هنالك علاقة مُتبادِلة وجوهرية ما بين الرشادة السياسية والسياسات العامة فقد تكون السياسات العامة مخيبة للآمال وهدر للموارد وتعسّف وظلم وإقصاء وسوء توزيع فلا سياسات عامة ناجحة دون أن تتصف بالرشادة والحكمة والعدالة والشفافية والسلوك المستقيم وتُعد دراسة العلاقة ما بين المفهومين أحدى الإتجاهات الحديثة في دراسة النُظم السياسية والسياسات المقارنة التي ترتكز على تحليل النظُم السياسية ومخرجاتها فلقد كان الإهتمام التقليدي بدراسة العلوم السياسية ينصَب على البناء المؤسسي للحكومات والتبرير الفلسفي والقانوني لشرعية وجودها أو إستمرار هذا الوجود لأن إستمرارية النظام السياسي في جوهرها تعتمد على شرعية النظام السياسي وقدرة سياساته العامة على تحقيق حاجات المجتمع وخدمته وأمنه وإستقراره من خلال برامج يضعها النظام السياسي يطلق عليها السياسات العامة وفي ظل المعايير والبناء الديمقراطي لابد للحكومات من عقلنة سلطاتها للوصول الى الرشادة السياسية كي تحظى بالشرعية والقبول. إنّ مفهوم الرشادة السياسية القائم على آليات الحكم الديمقراطي وما يقتضيه من توسيع المشاركة السياسية وإقرار الشفافية والعدالة والمحاسبة والتيسير ظهر في بلدان العالم بعد التطورات السياسية التي حدثت في سبعينات القرن الماضي في أوربا واليونان وإسبانيا والبرتغال ومن هناك إنتقلت الى أمريكا اللاتينيّة وآسيا وأفريقيا ووسط وشرق أوربا ومثّلت ثورة ديمقراطية عالمية إنتصرت فيها القوى الرأسمالية والنُظُم الديمقراطية على النُظُم السياسية الفردية والتسلطية وأجبرت النُظُم السياسية في هذا العالم على إنتهاج سياسة تنسجم مع المعايير الديمقراطية الحديثة ولقد زامن هذا التطور ظهور مفاهيم سياسية جديدة أكثر تطوراً من المفاهيم السياسية التقليدية وتحمل سمات هذه التطورات العالمية الحديثة بمعنى وضوح أثرها على جميع أركان النظام الدولي ولم يقتصر هذا التأثير على الأنظمة السياسية بل تعدّى ذلك التأثير الى الأنسان وحياته وخدماته ونظرته للحياة والواقع بأفق بعيد يتعدّى الحاضر الى المستقبل ولم تترك هذه التطورات للدول ما هو وطني وسيادي أو لمواطنيها أوما هو خاص للفرد والمجتمع من خلال الترابط ما بين ما هو خاص بالعام أو الوطني بالدولي كما شهدت هذه التطورات قيام منظمات دولية تعني بحقوق الأنسان وتدعم مشاركاته السياسية وحقه في الحياة الحُرّة الكريمة. لقد أوجبت الثورة الديمقراطية هذه ترشيد السياسات العامة بالإستناد الى معايير العمل الديمقراطي الّذي يُتيح لجميع المواطنين المشاركة في صناعة السياسات العامة وإشاعة قوانين المسائلة والعدالة والتركيز على حرية الأفراد والجماعات وتحقيق خياراتهم لأن النُظم السياسية لكي تتصف بالرشادة لا بد من إيمانها بالحوار وتوسيع المشاركة الجماهيرية وضرورات الفصل بين السلطات وإيجاد مرتكز إجتماعي قادر على تفعيل جميع المواطنين ليكون لهم دور مشهود في تحقيق الإصلاحات العامة وإبراز أهمية تطبيق القانون بعدالة ونزاهة وبتعامل إنساني خالص بعيداً عن أي نوع من أنواع التمييز بين البشر ومكافحة حالات الفساد والهدر في المال العام حتى تتحقق التنمية والتطور والإزدهار.