في ذكرى رحيل القائد المؤسس رحمه الله اكتشاف الماضي بقلم: حميد سعيد* ظل الماضي في جميع مشاريع النهضة، لدى الأمم والشعوب التي حققت حضوراً تاريخياً مؤثراً، ما يمكن أن نصفه بالإشكالية، وهي إشكالية فكرية وعملية في آن واحد، وهذه الإشكالية كانت ومازالت أكثر احتداماً، لدى الأمة العربية، فإذا كان العرب، قد أفصحوا عن طاقات حضارية فاعلة، أنتجت حضارات، شكلت البدايات الحقيقية للحضارة والتاريخ الإنسانيين، ومعها ظهرت أسئلة الوجود الأولى، التي قادت إلى التوحيد في وقت مبكر جداً، كما شهدت أولى مبادرات الإنسان في مجال إغناء الحياة وإبعادها عن بدايتها فكانت الحضارات التي وحدت بين متطلبات الجهد ومتطلبات العقل، وكانت المدينة ونظمها الإدارية وقوانينها الاجتماعية تتكامل مع النشاطات الإنسانية في النحت والرسم والشعر والموسيقى وغيرها. لم تكن الأمة العربية حالة استثنائية في أن تكون وريثة مثل هذا التاريخ، وما أنتج من حضارة على الصعيدين المادي والعقلي، لكنها، عرفت تجربة تاريخية استثنائية مع أولى دعوات التوحيد والتي ستتواصل وتنضج، ومعها ينضج العقل الإنساني، ويتعمق الشعور بالمسؤولية لدى الإنسان، وذلك من خلال تلك الملحمة العظيمة المتمثلة في الإسلام، والذي انتقلت معه الأمة إلى ذلك التكامل الذي كانت فيه الروح قوة محركة للواقع، ووضعت التجربة الحضارية التاريخية على طريق الدور الرسالي، وكانت من نتائج هذه التجربة التاريخية الاستثنائية، تلك الوحدة بين التاريخ والرسالة، وهذا ما جعل إشكالية الماضي لدى الأمة العربية أكثر احتداماً. إن هذه الوحدة بين التاريخ والرسالة، جعلت تقويم النهضة، لدى الأمة العربية غير تابع لتقويم النهضة في الغرب وإذا كانت النهضة لدى أية أمة من الأمم هي محاولة تحقيق غد أفضل فإن الغد الأفضل بالنسبة للأمة العربية، هو تحقيق الروح العربية كما تحققت مع فجر الإسلام، وهذا تقويم مستقل. لكن لابد من الاعتراف، بأن محاولات التحديث في الحياة العربية، وتوجهات مشروع النهضة العربي المعاصر، الليبرالية منها أو الأصولية، وبخياراته القومية أو الدينية أو القطرية، لم تدرك إمكانية أن يكون تقويمها غير تابع لتقويم النهضة في الغرب، ولذلك فإنها لم تكن بعيدة عن المؤثر الأجنبي الغربي، سواء بالتقليد والاستنساخ، أم بالرفض والانغلاق، أي أنها كانت ترفض حالة تخشى منها وتنغلق على الذات بسبب عامل الخشية الذي أشرنا اليه، وأن هذا الموقف من الآخر، يعبر عن إحساس بالضعف، لأنه يفرط بقوة الماضي بسبب عدم إدراكها.. وفي حالتي التقليد والاستنساخ والرفض والانغلاق، كان الحوار غائبا، وحتى حين يتحقق الحوار مع الآخر، فإنه لم يتسم بالموقف النقدي العميق أو يعبر عن الإحساس بالتكافؤ، ولذلك فقد كان على الأغلب يتخذ مسارات تبريرية، فبعضهم يبرر التقليد ويدافع عنه وبعضهم الآخر يبرر الانغلاق ويسوغه، وفي النتيجة نجد أن أصحاب الموقف الأول يعترفون بالضعف الذاتي، وأن أصحاب الموقف الثاني يزينون المؤثر الأجنبي. ولو تأملنا في الموقفين لوجدنا أنهما يحملان الكثير من مقومات التطابق بالرغم من انهما ينطلقان من تناقض واضح. ويبدو لي أحياناً، أن روسيا، عبر مشروعها السوفيتي كانت ضحية، تجاوز مقومات تجربتها التاريخية، إذ حاولت أن تقيم نهضتها على مقومات غريبة عنها، وافتعلت صراعاً مع الروح الروسية، التي احتاجت إليها أبان الغزو الهتلري وها هي الآن تقف في مواجهة الحلف