ميثاق السابع عشر من نيسان قراءة تاريخية نزار السامرائي 2 كان الإعلام المصري قد بدأ بتغيير خطابه تجاه البعث العراقي، وخاصة بعد الإعلان عن وقوع محاولة انقلابية لتنظيم حركة القوميين العرب استهدفت نظام البعث في 26 أيار/مايو 1963، وحصل التغيير في الموقف المصري المعلن، بعد أن أخفق في محاولة الوقيعة بين تنظيم الحزب في العراق وتنظيم الحزب في سوريا، وهذا ما كان يُقابل في العراق على الأقل باستهجان صامت أحيانا، وأحيانا يُعبّر عنه على استحياء، ذلك أن النظرة المبدئية وأحيانا العاطفية المتسرعة التي كان يتعامل بها بعثيو العراق، والتي تتميز بكثير من الصوفية السياسية "إن جاز استخدام هذا التعبير" والحماسة في معظم الأحيان، كانت تدفع إلى الاعتقاد الراسخ إلى أن هناك "مؤامرة ناصرية" على البعث ككل، وأن المصريين الذين كانوا يعرفون ماذا يريدون، كانوا يختلقون من الأسباب ويضخون فيها الكثير من التأويلات، كي يثبتوا وجهة نظرهم بأن الصراع واقع لا محالة بين التنظيمين، كانت الوطنية المصرية جلّية في مظاهرها وجذورها العميقة. فهل كان كل ما قاله المصريون خاطئاً؟ وهل كان كله صحيحا؟ بعد مضي أكثر من نصف قرن على تلك الاتفاقية، وعلى تفاصيل المباحثات بين الأطراف الثلاثة، وما أعقب كل ذلك من تطورات انعكست بسلبياتها على العلاقة بين البعث والتجربة الناصرية، وما تركته من أضرار على مسيرة الوحدة العربية، أو لنقل على التضامن العربي برمته، علينا أن نقوم بمراجعة دقيقة لوجهات نظر الأطراف كلها من دون انحياز، بل بعقلية الدارس المحايد الذي يحاول الوصول إلى الحقيقة كما هي، وليس كما يريد أن يراها هو أو أي طرف آخر. لقد كان لانتكاسة التجربة الجديدة، وقعا مؤلما للضمير القومي العربي، أصابه بخيبة أمل مريرة من قدرة النظام الرسمي العربي على تجاوز نفسه إلى الحالة المتقدمة من العمل العربي المشترك، بل أدى إلى انهيارٍ واضحٍ في العلاقات بين الأقطار الثلاثة، مع امتداد حالة الاستقطاب الناتجة عن ذلك إلى القوى المُنَظّمَة المُتعاطفة مع أو ضد، والنظم القريبة من كل طرف، وتَحَول الصراع من طرفين هما محور القاهرة ومن معها، ومحور البعث ومن معه، إلى صراع متعدد المحاور، وخاصة بين العراق وسوريا لاحقا لا سيما بعد ردة 23 شباط 1966. كانت حالة من العداء المستبطن بين النظامين السوري والعراقي قد امتدت إلى ما وراء ذلك ببعيد، وكأن دمشق وبغداد مكتوب عليهما ألا تلتقيا على كلمة سواء فيما بينهما، وربما كان لهذا الاحساس الغامض، جذور تاريخية تعود لبدايات نشوء الدولة العربية الإسلامية في الشام ومن ثم في العراق، وكانت التطورات اللاحقة تؤكد ذلك، إذ أن دمشق كانت عندما تريد الاسترخاء باطمئنان فإنها تضع رأسها على الكتف المصري من أجل الابتعاد عن بغداد ولتستريح من عناء السياسة العربية والاستقطابات الدولية، وهذا ما تأكد في حقبة الخمسينيات من القرن الماضي وخاصة أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. وعند نشوب الحرب بين العراق وإيران في ثمانينيات القرن الماضي، تراصف النظام السوري إلى جانب إيران في خرق قومي لأبسط شروط الانتماء للعروبة ومعاهدة الدفاع العربي المشترك، فضلا عن الخروج عن القيم التي تربى عليها كل من انتمى لفكر البعث القومي، ولم يكتفِ النظام السوري بذلك، بل لم يتردد في إرسال قواته المسلحة للقتال ضد العاق في العدوان الثلاثيني عام 1991. بلا شك هناك احساسٌ بالوصاية على فكر الحزب، لدى بعض القيادات الحزبية السورية، وشعور لدى بعضها بالتعالي على بعثيي الوطن العربي، تنطلق من أن سوريا هي موطن ولادة الحزب، وكي لا أتعسف في هذا التفسير، أقول إن