تلك المعادلة الصعبة التي نعيشها منذ مدة ، فإما الأمن أو الجوع ، تلك المعادلة التي فرضتها علينا الأحداث الماضية ، من قوانين محاربة الإرهاب المزعومة ، والقتل الذي رافق الغزو المغولي الجديد في بداية هذا القرن ، وما تبعه من فوضى مقصودة والجرائم الإنسانية التي أُحدثت في أرضنا العربية والأخرى المفتعلة في دول بعيدة وأخرى قريبة ، وفي كل مرة نذهب لاختيار الأمن ونحن نكدح خلف اللقمة اليومية ، ذهب الإرهاب المباشر الذي رافقه القتل والبطش والجرائم اليومية أو هكذا يريدون أن يصوروا الأمر لنا ، لنعود للاختيار مرة أخرى بين الأمن بصيغة حمايتنا من الوباء أو الجوع اليومي الذي رافقه حرماننا حتى من الكد خلف اللقمة اليومية. كورونا ذلك الاسم الجديد الذي بدأنا تداوله منذ شهر أو أشهر قلائل ، والذي انتشر تداوله خلال أيام قليلة ليصبح حديث البشر من أدنى الأرض إلى أقصاها حتى بات كورونا سيد الموقف بلا منازع. ابتدأت الحكاية باستعراض كورونا رغم عدائيته ، وتمجيد خصاله الايجابية ، رغم بطشه اليومي بنا ، فهو وباء سريع الانتشار ، حاد الذكاء ، يختنق بحجم المنظفات اليومية التي نستخدمها ، مراوغ ، مزاجي في حدته بين البشر ، ينظم الحياة الأسرية ، يهذب روح البشر وأنفاسهم هنا ، ويفتك بأخرى هناك بلا أعراض أو مقدمات ، ينقي الهواء والحجر ، ينهي الازدحام الذي يخنق الشوارع والطرقات ، ويجعل للطابور أنظمة وقوانين يحترمها البشر، جعل قيمة للإنسان لدى الحكومات أو هكذا في البداية تراءى للبشر. تشبثنا بالقرارات الحكومية حتى تلك التي أفقدتنا قوتنا اليومي ، وبتنا نصفق كل مساء للقادمين على الشاشة من الوزراء ، وننتظر أعداد المصابين بشغف وحرقة ، ونحزن وندعو للموتى بالرحمة ، ونغالط أنفسنا ماذا حل بحكومتنا ، وأي حنان قد وقع على قلوبهم ، وأي قيمة قد باتوا يعطونها للأمة ، الفقراء منهم والأغنياء سواء ، ننظر من نوافذ بيوتنا للشوارع الخاوية ، وصوت صفارة الإنذار التي لأول مرة نرى الجمال في ألحانها أو هكذا تراءى إلينا حينها. في تلك اللحظات لم ننظر للوجه الآخر من كورونا ، ليس وجهه كوباء فحسب ، ولا منطق الشؤم في صفارة الإنذار التي كنا نراها ألحاناً ، لم ننظر للقرارات التي كنا نصفق لها عند كل مساء وقد باتت لصا يسرق قوتنا اليومي ، لم نرى الجانب الآخر من الشارع حيث يسير المتمتعون بالتصاريح في رزقهم ومعه أرزاق المحجورين في منازلهم ، وليصبح الطابور الذي اعتدناه نظاما وجزءا من قانون كورونا ، طابورا لاستجداء التصريح لنلحق رغيف خبز عيالنا ، والقيمة التي أولتنا إياها الحكومة ستصبح لحصر المزيد من المدفوعات اليومية التي سنؤديها مع الضرائب لاحقا. في الوقت الذي كنا نصفق للحكومة لانحصار الوباء وعدم تفشيه في الوطن ، وفي الوقت الذي باتت الحكومة تذهب للحدود بحثا عن مصابين لإدراجهم في سجل الإصابات اليومية ، وفي الوقت الذي اكتشفنا فيه أن أوامر الدفاع المتتالية وراءها ما وراءها ، وأن المزيد من الوقت الذي نقضيه مع أبنائنا قد بات على حساب توفير ما قد يؤمن مستقبلهم ، وأن ديوننا المتراكمة من الضرائب الحكومية والقروض البنكية ستصبح سيفا على رقابنا في الغد القريب ، وأن التعليم سيكون للمتمكنين من المنصات الالكترونية ، والقيمة والاعتبار ستكون لأصحاب البطاقات الذكية ، وتقييم الولاء للوطن حالة موسمية تخضع لحجم تأييدك للممارسات الحكومية ، وأن حتى خروجك ودخولك إلى بيتك قد بات بأمر دفاع ، واستخدامك اليومي لسيارتك لم يعد مباح ، وفتح باب رزقك يتطلب المزيد من الشروط والتعليمات ، وحين تبين لنا أنهم رغم تأكيداتهم أن الأمر انحصر ، إلا أن الحجر سيستمر، وأن الحياة بدأت تعود للقطاعات تباعا ، إلا أن عودتها ستكون بمزاجية صاحب القرار ومحسوبية ما قبل كورونا ، حينها أدركنا أن كورونا سيكون أقل فتكا مما يخبأ خلفه.