الليبرالي الصهيوني.. وهي الأخرى قد اكتشفت أن ما تحقق من إنجازات أبان المرحلة السوفيتية لا يمكن إلا أن يكون امتدادا للتاريخ الروسي. في توجهات مشاريع النهضة العربية، كانت إشكالية الماضي حاضرة باستمرار، وكان الخلاف واضحا في النظرة إلى الماضي والتعامل معه، ولذلك فقد شهدت ذات المرحلة الزمنية، من يتعبد في محراب الماضي ولا يرى فيه نقصاً، ومن يرفضه ويتبرأ منه ولا يعترف له بأي دور في التحديث والنهضة. وفي احتدام هذا الخلاف، جاء موقف الأستاذ عفلق، ليس لتغليب رأي على آخر، أو ليقف في الوسط ليقرب بين الموقفين ويقيم صلحاً رخواً، بل عبر عن موقف جذري وجديد، إذ رأى أن الذين يتمسكون تمسكاً شكلياً بالماضي والذين يرفضونه، إنما يفتعلون قضية وهمية لأن "المشكلة النظرية التي تقوم في أذهان البعض، على الاختلاف بين الاستمساك بالماضي والتحرر منه، هي مشكلة وهمية، يكفي لتبريرها أن توضح، فالماضي الذي تحن إليه الأمة، وتجد فيه ثروة لها وقوة، هو الزمن الذي تحققت فيه روحها، والمستقبل الذي يناضل التقدميون في سبيل بلوغه، ليس إلا ذلك المستقبل الذي تستطيع فيه الروح العربية، أن تتحقق من جديد" (1). "ولكن بينما يحسب البعض أن هذا السير نحو تحقيق الروح العربية، يجب أن يكون رجوعاً وهبوطاً، أي إيغالاً في الجمود والشكليات، يرى التقدميون أنه يجب أن يكون سيراً حراً صاعداً، وبتعبير آخر يريد الفريق الأول أن يصل إلى الروح، عن طريق الأشكال الميتة، بينما يسلك الفريق الثاني، الطريق الطبيعي الصادق، وذلك بالانعتاق عن كل ما هو جامد وميت، وباستثارة كوامن الحيوية وروح الحرية والمسؤولية في نفوس العرب، وبينما يعتبر الأولون الماضي منحة وهبة تكافأ بها العبودية والجمود. يرى الآخرون في الماضي، استحقاقاً لا يبرره إلا النضال الصاعد والمواهب المنطلقة، فالروح لا ترجع ولا تهبط ولكننا نحن الذين نتقدم نحوها ونرتقي إليها لنلتقي بها" (2). وحين يكون الماضي، لدى الطرفين، الذين تمسكوا به تمسكاً شكلياً، أو الذين رفضوه، مجرد زمن، رآه أصحاب الموقف الأول على أنه مات وانتهى وشيعت جنازته، رآه أصحاب الموقف الثاني على أنه كان نهاية كل شيء، وأن ما جاء بعده ينبغي أن يكون تابعاً له، وهنا تكون إشكالية الماضي، لدى الأمة العربية اكثر احتداماً كما أشرنا إلى ذلك من قبل، بسبب ارتباط العروبة بالإسلام، والذين لم يدركوا هذه الحقيقة يتوهمون أن المسؤولية الناتجة عن الوعي، تسيء إلى الإسلام أو تتقاطع معه. إن هذا الموقف يعبر عنه عادة، أولئك الذين لا يرون من الإسلام إلا الجانب الطقوسي فيه، ولم يفهموا حقيقة أن يكون الإسلام خاتمة الرسالات السماوية وما فيها من إشارة واضحة إلى نضج الإنسان من جهة ووصوله إلى مستوى تحمل المسؤولية، وإلى نضج الأمة ووصولها إلى إمكانية تحمل أعباء دورها الرسالي من جهة أخرى. وإذا كان الذين وقفوا من الماضي موقفاً إيجابياً، لم يتجاوز حدود رؤيته من خارجه، بوصفه زمناً جميلاً ومجيداً، ومن ثم تحويله إلى قصص ساحرة تثير الخيال وتحرك العواطف، فإن القائد المؤسس وقد حسم حقيقة التواصل التاريخي، قد اكتشف الماضي في المشروع القومي، عبر عاملين، الأول هو الفعل الحضاري والثاني هو الدور الرسالي، وللمرة الأولى، يوحد المشروع البعثي من خلال فكر مؤسسه التاريخي، بين الثورة العربية، والدور الرسالي للأمة والرؤية الحضارية.. وهو لم يكتشف إمكانية، أن تكون روح الرسالة محركاً