مسقط الرأس يلعب بكل تأكيد دورا ً حيوياً في إعطاء أولوية الولاء، ولكن هذا لا ينطبق على الأفكار، إذ لو كان هذا الأمر دقيقاً حد التطابق في كل مكان وزمان، لكانت ألمانيا البلد الأكثر تمسكا بالفكر الماركسي وتطبيقاً له وليس أي بلد آخر، وكذلك الحال بالنسبة لبريطانيا مسقط رأس أنجلز وهو الثنائي مع كارل ماركس الذي أسس أولى لبنات الفكر الماركسي، وباشر عمليا في وضع أفكار البيان الشيوعي في مصانع أبيه قبل أن تعرف روسيا التطبيقات الاشتراكية. بعد تسلم الحزب للسلطة في العراق عام 1963 لمدة تسعة أشهر، ربما اكتشفت القيادات السورية أن تنظيم العراق عصي على التدجين كما كانت تأمل وتتوقع، وربما كان لهذه التجربة تأثيراتها السلبية لاحقا على سلوك القيادات السورية، التي تبوأت مراكز القيادة الأولى في تنظيم الحزب بعد حركة 23 شباط 1966، وعدم انصياع تنظيم الحزب أو لأقل الجزء الفاعل منه لإرادة القيادات السورية، في تبعية ميكانيكية عمياء لمعنى الالتزام الحزبي. قد لا أتجاوز الواقع إذا ما قلت إن الالتزام المبدئي في سلوك القيادات البعثية العراقية، أكثر وضوحاً منه مما لدى القيادات السورية، التي استمرأت روح المناورة السياسية حتى داخل التنظيم العقائدي، وفي علاقاتها مع فروع الحزب في الوطن العربي، لأنّ الشخصية السورية مجبولة على هذا النمط من السلوك التاريخي، وسحبته من البيئة الاجتماعية إلى داخل التنظيم، بعد أن عجزت عن غرس القيم البعثية في المجتمع، وكانت القيادة السورية تخطط لأهدافها وتعرف ما تريد، بهدوء وأعصاب باردة وبلا ضجيج، على خلاف الشخصية العراقية التي تعيش ازدواجية لافتة نقلتها من البيئة إلى الجسم التنظيمي للحزب، فهي مبدئية حد التزمت والتصادم مع الآخرين، ومتقلبة العواطف والمشاعر وعلى استعداد للانتقال من خيار معين إلى الخيار المضاد في يوم واحد ولأكثر من مرة، ولكنها أي الشخصية العراقية تُظهر مشاعرها على الملأ، غير مكترثة بردات الفعل المُستغرِبة أو المُستهجِنة وقد رأينا من شواهد هذا السلوك، الكثير بعد احتلال 2003. ربما كان هذا هو العصب الذي استطاع الرئيس جمال عبد الناصر الإمساك به في التعاطي مع العقلية السورية المركبة، وفرقها عن العقلية العراقية البسيطة، وأحسن استخدامه في معركة سياسية انتهت بتقويض اتفاق الوحدة الثلاثية. كان لإخفاق ترتيبات الإعلان عن قيام تجربة الوحدة الثلاثية، وقعاً مريراً على الجماهير العربية في الأقطار الثلاثة، أو لنقل بدقة أكبر، على الجماهير العراقية والسورية، ربما يكافئ حجم الفرح المنتظر من قبلها لو تحققت تلك التجربة، ومما حزّ في النفس أن البديل الذي كان يجب أن يتحقق وهو قيام الوحدة الثنائية بين سوريا والعراق، اللذين كانا تحت حكم حزب البعث العربي الاشتراكي، تبخر وسط حرارة الخلاف الذي حصل بين عواصم الوحدة الثلاثية، قبل أي حركة انشقاقية في التنظيم الحزبي، على الرغم من أن مؤشرات مثل هذا الانشقاق كانت ظاهرة لدى الرئيس جمال عبد الناصر، بحكم وجود تنظيم سري عاش في مصر من قبل الضباط السوريين الذين حرص على ابعادهم عن مراكز التأثير سلبا على تجربة الوحدة، فيما لو أطلقت لهم حرية التحرك السياسي والعسكري في "الإقليم السوري"، وكان هذا التنظيم "البعثي" شكلاً والعلوي مضموناً، هو القوة الفاعلة في الأحداث السورية السياسية والاقتصادية والعسكرية والحزبية اللاحقة. كانت الخشية من قوة تأثير التيار المصري الغلابة في عموم الشارع العربي، وفي الجانب الآخر انعدام الشخصية القيادة الكاريزمية في أوساط البعث الذي كان يُركّز على مفهوم القيادة الجماعية، كل هذه العوامل مع عوامل أخرى تتعلق بتباين النظرة إلى دور