بغض النظر عن رأينا بالعسكرة، فالعسكر هم في نهاية المطاف أبناء لنا وأخوة وآباء وأعمام وأخوال، وما يضرهم، يضر الشعب اللبناني بغالبيته الساحقة، وما يسعدهم، يسعد الوطن، ويهنأ البال أنهم أخذوا ما يستحقون. وبغض النظر عن الرواتب التقاعدية المرتفعة التي يتقاضاها المتقاعدون من الضباط ذوي الرتب العليا، والتي صار المواطن العادي يعرف تفاصيلها بفضل الإعلام المفتوح على الملأ، لا سيما أن البعض منهم يتقاضى أكثر من راتب لأكثر من وظيفة ومنهم نواباً ومسؤولين حالياً من المتقاعدين وقد جاهروا بذلك فجعل الناس تتساءل لماذا وكيف! فإن الغالبية العظمى والساحقة من المتقاعدين الأمنيين، هم عسكر، لا ينالون من الرواتب التقاعدية سوى ما يستحقون، وأحياناً أقل من ذلك، وقد واكب اللبنانيون عن كثب تضحيات أبنائهم الجنود ومعاناتهم وهم يقومون بالواجب المقدس المناط بهم في حماية لبنان وأمنه واستقراره وقطع أيدي العابثين به داخل الحدود وخارجها. بغض النظر عن هذا وذاك، فإن ما يستحق القول أن التحرك الميداني الذي قام به متقاعدو القوات المسلحة منذ الثلاثين من شهر نيسان المنصرم حتى الإقرار النهائي للموازنة في المجلس اللبناني، كان غاية في التنظيم والتحشيد والقدرة على إيصال الصوت إلى أعلى المستويات في الدولة والمجتمع بالطرق الحضارية التي يحتاجها كل عمل ديمقراطي سلمي ومشروع لكي ينجح ويحقق الهدف، وهذا ما بدت عليه أصداء هذا التحرك الذي حرص أصحابه أن يكون تحركاً مطلبياً ليس إلا، بعيداً كلياً عن التجاذبات السياسية الحاصلة بين المكونات الحزبية ليؤكد على حقيقتين أساسيتين : 1- الأولى : الاستقلالية في طرح المطالب والتفاني في سبيل التشبث بها وعدم التفريط بأي من بنودها. 2- التنظيم الذي يحتاجه هذا الطرح وأبعاده عن أي غوغائية أو استغلال أو وصاية سياسية داخلية. إزاء ما تقدم، لا نجد أمامنا في هذه العجالة، سوى استحضار تجربتي الاتحاد العمالي العام وهيئة التنسيق النقابية وهشاشة التنظيم البنيوي الذي صار عليه الاتحاد، والإضعاف والاستضعاف الذي تحولت إليه هيئة التنسيق بعد وضع اليد عليها وتدجينها وهي التي عقدت عليها الآمال في سد الثغرات النقابية والنضالية التي اعترت الاتحاد المتحول بدوره إلى أداة طبيعة بأيدي الطبقة السياسية الحاكمة، وميليشياتها المذهبية وأصحاب النفوذ من رأس المال الوافد الذين عطلوا كل ما أنجزته الرأسمالية الوطنية على مدى عقود بعد الاستقلال بعد أن أدت سياساتهم المالية إلى تدمير كل ما له علاقة بالصناعة والزراعة والاقتصاد المتين وصولاً إلى تدمير ما تبقى من قيم وحصانة وطنية منذ ما بعد اتفاق الطائف حتى اليوم. قد يقول قائل، ان العسكر هم بطبيعتهم منظمون، وأنه لا بد من "قبة باط" أو ثمة أمر يومي متستر دفعهم إلى القيام بذلك،وقد يصدق البعض ذلك ويستنكره البعض الآخر. غير أن الأهم أن المقارنة وأوجه التشبيه المطلوبة بين تحرك المتقاعدين وحراك اللبنانيين الآخر، يجب أن يكون في مصلحة الحراك الشعبي القائم على الأرض اللبنانية منذ ما يقارب العقد من السنين حيث أصابه ما أصابه من عثرات وتعثرات ومطبات وضغوط وكل ما دفعه إلى التراجع النسبي حتى اليوم ولم يحقق ما كانت تصبو إليه الحركة المطلبية اللبنانية وما علقت عليه من آمال. إن للحركة المطلبية اللبنانية تاريخها العريق في قيادة الشارع اللبناني واستقطاب مختلف الشرائح الاجتماعية والنقابية والعمالية إلى كنفها وهذا ما يشهد عليه ماضيها الذي يجب أن تعتز به وتجعل منه حافزاً لنقض غبار التعب والقنوط الذي أصابها ولاسيما في السنتين الأخيرتين بعدما جرى تطويقها من قبل الطبقة السياسية الحاكمة. من هنا، فإن الأمل يتجدد بإصرار في الكوادر الشابة المناضلة التي ما زالت تقبض على حجر الثبات في المواقف، وهؤلاء موجودون داخل كل المكونات السياسية والشعبية اللبنانية ولهم من المواقف والتجارب ما يجعلهم مقبولين لدى مختلف شرائح المجتمع اللبناني، كما أن لهم من الاستقلالية الذاتية وجرأة الموقف ما يؤهلهم لقيادة الجماهير اليوم وغداً. من الذي يمنع بعد كل ذلك أن يكون للحراك المطلبي اللبناني زخمه النضالي والتنظيمي على غرار ما هو عليه المتقاعدون العسكر، طالما أن الوعي السياسي والاجتماعي والنضالي يتحقق بوجود جماهير شعبية تتوق إلى التغيير، وطلائع شابة تطمح إلى أن تتكلل مسيرتها بثقة أبناء شعبها. نقول ذلك، لأن لنا ملء الثقة بأن التغيير قادم وحاصل لا محالة، ولا بد لنا بين الفينة والأخرى أن ننتقد ومن باب النقد البناء ليس إلا، لتبقى بوصلة العمل الشعبي اللبناني العابر للمناطق والطوائف والمذاهب هي البوصلة التي تقودنا إلى الخلاص وإلى التغيير الحقيقي المنشود.