للأمة العربية في نهضتها الجديدة.. فحسب "أن حركة الإسلام المتمثلة في حياة الرسول الكريم، ليست بالنسبة إلى العرب حادثاً تاريخياً فحسب، تفسر بالزمان والمكان والأسباب والنتائج، بل أنها لعمقها وعنفها واتساعها، ترتبط ارتباطاً مباشراً بحياة العرب المطلقة، أي أنها صورة صادقة، ورمز كامل خالد لطبيعة النفس العربية وممكناتها الغنية واتجاهها الأصيل، فيصح لذلك اعتبارها ممكنة التجدد دوماً في روحها، لا في شكلها وحروفها، فالإسلام هو الهزة الحيوية التي تحرك كامن القوى في الأمة العربية، فتجيش بالحياة الحارة، جارفة سدود التقليد وقيود الاصطلاح مرجعة اتصالها مرة جديدة بمعاني الكون العميقة" (3). بل لقد رأى أن تكون روح الرسالة، محركا لنهضة العرب، شرطا نضاليا، لا يتحقق إلا بالعمل والصبر والتضحيات، إذ "كان انتسابنا لأجدادنا الأبطال انتسابا رسميا لا أكثر، واتصال تاريخنا الحديث، بتاريخنا المجيد، اتصالا طفيليا لا عضويا، اليوم يجب أن نبعث فينا الخصال ونقوم بالأعمال التي تبرر نسبنا الرسمي ونجعله حقيقيا مشروعا، يجب أن نزيل ما استطعنا من حواجز الجمود والانحطاط حتى يعود الدم الأصيل المجيد فيتسرب إلينا، يجب أن ننقي أرضنا وسماءنا، حتى تستأنس أرواح الجدود الأبطال، فتهبط إلينا وتستطيب الهيمنة فوقنا" (4). إن اكتشاف الماضي في فكر القائد المؤسس، وفي مشروعه القومي، لم يكن حالة مجتزأة، أو كأنه الجهد الوحيد في مجال الاكتشاف، بل هو جزء من منهج اكتشاف لديه، أو لنقل هو جانب من اكتشاف أشمل، هو اكتشاف الحياة، بجميع حقائقها "وعلى كل فرد أن يستكشف قوانين الحياة في حياته من جديد" (5). ومع، اكتشاف الماضي، كان قد أكتشف تقاليد الحوار، في الحضارة العربية، وقبل ذلك، كان قد اكتشف أن الإيمان، ليس إرثا، يرثه الأبناء عن الآباء، ومثل هذا الإيمان الموروث هو إيمان سلبي قد يتوفر للإنسان بدون جهد، ولذلك فهو لا يحرص عليه، وأن الإيمان يتعمق بالجهد العقلي والعملي. إن الذين رأوا الماضي، ولم يكتشفوه، وكانت رؤيتهم خارجية وسطحية، لم تتعمق بالحوار والموقف النضالي، دفعتهم هذه الرؤية إلى سلفية مغلقة وسلبية، أما الذين تجاوزوا ذلك الماضي وعجزوا عن اكتشاف مقومات الحركة فيه، فقد كان أمامهم خيار واحد هو خيار تقليد الآخرين، تقليد الغرب الليبرالي أو تقليد الغرب الماركسي.. ذلك لأنهم افتقدوا تقاليد الحوار ووعيه، ومارسوا النقل الجامد والاستنساخ الحرفي، بينما كان المشروع النهضوي في فكر القائد المؤسس، قوميا، منفتحا على الحوار، الحوار مع الماضي، الحوار مع الذين يتمسكون به تمسكا شكليا، الحوار مع الذين يرفضون الماضي، الحوار مع جميع الاتجاهات الفكرية التي سبقت البعث أو رافقته في الظهور.. وأن السمة الثابتة التي ميزت فكر القائد المؤسس منذ بواكيره الأولى حتى نهاياته، أنه ظل منفتحا ومحاورا ومنتجا للأسئلة الكبيرة، وفي ذات الوقت كان يقدم إجاباته على اعقد القضايا والإشكاليات الفكرية والعملية بعمق ووضوح، وإذا كان الحوار يتواصل في فكره، مع المعضلات والقضايا النظرية ومسائل الواقع الكبرى، فأنه، لم يكن باحثا أكاديميا أو منظرا، بل كان يمارس الفكر من ذات الموقع الذي يمارس فيه النضال، ولعل القائد المؤسس كان رائدا على صعيد وضع العمل النضالي في مستوى الخلق والإبداع "إن النضال الحقيقي لا يكون في يوم من الأيام هدما وسلبية وتنكبا عن العمل، بل هو خلق وبناء وعمل إيجابي