أحمد ميشيل عفلق: عبقرية حالمة واقعية علمية الأستاذ الدكتور كاظم عبد الحسين عباس/ أكاديمي عربي من العراق كان التصحر والجفاف الفكري للعرب هو أحد أهم سمات عصر الانحدار والركود الذي تلا حقبة النهضة الأعظم في التاريخ العربي المتمثلة بصدر الإسلام ونزول القرآن الكريم الذي مثل معجزة الإسلام الربانية بمحتوياته اللغوية والقانونية التشريعية والاجتماعية والسياسية، وتلاه عصر الخلافة ومن ثم المحطات المشرقة في تاريخي الدولة الأموية والدولة العباسية التي انتهت بوقائع سلبية أكثر منها إيجابية وأطلت حقبة وعصر التراجع والركود. صار العرب في حقبة ما بعد الدولة العباسية قوماً مستلبين تؤطر حياتهم عوامل الجهل والأمية وتوقف النتاج العقلي توقفاً شبه تام عند حافات منتجات عصر النهضة ومن بين ما تثبت في سطور تاريخهم المتردي هو انعدام الباحثين والمفكرين الاستراتيجيين وسيطرة الفكر المستورد والمنتجات التي ابتكرتها عقلية الغرب الصناعية في ثورتها المشهودة وكلاهما، الفكر والمنتجات المستوردة، قد وضعت العرب المتوقفين عن الإبداع والمسايرة أمام عجز ذاتهم وقصور فعلهم فزادت مقومات الاستكانة والركون فتعمق التخلف وصار واقعاً يقبله العربي ويتعايش معه كواقع حال وأمر واقع تضاءلت فرص الإفلات منه. أحمد ميشيل عفلق، الباحث العبقري، جاء صوتاً يهدم بنتاجه الفكري عبر رسائله وخطبه ومحاضراته مكونات الواقع المستكين المتخشب وعوامل الاستسلام. صوتاً يحمل عوامل الثورة العربية وأسسها وطرائقها. بعض عبقرية الرفيق القائد المؤسس تبرز في صياغة الفكر القومي من بين أجزاء ومكونات ركام الهوان القومي وفقر التحدي، فلقد كان المرحوم أحمد ميشيل عفلق متمكناً في تحريك الطاقات الساكنة في قعر صدر الأمة من خلال تحويل عاهة التجزئة إلى بؤرة ثورة هي ثورة الوحدة التي وجدت مساحات استقبال هائلة على مساحة جغرافية الأمة وعقول أبنائها. وحول ثورة الوحدة إلى حاجة تقف شاخصة أمام توق العرب للقوة والمنعة والخروج من مغارات وكهوف الاستكانة والركود والسكون والجمود والتخلف. بل تمكن بعبقرية متفردة من جمع كل عوامل كينونة الوحدة وصيرورتها فجعل منها هدفاً متحققاً قائماً كائناً وفي الوقت نفسه هدفاً يظهر شاخصاً في مسارات التحقق المستقبلي. وتمكن القائد العربي أحمد ميشيل عفلق من جعل هدف الوحدة طاقة كامنة تتفجر لتصهر جمود الفكر وتصنع من الظلام الدامس فجراً يطلع علينا كل يوم وغموس غذاء نأكله مع وجباتنا وشربة ماء تدفع ما قد حشر في بلعومنا من زاد. جعل الوحدة ضرورة يومية كالغذاء والماء والدواء. وبعض عبقرية القائد المؤسس تعلن عن نفسها في عدد البحوث والدراسات التي نشرها للعرب في زمن كان التيه والعبث السياسي يعصف بهم، فكل مقال أو محاضرة نطالعها من زمن حقبة التبشير لولادة البعث ولحقبة ما بعد الولادة كانت بمثابة بحث علمي تم استنباطه من عقل الأمة الذي تم تجميده ومن أمهات بحوث الفلسفة التي أنتجت عصر النهضة في العالم، فكان أول فيلسوف باحث علمي عربي يجيد بكفاءة نادرة التأسيس لفكر جديد من واقع قائم مرفوض ويهذبه بتطلعات الأمة وحاجاتها الإنسانية، ولبحوثه (منتجاته الفكرية) تسلسل منطقي رياضي هندسي يفضي إلى إنتاج الأسس والقوائم ويفضي في الوقت نفسه إلى تعبئة ما بينهما من فجوات ومساحات بضوابط التحول الطبيعي الواقع بين تعريفات مبهرة تحمل بريق الجديد ومكنون الصلة العميقة بالإرث والتاريخ والحضارة العربية. مزاوجة عجيبة بين لمعان الجديد وبين عبق المتداول في معنى القومية وافقها الذاتي والإنساني وفي كونها هوية أزلية ورسالة تصنع الغد. يستطيع أي باحث سياسي استراتيجي الآن أن يصنع قاموساً من مصطلحات احتوتها منتجات الرفيق القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق ويكون منها سلاسل ثورية علمية تقدمية تقدم للعربي المتطلع للحرية طريق البعث للحرية وتقدم للعربي المناضل من أجل لقمة العيش والكرامة سبل الارتقاء بحياته الفردية والجمعية عبر اشتراكية مضمونها عربي ومساراتها عربية وبعض أساساتها ومقوماتها إيمانية تنتج من فهم رسالة الإسلام والتوق المحمدي العظيم للعدل والمشاركة ولا تنأى عن الاشتراكية العلمية ولا تخضع في ذات الوقت لتعسفها ومواقع عوقها. إن أي باحث علمي في أي مجال من مجالات وأي تخصص من تخصصات العلم يعرف معنى العقلية العلمية التي تستنبط وتكييف وتجمع وتحلل وتستنتج لتطرح صيغاً جديدة للحياة، الرفيق أحمد ميشيل عفلق باحث علمي عبقري، مسك الماضي وأسس للحاضر وطالت بصيرته أفقاً لا متناهي لغد الأمة فجاء بالوحدة والحرية والاشتراكية حلولاً لا يمكن لعربي أن يتنكر لها ولا أن يلغيها كلاً أو جزءاً من مسارات الصيرورة العربية الجديدة ومنح البعث بعداً إنسانياً وفكراً متقداً وديمومة عجيبة في مفهوم الرسالة العربية الإيمانية الخالدة. لقد وصف المرحوم أحمد ميشيل عفلق للأمة كيف تعود لذاتها وكيف تنهض في حاضرها وكيف تتجدد حتى تعود تمسك زمام أمرها وتعطي لذاتها وللإنسانية، ووصف لها حاجة الوصول عبر الفضاء الجغرافي الكبير وتكامل الثروات المادية والبشرية وعبر انطلاقة طاقات الفرد والأمة بالحرية والديمقراطية إلى موقع الدولة العظمى، وصف وقدم القرائن وصنع وشارك في صناعتها فربط العبقرية الفكرية والفلسفية بمجريات سير حياة العرب في تجارب وحدوية وثورات تنموية تغييرية مجيدة وقناعة راسخة بقدرة الإنسان على الانقلاب على ذاته.