الجيو- سياسة وقاعدة اقتصادية متنوعة، كما ترتكز على ما يسمى (الآيديولوجيا الاجتماعية المحافظة) بدلاً من (الليبرالية الديمقراطية الغربية) في اطار مشروع الاتحاد الاوراسي، يقوم على نواة (روسيا وبيلاروسيا وكازاخستان) وعدد من بلدان آسيا الوسطى والبلدان المحيطة، الأمر الذي سيجعل روسيا (قطباً) اساسيا في ميزان تعادل القوى .. بمعنى العودة الى الثنائية القطبية التي من الضعب تحققها لإنعدام المقومات والشروط الذاتية والظروف الموضوعية الدولية ، فضلا عن رفض بيلاروسيا وكازاخستان فكرة (الاتحاد السياسي الكامل)، الأمر الذي جعل الفكرة تنحسر الى فكرة اخرى مصغرة سميت بـ(الاتحاد الاقتصادي الاوراسي).!! نعود الى القطبية الثنائية التي يُنَظِرُ لها (دوغين) وربما ، يتبناها بوتين .. ان من التحولات التي ظهرت خلال الفترة (1999-2010) ، الليبرالية الجديدة وغياب الاستقطاب الآيديولوجي الدولي لتقسيم العالم كما غابت صراعات القوة الخشتة تقريباً (Hard Power) واستبدلت بصراعات القوة الناعمة (Soft Power) . وتحولات القوة هذه ، ليست في معناها العسكري، إنما في معانيها السياسية والاقتصادية والانتاجية والتسويقية وإدارة أزماتها بفاعلية (Soft Power)، فضلاً عن القوة التكنولوجية الواعدة العابرة للقارات . كما ان طبيعة (التحالفات) باتت تتغير من التحالفات العسكرية الصرفة الى التحالفات الاقتصادية ذات الطبيعة الضامنة لفعل السياسة وضغوطها العسكرية القصوى.. وعلى الرغم من هذه التحولات في واقع النظام الدولي نحو التعددية القطبية بعد تفكك القطبية الاحادية الامريكية، فأن بقايا مفاهيم تجمع بين استخدام القوة الخشنة والقوة الناعمة في منهج واحد قد تكون الولايات المتحدة تستخدمه او تحاول استخدامه إن اقتضت الضرورة . بيد ان مثل هذا الاستخدام يكون مكلفا ومنهكا سياسياً . إن الثنائية القطبية ، كما يراها البعض قد حققت استقرارا نسبيا في العلاقات الدولية، يقوم على توازن القوى، لكن توازن القوى لا يعمل إلا في نظام ثنائي القطبية. ولما كانت القطبية الثنائية تقوم على مقومات محددة ومعروفة تقع في مقدمتها 1- القاعدة الاقتصادية 2- التنافر الآيديولوجي 3- الاستقطاب الدولي المحوري 4- الحرب الباردة 5- التعايش السلمي .. هذه المقومات لم تتحقق في ظل الرغبة الروسية، لا في التكامل الاقتصادي الـ(كتلوي) ولا في التجانس السياسي ولا في التكتل الجيو- استراتيجي ولا في وحدة الرؤى حول الصراع في العالم .. فكيف التسليم بأن روسيا قوة عظمى؟ ليس كل من يمتلك انيابا ذرية قوة عظمى..فرنسا وبريطانيا تمتلكان سلاحاً نوويا، ولكنهما ليستا قوتان عظمتان إنما قوتان كبرتان .. القوة العظمى تكمن في المقومات الكاملة الشاملة من القمة الى القاعدة .. الصين ليست دولة عظمى في عرف تكامل عناصر القوة الشاملة ولا روسيا الاتحادية ولا اوربا .. فعناصر القوة ليست عسكرية وحدها تمتلك انيابا ذرية، إنما قاعدة اقتصادية وواقعا جيوبوليتيكاً متكاملا ومتجانساً ومنهجاً ثقافيا ورؤية كونية للصراع في ادق مفاصله.. لم تصل روسيا ولا الصين الى مستوى التكامل والتجانس في عناصر القوة .. فيما نرصد انحسار القوة الامريكية وضمور بعض مفاصلها وبروز هشاشة هياكلها رغم انها تتسيد السياسة الدولية، وان قيادتها الليبرالية الغربية المتوحشة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي نهاية عام 1991، قد وضعتها على طريق تفسخ اطروحاتها على ارض الواقع، فيما بات العالم من حولها مأزوماً.. فالنماذج المقابلة للليبرالية الغربية هي نماذج آيديولوجية تمثلت بالاتحاد السوفياتي والصين .. الاخيرة تحولت الى نصف رأسمالية عن طريق الاستثمارات الرأسمالية الغربية، اما الأولى فقد انهارت وعافت ايديولوجيتها ولم تعد اشتراكية ولا رأسمالية إنما دولة قومية تسعى الى تحقيق (المجال الحيوي) جيو- استراتيجيا وقاعدتها النظرية الاتحاد الاوراسي، وقد سبق للمفكر الامريكي من اصل بولندي (زبيغنيو بريجنسكي) مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق ان تحدث بصورة موسعة بشأن الأوراسية. صناعة الكسندر دوغين الايديولوجية لا يصلح تكريسها في نظرية القوة التي يريد تطبيقها نظريا، كما يريد بوتين لملمتها جيو- سياسيا في محيطه القريب وجيو- استراتيجياً في مجاله الحيوي .!!