تنص المادة (32) من الدستور، على أن العقد الثاني لمجلس النواب يبتدئ يوم الثلاثاء الذي يلي الخامس عشر من شهر تشرين الأول، وتخصص جلساته بالبحث في الموازنة والتصويت عليها قبل أي عمل آخر. كما ينص الدستور في المادة (81) على أنه لا تفرض الضرائب العمومية ولا يجوز إحداث ضريبة ما وجبايتها في الجمهورية اللبنانية إلا بموجب قانون شامل تطبق أحكامه على جميع الأراضي اللبنانية دون استثناء. من خلال هذين النصين يتبين كم يولي الدستور أهمية للموازنة العامة وإجراءات الجباية وفرض الضرائب وكل ما له علاقة بأنفاق الدولة وتأمين الواردات. إن المجلس النيابي الذي ينعقد في دورتين عاديتين، وهو سلطة تشريع ورقابة، ويفرد دورة كاملة لمناقشة الموازنة العامة، فلأنها هي الميزان المالي للدولة، فإن استوت كفتيه، توازنت أبواب الأنفاق مع الواردات وأن اختلتا حصل الخلل في الميزان المالي خاصة عندما ترجح كفة النفقات على الواردات. إذاً، بحسب الدستور فإن الحركة المالية للدولة يجب أن تكون محكومة بالضوابط القانونية، وعندما يفرد الدستور وهو القانون الأعلى في الدولة مواداً في متنه لتنظيم المالية العامة، فهذا يعني أن الموضوع يمثل أهمية قصوى ولهذا جعل المجلس يتفرغ في إحدى دوريته العاديتين لمناقشة الموازنة وإقرارها كي يشرع الحركة المالية العامة للدولة. لقد نص الدستور على وجوب الإنتهاء من مناقشة مشروع قانون الموازنة نهاية دورة العقد العادي الثانية، لكنه تحسباً لاحتمال أن لا يتمكن المجلس من مناقشة الموازنة وإقرارها في نهاية دورة تشرين، عمد الدستور إلى إيجاد مخرج دستوري يقضي بحسب المادة (86) المعدلة، عبر الدعوة إلى عقد دورة استثنائية تستمر لغاية كانون الثاني من السنة المالية الجديدة لأجل متابعة درس الموازنة، وإذا انقضى العقد الاستثنائي ولم يبت نهائياً بمشروع الموازنة، فلمجلس الوزراء أن يتخذ قراراً، يصدر بناء عليه عن رئيس الجمهورية مرسوم يجعل بموجبه المشروع بالشكل الذي تقدم به إلى المجلس مرعياً ومعمولاً به، شرط أن يكون مشروع الموازنة قد طرح على المجلس قبل بداية عقده بخمسة عشر يوماً على الأقل أي في الأول من تشرين الأول. وتستطرد المادة المذكورة، بأنه طيلة مدة العقد الاستثنائي تجبى الضرائب والتكاليف والرسوم والعائدات الأخرى، وتأخذ الحكومة نفقات شهر كانون الثاني من السنة الجديدة على القاعدة الاثنتي عشرية، كما تنص المادة (87) من الدستور على أن حسابات الإدارة المالية النهائية لكل سنة يجب أن تعرض على المجلس ليوافق عليها قبل نشر موازنة السنة الثانية (اي ما يسمى بقطع الحساب). استناداً إلى هذه المواد الدستورية التي تتعلق بأسس النظام المالي للدولة يتأكد ما يلي: 1- إن مشروع الموازنة للسنة المالية الجديدة يجب أن يقدم إلى المجلس النيابي قبل بدء العقد الثاني من دورته العادية. 2- إن عمل المجلس النيابي في دورة عقده الثاني العادي يقتصر على مناقشة مشروع الموازنة وإقرارها. 3- إن المجلس يجب أن ينتهي من دراسة مشروع الموازنة وإقرارها قبل نهاية عقد دورته العادية الثانية. 