كيف مهد غزو العراق سنة 2003 لإقامة نظام شرق أوسطي جديد أ.د. مؤيد المحمودي قبل حوالي 30 سنة وضع الصهيوني شمعون بيريز الأسس المقترحة لإنشاء نظام الشرق الأوسطي الجديد والذي يتضمن إقامة تكتل في المنطقة على أنقاض النظام العربي لكنه يتجاوز الحدود القومية. وذلك من خلال قيام تعاون مكشوف بين إسرائيل ودول المنطقة على قاعدة المصالح المشتركة، في تحدي واضح لقضية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وإيجاد تسوية عادلة للصراع العربي- الاسرائيلي. وكانت هذه الفكرة الصهيونية تدعو إلى مد الجسور مع الدول العربية للوصول إلى تفاهمات سياسية وتعاوناً اقتصادياً معها بغض النظر عما تقوم به اسرائيل من إجراءات تعسفية لطمس القضية الفلسطينية. وكان هدفها الأساسي هو فك الطوق عن عنقها الذي فرضته عليها قوانين المقاطعة الصارمة التي اتخذتها الجامعة العربية عام 1951 وكبدتها اقتصاديا حوالي 50 مليار دولار وسياسياً جعلتها دولة معزولة وغير قادرة على الانفتاح على الدول المجاورة، عدا مصر والأردن التي أجبرتها على مقايضة الأراضي المحتلة مقابل السلام. ولأهمية الدور الفعال الذي كانت تضطلع به تلك القوانين المتعلقة بالمقاطعة العربية، أصرت الحكومة الأمريكية بعد حرب الكويت على رفع إجراءات المقاطعة الاقتصادية عن إسرائيل. وتجاوبت في حينها بعض الدول العربية لهذا الطلب كمكافأة للأميركيين على دورهم في تلك الحرب. ثم جاء التغلغل الإيراني في دول المنطقة مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن ليزيد من المخاوف الأمنية في توسع هذا التغلغل فيشمل دولا عربيا أخرى. وتحت تأثير ضغوطات أمريكية كبيرة في عهد الرئيس ترامب، دفعت ببعض الدول العربية إلى الانزلاق بعيداً في مشروع التطبيع مع اسرائيل تحت مظلة النظام الشرق أوسطي الجديد، ظناً منها أن تلك المظلة يمكن أن توفر لها الحماية الأمنية الكافية ضد التمدد الإيراني. وقد تعززت شرعية هذا التطبيع مؤخرا في قمة النقب التي عقدت في 30/03/2022 وجمعت وزراء خارجية إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية مع بعض الدول العربية. إذ ناقشت هذه القمة مسألة التعاون العسكري والجوي والسيبراني ضد العدو المشترك إيران مع تجاهل تام لأهمية القضية الفلسطينية. وهذا التجاهل لم يمنع أحد وزراء الخارجية العرب الحاضرين في المؤتمر من تمجيد خطوة التطبيع مع اسرائيل بقوله: " إسرائيل جزء من هذه المنطقة منذ وقت طويل لكننا لم نتعرف على بعضنا البعض، لذلك حان الوقت لتدارك ما فاتنا". ومن الملفت للانتباه أن هذا الاختراق الاسرائيلي الكبير للمنطقة العربية لم يحصل إلا بعد الانتهاء من انجاز عملية غزو العراق سنة 2003 , لاعتقاد الدوائر الصهيونية آنذاك بأن النظام الوطني العراقي يمثل عقبة كبيرة أمام طموحاتها في نشر النظام الشرق أوسطي الجديد. فطبيعة الأهداف الصهيونية التي تقف وراء اقامة هذا النظام المشبوه كانت تتناقض تماما مع ما يطرحه حزب البعث من أفكار قومية تدعو إلى تعزيز مبادئ التضامن العربي والوقوف خلف الجامعة العربية لإيجاد فرص التعاون المشتركة بين الأقطار العربية، فضلاً عن دعمه الكامل للمسألة الفلسطينية باعتبارها القضية المركزية الأولى في الوطن العربي. لذا من أهم الشروط التي وضعت أمام أركان النظام السياسي