مثمر" (6). ولأن الفكر، ليس جهدا معزولا عن دوره، وما كان في دور الأمة الرسالي ترفاً، ولا ينبغي أن يكون كذلك فأنه مطالب بأن يكون في مستوى القضايا التي يعالجها. "فالمعرفة لا تكون صحيحة إلا إذا امتحنت بالعمل، فالعمل يغنيها ويصححها، إن نضال الأمة العربية، نضال طويل لم يبتدئ مع حركة البعث ولن ينتهي معها، وكل ما في الأمر أن هذه الحركة خرجت من حاجات أمتنا في مرحلة معينة، لتستفيد من التجارب السابقة، ولترتفع إلى مستوى النضال الذي يتكافأ مع عظم قضيتنا، وعظم أهدافها ومع عظم الأخطار المحدقة بها، ومع روح هذا العصر" (7). وحين يكون الفكر والعمل، يعبران في أن واحد، عن المعاناة، ويصدران عنها، فذلك دليل على أن المنطق الخاص لحركة البعث.. هو تأكيد أنها حركة تاريخية، بمعنى أنها صورة للامة في نهضتها ومثاليتها ودورها.. وهذه الحركة محاولة جادة ومخلصة لأن تكون الطريق إلى واقع عربي جديد، متكافئ مع تاريخ الأمة وقدرها.. لقد أشار القائد المؤسس في عام 1950، في الحديث الذي ألقاه بمكتب الحزب في دمشق، بمناسبة زيارة قام بها بعض شباب البعث الجامعيين من بيروت إلى مكتب الحزب.. إلى حقيقة مهمة جدا، وما كان لأحد أن يكتشفها إلا بتوفر شرط الاكتشاف العميق لماضي الأمة.. ذلك أن ارتباط النهضة القومية، بخصوصية فكرية قومية، لا يعني الانغلاق ولا يعني التعالي أو العنصرية، وحين تكون الأمة "ليست كالأمم الثانوية في التاريخ، فهي تذكر بأنها حملت رسالة إلى العالم، وتعرف كيف تمزق كل الأثواب الكاذبة التي يحاولون إلباسها إياها" (8)، فلا يجوز لها، ولا يصلح لها أن تقع في تقليد الآخرين والتشبع بالمحاولات، التي تنشر الاستعجال في النجاح الرخيص. إن هذه العلاقة العميقة والصادقة، بين الأستاذ ميشيل عفلق، وتاريخ الأمة، حيث ارتبطت المعرفة بالحب، قد أنتجت رؤية جديدة لعلاقة العروبة بالإسلام.. ذلك لأنه، لم يفكر بالعروبة معزولة عن تاريخها ورسالتها، ولم يفكر بالإسلام معزولا عن مهاده التاريخي، وإذ كان يتواصل مع تاريخ الأمة، ويبحث عن طريق إلى نهضتها بعد كبوة طويلة نسبيا، فكان لابد من أن يرى عظمة العروبة في الإسلام، وأن يرى الإسلام فكراً وإيماناً وإنجازاً وهو يمثل أكثر صفحات التاريخ العربي أهمية وإشراقاً.. وإذا كانت علاقة العروبة بالإسلام، قد ظلت تتوفر على قدر كبير من الحضور لدى المفكرين النظريين أو لدى مفكري مشاريع النهضة القومية العربية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، فأنها قدمت على أنها ثنائية متناقضة، أو أنها ثنائية متكاملة، لكل منهما خصوصيته ولذا فأن تغليب دور العروبة أو تغليب دور الإسلام في طروحات الفكر المجرد أو في مشاريع النهضة، كان يختلف من مفكر إلى آخر ومن مشروع إلى آخر. إن القائد المؤسس، هو المفكر الوحيد من بين مفكري مشاريع النهضة القومية، الذي حسم قضية الوحدة العضوية بين العروبة والإسلام، وما كانت عروبة الإسلام، إلا نتيجة للمستوى الذي بلغته الأمة إبان عصر الرسالة، ونتيجة استعداد أبنائها لتحمل ذلك الدور التاريخي الانقلابي الخطير.. "فملحمة الإسلام لا تنفصل عن مسرحها الطبيعي الذي هو أرض العرب، وعن أبطالها والعاملين فيها وهم كل العرب، مشركو قريش ضروريون لتحقيق الإسلام، كالذين أيدوه ونصروه، إن الله قادر على أن ينزل القرآن على نبيه في يوم واحد، ولكن ذلك الذي اقتضى أكثر من عشرين عاما، وهو قادر أن ينصر دينه، ويهدي إليه