الحزب في الحياة السياسية في القطرين، أدت إلى تراجع الدعوة إلى تحقيق الوحدة الثنائية بديلا عن الوحدة الثلاثية، وكان لانعقاد المؤتمر القومي السادس للحزب أثره البالغ في تعميق التباين في وجهات نظر القيادات الحزبية أو لنقل صراعها، بين تبني الفكر الماركسي، أو السير في الاتجاه العربي للاشتراكية، وقد تسبب غياب القائد القادر على إقناع رفاقه في المؤسسة الحزبية بجدارته على القيام بالدور القيادي في العراق، في حصول ردة 18 تشرين الثاني 1963، أمام النفوذ المتزايد للرئيس عبد السلام عارف الذي وظف أخطاء الحرس القومي لتأليب ضباط الجيش العراقي بمن فيهم الضباط البعثيون وزيادة النقمة على حكم الحزب، هذه الخلافات التي برزت إلى السطح مع انعقاد المؤتمر القطري الطارئ للحزب، والذي شابته شكوك اللجوء إلى استخدام القوة للضغط على المؤتمرين، مما أدى وقوع صراع حاد بين الأجنحة المختلفة في الحزب، ونزل الحرس القومي إلى شوارع بغداد معلناً رفضه لكل قرارات المؤتمر القطري الاستثنائي، وهذا ما دعا القيادة القومية للحزب للقدوم إلى بغداد بحثاً عن حل يُرضي الأطراف المتنازعة، ولكن القيادة القومية ولسبب أو لآخر سجلت فشلاً ذريعاً في إمضاء كلمتها وقراراتها على الجميع، مع أنها كانت قد اتخذت قراراً بتسفير رموز طرفي الأزمة إلى خارج العراق، ولكن هذا الاجراء لم يضع حدا للأزمة، فما كان من الرئيس عبد السلام عارف، الذي جيء به من منزله وتم تنصيبه رئيسا للجمهورية يوم 8 شباط 1968، إلا رد الجميل للحزب بالقيام بانقلاب 18 تشرين الثاني 1963 الدموي، مستغلاً حالة انعدام الوزن التي عاشها البعثيون في الفترة الممتدة بين انعقاد المؤتمر القومي السادس في دمشق الذي استغرق انعقاده زمنا قياسيا، إذ بدأ يوم 5 تشرين الأول 1963 إلى يوم 23 من العام المذكور، والإعلان عن نتائج المؤتمر القطري الخامس الاستثنائي للحزب في بغداد يوم 11 /11 /1963 والذي انتهى بالنهاية التي انتهى إليها، فضرب ضربته السريعة يوم 18 تشرين الثاني 1963. كان موقف القيادة القومية في التقريب بين الأطراف المتنازعة، ضعيفاً منذ اللحظة الأولى، بسبب تعقيدات المشهد العراقي ككل وخاصة روح التمرد المجبولة عليها الشخصية العراقية، وما أضاف إليه بعثيو العراق من مفردات في التزمت وعدم الاستعداد للالتقاء في نقطة عند منتصف الطريق، فتوصل أعضاء القيادة القومية إلى أن هناك عناصر غريبة على جسد التنظيم الحزبي، قد تسللت إليه خلال الشهور التسعة التي تسلم الحكم، وأصبحت ذات تأثيرات قوية حتى على بعض القيادات الحزبية، وربما توصلت القيادة القومية متأخرة إلى قناعة أنها كانت بعيدةً عما يجري في العراق أضعاف المسافة الفاصلة بين بغداد ودمشق، عند محاولتها تفهم ما يجري في العراق من صراع بين رفاق الطريق الواحد، ويُنذر بالانتقال بقوة أكبر إلى مستوى القطر العراقي كله، وعندما كان أعضاء وفد القيادة القومية، يلتقون بالقيادات البعثية المؤثرة في المشهد، فقد يكونون فوجئوا بتمسك كل طرف بمواقفه المؤيدة للشرعية، بقوة لا تقل عن اندفاعة الطرف الذي يدعم اللاشرعية، وبحماسة مبدئية لافتة للنظر. في ظل هذه الأجواء الملبدة بغيوم التآمر، وجه الرئيس عبد السلام عارف، ضربته التي سوف تشمل جميع الأطراف، مَن كان مِن المتشددين، ومَن كان مرنا "بالمفهوم العراقي"، مَن كان مع ومَن كان ضد، وفي نهاية المطاف زج النظام الجديد، الجميع في المعتقلات، وتعرضوا إلى ضغوط متشابهة أو متقاربة، ولا استبعد أن الرئيس عارف سخّر ما اعتبره تدخلاً من جانب "الغرباء" في تحريك النزعة القُطرية لدى الضباط المحيطين به والمؤيدين له في انجاز حركة 18 تشرين الثاني.