الحالي في العراق قبل الغزو هي التعهد بإنهاء الصراع مع اسرائيل والقيام بخطوات مستمرة للتطبيع معها. وقد تمت مراسيم التوقيع على هذا التعهد من قبل 87 عضو من قادة السياسة الحاليين ممن كانوا يسمون آنذاك بالمعارضة العراقية. وحصلت هذه المراسيم خلال تواجدهم في لندن لحضور المؤتمر الخاص بالمعارضة تحت رعاية المبعوث الامريكي زلماي خليل زاده وممثلين عن وزارة الدفاع والخارجية الامريكية وممثل عن زارة الخارجية البريطانية وممثلون من الحكومة الايرانية وأعضاء من الموساد والكنيست الاسرائيلي. وكانت الدوائر الصهيونية تدرك جيداً أن عملية تغيير النظام في العراق لم تكن بالمهمة السهلة نظرا لقوة تماسك المجتمع العراقي ووجود حالة من التعايش المتأصلة بين أبنائه، رغم التعددية الكبيرة في قومياته وأديانه وطوائفه. لذلك كان المطلوب من تلك الدوائر وضع خطة محكمة لتفكيك هذا المجتمع وافراغه من مكوناته الأساسية لكي يسهل عليها الانقضاض عليه وبسط نفوذها فيه. وقد تطرق لوصف هذه الخطة العدوانية مجموعة من الكتاب الأمريكيين وهم مايكل أوتومان وريتشالد هيل وبوب ويلز، والتي أطلقت عليها في ذلك الوقت اسم "خطة محو العراق". التي كانت تقتضي اقتلاع النظام السياسي الوطني الموجود قبل سنة 2003 واستبداله بنظام جديد يقوده أركان العملية السياسية الحاليين. وتشمل هذه الخطة تقويض المجتمع العراقي وتجريده من كل القيم والمبادئ الأخلاقية التي كان يتميز بها قبل الاحتلال عن طريق نشر المخدرات والمتاجرة بالأعضاء البشرية وتشجيع الفساد الاداري والمالي والخرافات المذهبية والتعصب الطائفي والقومي وإباحة السرقة للمال العام والتغاضي عن التبعية للأجنبي وإفراغ القضاء من نزاهته وإيجاد دستور اتحادي مشوه يجرد العراق من الالتزام بالروح الوطنية والانتماء العربي. ونتيجة لهذه المتغيرات السلبية حصل انفلات أمني في المجتمع وضعفت هيبة الدولة بسبب إنشاء مليشيات عسكرية تابعة لأطراف أجنبية تحت مسميات محاربة الإرهاب وبرزت مشكلة عويصة جديدة لم يألفها المجتمع العراقي سابقا وهي ظاهرة تراكم الأعداد الكبيرة من النازحين والمهجرين والمغيبين والعاطلين عن العمل في بلد يمتلك امكانات اقتصادية هائلة. وبسبب تلك الكوارث التي حلت في العراق، أصدرت صحيفة نيويورك تايمز مؤخراً عدداً خاصاً تم تكريسه لوضع العراق بعد مرور 19 سنة من احتلاله. ذكرت فيه "بأن ذلك العدوان على العراق لم يدمر نظام البعث العراقي فقط، بل دمر الدولة العراقية، وخلق الظروف الملائمة لولادة داعش وأمثالها من المنظمات الإرهابية، وقضى على العالم العربي وحوّله إلى منطقة ملتهبة، ومصدر لأزمة لاجئين عالمية، كما أعطى إشارة الانطلاق لعصر الإرهاب الذي يضرب العالم اليوم ويقض مضاجع البشرية". ناهيك عن أن النتائج الوخيمة لعملية غزو العراق قد أدت الى حصول خلل كبير في منظومة المفاهيم القومية السائدة والتي أدخلت الوطن العربي في حالة من الانحطاط غير مسبوقة في التاريخ. فلم تعد المحرمات عائقاً أمام بعض الحكومات للوصول إلى غاياتها، طالما أن الغاية تبرر الوسيلة. لكن العراق سوف يبقى شامخا بأهله وارثه الحضاري كالجبل الأصم لا تهزه أية ريح صفراء، وسيأتي يوم يتعافى فيه ويعود كما كان عليه في الماضي رغم السنين العجاف التي مرت به. إن غداً لناظره قريب. 22/5/2022