كل الناس في يوم واحد، ولكن ذلك لم يتم في أقل من عشرين عاما، وهو قادر أن يظهر الإسلام قبل ظهوره بعشرات القرون، وفي أية أمة من خلقه، ولكنه أظهره في وقت معين وفي حينه، واختار لذلك الأمة العربية وبطلها الرسول العربي، وفي كل ذلك حكمة، فالحقيقة الباهرة التي لا ينكرها إلا مكابر، هي إذا، أن اختيار العرب لتبليغ رسالة الإسلام، كان بسبب مزايا وفضائل أساسية فيهم، وأن اختيار العصر الذي ظهر فيه الإسلام كان لأن العرب قد نضجوا وتكاملوا لقبول مثل هذه الرسالة وحملها إلى البشر" (9). وليس من العسير، تمييز النظرة الخاصة، التي نظر من خلالها الأستاذ، إلى عروبة الإسلام، حتى لو قارنا هذه النظرة بنظرات أكثر الأشخاص تطرفا في الدفاع عن عروبة الإسلام، فلم تكن عروبة الإسلام في نظرته، من خلال المعنى النصي، أو الوصفي، وإنما من خلال تأكيده أن الإسلام تعبير عن نضج الأمة وتطلعاتها العميقة، وهو المعبر عن روحها وعبقريتها، وهو خلاصة تجربتها الحضارية التاريخية وتوجهاتها الإيمانية، الذي أنتج اللقاء بينهما، دور الأمة الرسالي. إن اكتشاف الماضي في تجربة وفكر الأستاذ، يكاد يقترب من تلك اللحظات التي اكتشف فيها المسلمون الأوائل، المعاني التي انتقلت بهم، من ضجيج التساؤلات وشكوكها إلى يقين الإيمان واستقرار الضمير.. وإذا كان من بين الفروق الأساسية بين الذين استجابوا لنداء الرسول العربي وبين الذين أبوا واستكبروا هو الوعي الناتج عن التفكير والأمل في الحقائق، وليس، كما يذهب بعضهم إلى فروق قد تكون، فعلت فعلها، في الاستجابة أو الرفض، ولكنها لم تكن عاملا أساسيا، مثل الغنى والفقر، وتوفر المكانة الاجتماعية أو فقدانها، وضعفها أو قوتها، بدليل أن بين الذين استجابوا لذلك النداء التاريخي العميق، من وجوه القوم وسادتهم وفرسانهم، كما استجاب له فقراء وعبيد ومهمشون، وتتكرر هذه الصورة في محيط الذين رفضوا الاستجابة.. إذ كان بينهم فقراء وعبيد وصعاليك. وفي النص القرآني الكريم، كما في النص التاريخي، تتكرر حجة الذين رفضوا الاستجابة للدعوة، بأنهم لا يريدون مغادرة ما وجدوا عليه آباءهم.. أي أنهم لا يريدون الاحتكام إلى الوعي، بل يتشبثون بالسائد والموروث والقائم. ولأن القائد المؤسس، قد نشأ في بيت يدين بديانة أخرى غير الإسلام، فقد كان عليه أن يبذل جهدا فكريا حقيقيا، وأن يتوفر على استعداد وصدق عميقين، لتكون من وسائل ذلك الاكتشاف. وهنا لابد من الإشارة إلى أن المحيط الاجتماعي والبيئة الأسرية، سواء في علاقاتها اليومية أو في توجهاتها الوطنية كانت قد ألغت تماما جميع مقومات العزلة والتعصب والانغلاق وكان العامل الحاسم هو الوعي، وهذا يؤكد ما أشرنا إليه بشأن، اكتشاف الإسلام من قبل الأستاذ عفلق واقترابه من الحالة التي انتمى فيها المسلمون الأوائل إلى الإسلام، إذ لا يكون الاكتشاف بالسكون والكسل والسلبية والانصياع للموروث وتقاليده، بل هو اكتشاف يأتي من الحب والجهد، وإذا كان الأستاذ عربياً بالانتساب والمحيط والوعي، فقد أحب العروبة، وأن الذين يحبون العروبة بعمق وصدق، يحبون الإسلام وإلا كيف يمكن أن يفرط من يحب العروبة بأعظم أمجادها، دورها الرسالي، أو أن يفرط بما قدمته لنفسها وللآخرين من خلال الإسلام، وهنا يتحقق الفرق الشاسع والجوهري بين انتماء موروث، وانتماء يأتي عن طريق التأمل والجهد والإيمان العميق. ومن الظواهر التي ينبغي ألا تغيب عن عقولنا، ظاهرة اقترنت بالإسلام على امتداد الزمن، وهي أن أعظم الدعاة الإسلاميين وأبرز المفكرين وأكثرهم تأثيرا، هم الذين حاولوا قراءة الإسلام بالجهد والتأمل، وليس بالتكرار والنقل فقط. يقول القائد المؤسس: "كثيرا ما قيل لنا.. مادامت نظرتكم إيجابية وما دمتم تعرفون قيمة الدين، فما الفرق بيننا وبينكم؟ الفرق كبير جدا، هو الفرق بين النقيضين، نحن نعتبر أن الرجعية الدينية تؤلف مع الرجعية الاجتماعية، معسكرا يدافع عن مصالح واحدة، وأنها أكبر خطر يهدد الدين، إن هذه الرجعية التي تحمل لواء الدين في يومنا هذا وتتاجر به وتستغله، وتحارب كل تحرر باسمه، وتدخله في كل صغيرة وكبيرة، لكي تعيق الانطلاقة الجديدة، وهي أكبر خطر على الدين، وهي التي تهدم مجتمعنا وتشوهه، فلو لم نكن نحن، ولو لم تكن حركتنا موجودة، لتهدد المجتمع العربي بأن يشوهه الإلحاد، إذ أننا بمقاومتنا الجريئة المؤمنة منها، ننقذ مجتمعنا من تشويه الإلحاد" (10). إن الإشارة التي جاءت في مقولة القائد المؤسس، إلى رجعيتين دينية واجتماعية، حيث تؤلفان معا معسكرا يدافع عن مصالح واحدة، تعني في تصوري، أن مكونات الأولى فكرية محض، فسلبيتها وافتقادها إلى الحيوية والوعي، يجعل منها على الضد من جوهر الدين، لأن الذي لا يفهم الحاضر لابد أن يخطئ في معرفة ذلك الجوهر. إذ لم ير بعضهم من الإسلام، إلا كونه مجرد دين سماوي، وهذه الرؤية قادت إلى فهم ناقص، يعزل الواجبات عن أهدافها والفروض عن معانيها، فتتحول إلى طقوس مفرغة من جوهرها، بينما رأي بعض آخر أن ظهور الإسلام، كان نتيجة لتطور المجتمع العربي في الجزيرة العربية، وحاضرته السياسية والاقتصادية والدينية، مكة وأنه مرحلة من مراحل تطور الواقع العربي، في الفكر والممارسة.. وقد وقف القائد المؤسس، موقفا نقديا من كلا الاتجاهين المذكورين، حيث رأى أن الإسلام، رسالة السماء إلى الأرض، التي تلقاها المؤمنون، وهم الأكثر وعيا ونضجا، فكانت رسالة المؤمنين في الحياة، وأنه حركة عربية جددت العروبة وأغنتها.. وهو دين إلهي، قام العرب بنشره والدعوة إليه، وبه حققوا انطلاقتهم التاريخية الكبرى والتي من خلالها تحققت أعظم أمجادهم. لقد كان ظهور الإسلام، الإعلان عن نضج المحيط الذي ظهر فيه، وجدارة الأمة التي كان النبي الكريم من أبنائها، وعن استعدادها لتحمل أعباء الدور الرسالي وعن مسؤولية الإنسان عن المستقبل. وإذ حدث ذلك الامتزاج النادر بين الإيمان والمسؤولية بين المطلق والإنسان، وصلت أمة الرسالة إلى ما وصلت إليه من نضج ومسؤولية. كان اكتشاف الماضي، في فكر وتجربة القائد المؤسس، ليس باكتشاف نصوص، كانت غائبة أو مفقودة، وحين اكتشفت قدمت لنا معلومات عن أحداث وأشخاص ومراحل وإنجازات ومعارف، كنا نجهلها، أو قدمت لنا معلومات جديدة، سددنا بها ثغرات في تاريخنا أو مكوناتنا المعرفية.. وهو ليس عملية تنقيب لإظهار شاخص حضاري غيبته القرون ومتغيرات الطبيعة. إن ما نقصده من اكتشاف الماضي، هو اكتشاف القوة المحركة لذلك الماضي في زمن مجيد من الطبيعي أن نعتز بالانتساب إليه ومن حقنا أن نحنَّ إليه، وأن نجعل الحاضر والمستقبل على علاقة تواصل معه. لقد حاولت، أن أقرأ، اكتشاف الماضي، في فكر الأستاذ، من خلال كتابات المرحلة الأولى، لأسباب كثيرة، في مقدمتها، أن هذه الكتابات في توجهها النقدي، تؤكد خصوصية فكر الأستاذ، وإيجابية منطلقاته وأنها كانت رائدة بحساب التاريخ الذي كتبت فيه. وهي في ما طرحته على صعيد موضوع هذه المقالة، وما تحاول توضيحه، كان أساسيا، وأن الذي جاء بعده في مراحل أخرى لم ينقص شيئا من تلك الأساسيات، ولم يظهر أن ما ورد فيها يختلف بهذا القدر أو ذاك عن الذي جاء في المراحل الأخرى حين تناول الموضوع ذاته. لقد تناول الأستاذ في المرحلة الأخيرة من حياته، ذات القضايا التي تناولها في إطار فكرة اكتشاف الماضي، مؤكدا دور الإسلام في حياة الأمة ومشروع نهضتها، وقد لاحظنا أن الذين لم يقرؤوا كتاباته من قبل أو سدوا آذانهم دونها، وكانت معرفتهم به وبفكره لا تتجاوز ما سمعوا، من مصادر لم تخف عداءها للأستاذ وفكره.. وهي مصادر سياسية أو مخابراتية.. وليست فكرية أو نضالية. وهؤلاء أظهروا ما يشبه المفاجأة.. وكأن الأمر جديد، وغريب، أن يتناول أبرز قادة الفكر القومي وأكثرهم عمقا وأصالة وجدية، موضوع الإسلام ودوره في حياة الأمة، بكل هذه الجدية وهذا الحب، ولأنهم يصدرون عن موقف سطحي وسلبي فقد عدوا ذلك انتقاله من الفكر القومي إلى الفكر الديني!! وأن الدافع إلى هذه الانتقالة، هو مجاملة المد الإسلامي الذي تصاعد آنذاك، ومثل هذا الرأي، يكفي للرد عليه وتأكيد ضعفه وعدم موضوعيته، تنبيه القائلين به إلى كتابات القائد المؤسس في الثلاثينات والأربعينات. وقد قرأ، بعضهم، كتابات القائد المؤسس الأخيرة، عن الإسلام ودوره، قراءة جادة، ولكنها لم تكن قراءة كاملة، إذ وضعت التمنيات في موضع التحليل، ولذلك فقد أنتجت هذه القراءة، فارقا بين تناول موضوع الإسلام ودوره في البدايات، وتناوله في المرحلة الأخيرة، والواقع، أن ليس هناك من فرق بينهما، وأن كتابات المرحلة الأخيرة، أكدت معطيات اكتشاف الماضي الذي تحقق في الكتابات الأولى، إذ رأى الأستاذ، في الإسلام رسالة الأمة الخالدة، حيث وحدة السماء والأرض، ووحدة الإيمان والدور الحضاري. في الفكر القومي العربي، سواء الذي سبق فكر القائد المؤسس زمنيا أم الذي رافقه، كانت الدعوة إلى نهضة قومية، تعتمد ذات المنطلقات التي اعتمدتها أوروبا في بناء الدولة القومية، وبذات أدواتها ورؤيتها، وأن هؤلاء يكررون ما ذهب إليه الليبراليون المغتربون، وقد نبه القائد المؤسس الأستاذ عفلق، إلى أن هؤلاء، أخطأوا مرتين، المرة الأولى في فهم علاقة الإسلام بالعروبة، "فالفكرة القومية المجردة في الغرب، منطقية إذ تقرر انفصال القومية عن الدين لأن الدين دخل علي أوروبا من الخارج، فهو أجنبي عن طبيعتها وتاريخها، وهو خلاصة من العقيدة الأخروية والأخلاق، لم ينزل بلغاتهم القومية، ولا أفصح عن حاجات بيئتهم ولا امتزج بتاريخهم، في حين أن الإسلام بالنسبة للعرب، ليس عقيدة أخروية فحسب، ولا هو أخلاق مجردة، بل هو أجلى مفصح عن شعورهم الكوني ونظرتهم إلى الحياة وأقوى تعبير عن وحدة شخصيتهم التي يندمج فيها اللفظ بالشعور والفكر، والتأمل بالعمل، والنفس بالقدر، وهو فوق ذلك كله، أروع صورة للغتهم وآدابهم، وأضخم قطعة من تاريخهم القومي، فلا نستطيع أن نتغنى ببطل من أبطالنا الخالدين بصفته عربيا، ونهمله أو ننفر منه بصفته مسلما، قوميتنا كائن حي متشابك الأعضاء، وكل تشريح لجسمها وفصل بين أعضائها يهدد بالقتل، فعلاقة الإسلام بالعروبة ليست إذا، كعلاقة أي دين بأية قومية، وسوف يعرف المسيحيون العرب، عندما تستيقظ فيهم قوميتهم يقظتها التامة ويسترجعون طبعهم الأصيل، أن الإسلام هو لهم ثقافة قومية، يجب أن يتشبعوا بها، حتى يفهموها ويحبوها، فيحرصوا على الإسلام، حرصهم على أثمن شيء في عروبتهم" (11). أما المرة الثانية التي أخطأوا فيها، فذلك في عدم إدراك دور الإيمان في تمتين المواقف النضالية ومد المكافحين بعوامل القوة "إن الأساس الخالد لعملنا، الأساس الذي لا يتبدل ولا يستغني عنه هو الإيمان، والتفاؤل مظهر بسيط من مظاهر الإيمان، هذه نظرة قد يعتبرها بعضهم غيبية، ولكن الحياة برمتها تقوم عليها، منذ أن وجدت الحياة الإنسانية، وإذ طرحت هذه ا لنظرة جانباً لا يبقى تاريخ ولا يبقي إنسان" (12). إن اكتشاف الماضي في فكر وتجربة القائد المؤسس، والتي هي كما ألمحنا إلى ذلك في سياق هذه المقالة، جزء من فكر يعتمد الاكتشاف من خلال التجربة، ومن خلال وعي إيجابي لا ينساق مع الشائع والمعروف، ولا يستسلم للأصوات العالية، وعدته في ذلك، وكما قلنا من قبل ليس الانغلاق، وإنما الحوار والموقف النقدي. إن اكتشاف الماضي، وإن كان يعني عموما، معرفة الماضي وتفاعلاته وفعله والاقتراب من الروح التي كانت تحرك تاريخ الأمة.. وتضعها على طريق الدور الرسالي، والسير في اتجاه الروح العربية الأصيلة (13)، وهو كذلك، المعرفة العميقة بقيم تاريخنا التي يتعامل معها بعضهم تعاملا سطحيا جامدا، في وقت ينبغي أن نكتشفها من جديد، وهذا الاكتشاف، هو طريق الوصول إلى القيم الحقيقية الكامنة في النفس العربية، "والتي لا يمكن أن ترجع إلينا من نفسها دون أن نتعب ونصعد إليها، وأن نشعر بأننا ولدنا بها ولادة جديدة، واكتشفناها اكتشافا جديدا" (14). لكن المحور الحقيقي، على صعيد اكتشاف الماضي، هو اكتشاف تلك العلاقة الحية بين العروبة والإسلام فالعروبة جسم روحه الإسلام، ومن خلال الإسلام عبرت العروبة عن نزوعها إلى الخلود والشمول. وعبر الإسلام كانت اليقظة القومية. غير أن هذا الاكتشاف، أي اكتشاف الماضي، يشكل أبرز خصائص فكر القائد المؤسس، وكان الأكثر عمقا وتميزا وبعد نظر وإيجابية، في ما ذهب إليه، من بين جميع الذين تناولوا العلاقة بين العروبة والإسلام، والتأثير الإيجابي لهذه العلاقة وما أنتجت في الماضي، من تجربة تاريخية، على المشروع القومي النهضوي المعاصر.. ويكاد يكون محور هذا الفكر، الذي ميَّز البعث بالعمق ومنحه الخصوصية. * من كتاب صدر وضم بين دفتيه عدداً من المواضيع الفكرية والتحليلية نشرت تباعاً في بغداد في 23 حزيران/يونيو 1999 احتفالاً خاصاً بذكرى رحيل القائد المؤسس. الهوامش (1) الأعمال السياسية الكاملة ج1 - العرب بين ماضيهم ومستقبلهم ص 169. (2) الأعمال السياسية الكاملة ج1 - العرب بين ماضيهم ومستقبلهم ص 169. (3) الأعمال السياسية الكاملة ج1 - ذكرى الرسول العربي ص 141. (4) الأعمال السياسية الكاملة ج1 - ذكرى الرسول العربي ص 141. (5) الأعمال السياسية الكاملة ج1 - الأرض والسماء (6) الأعمال السياسية الكاملة ج1 - النضال الإيجابي ص 39. (7) الأعمال السياسية الكاملة ج1 - طموح البعث ص 56. (8) الأعمال السياسية الكاملة ج1 - البعث العربي، حركة تاريخية ص 47. (9) الأعمال السياسية الكاملة ج1 - ذكرى الرسول العربي ص 141. (10) الأعمال السياسية الكاملة ج1 - قضية الدين في البعث العربي ص 123. (11) الأعمال السياسية الكاملة ج1 - ذكرى الرسول العربي ص 141. (12) الأعمال السياسية الكاملة ج1 - الإيمان ص 20. (13) الأعمال السياسية الكاملة ج1 - البعث العربي إرادة الحياة ص 50. (14) الأعمال السياسية الكاملة ج1 - معنى الرسالة الخالدة ص 112.