4- إذا لم يتمكن المجلس من إنجاز درس وإقرار مشروع الموازنة خلال الدورة العادية الثانية، يتم فتح دوره استثنائية لمدة شهر كانون الثاني من السنة الجديدة. 5- خلال شهر كانون الثاني من السنة الجديدة تأخذ الحكومة نفقات هذا الشهر من السنة الجديدة على القاعدة الاثنتي عشرية. 6- قبل أن يقر المجلس الموازنة الجديدة عليه أن ينجز قطع الحساب للسنة المنصرمة. 7- أن لا تفرض ضريبة ولا تعدل ولا تلغى إلا بقانون، وكل ما يترتب أعباء مالية على الدولة يجب أن يكون بقانون. هذه البنود الثمانية هي قواعد عامة لحظها الدستور في أحكامه وحدد حصراً الحالات الاستثنائية التي تمكن الحكومة من الجباية والأنفاق في حال لم ينجز مشروع الموازنة في الوقت المحدد دستورياً. فهل هذه الأحكام مطبقة كما يجب، أم الجباية والأنفاق تتمان خارج الأصول؟ في واقع الحال الراهن، فإن الموازنة العامة للسنة الحالية 2019، لم تقر بعد، وها قد بدأت اجراءات اعداد مشروع الموازنة للسنة الحالية 2020. إذاً، لقد تم تجاوز النص الدستوري الذي يفرض إقرار الموازنة العامة وإصدارها بقانون قبل نهاية العقد الثاني العادي للمجلس. كما تجاوز الحالة الاستثنائية وهي إنجاز مشروع الموازنة في شهر كانون الثاني من السنة المالية الجديدة وها قد دخلنا في الشهر السابع ولم تقر الموازنة. والإشكالية التي تواجه إقرار الموازنة، هي مشكلة قطع الحساب للسنة الماضية وهذا وأن حصل هذه المرة إلا أنه هناك تراكم لعدة سنوات لم يتم به قطع حساب، وكانت الموازنة تمر دون الالتزام بالنص الدستوري. قد يقول قائل، ان الحكومة لم تكن مشكلة لأجل أن تعد مشروع الموازنة وتحيله إلى المجلس النيابي، وأنه في غياب الحكومة لا يمكن أعداد مشروع موازنة علماً أنه دار سجال دستوري حول ما إذا كانت حكومة تصريف الأعمال يمكن أن تعد مشروع موازنة أم لا. علماً أننا من الرأي الذي يقول أنه لا يمكن لحكومة تصريف أعمال أن تضع مشروع موازنة وتناقشه لتحيله بمشروع قانون إلى المجلس لأن الموازنة وما تنطوي من حقوق وموجبات لا تندرج ضمن الإطار الضيق لتصريف الأعمال. على هذا الأساس، فإن الوضع الذي ساد لأكثر من عشرة أشهر، يندرج ضمن الأسباب الضرورية التي تبرر عدم تمكن إنجاز الموازنة في مواعيدها الدستورية، لكن ما إذا لو لم تكن الحكومة في حال تصريف الأعمال وهي مكتملة الأوصاف الدستورية ولم تنجز مشروع الموازنة كي تبرر من خلالها عمليات الجباية والانفاق وفق القانون؟ هنا تكمن المشكلة. إذ أن الإشكالية التي تواجه انتظام الدورة المالية العادية ليس سببها شغور دستوري أو واقعي في المؤسسات الدستورية الإدارية المعنية، بل سببها المشكلة السياسية التي تعترض سير الانتظام للمرفق العام ونظام المحاصصة السياسية والذي يسحب نفسه على كل مفاصل الدولة بكل مؤسساتها وأجهزتها وإداراتها. وإذا لم تحل هذه الإشكالية فسوف تبقى أزمة تجاوز القواعد العامة للانتظام الدستوري قائمة، ليحل الاستثناء محل القاعدة العامة. هذه العناوين العامة التي نوردها للصعوبات التي تحول وانتظام الإدارة المالية للدولة هي التي جعلت العشوائية ترخي ظلالها على الآليات الطبيعية للانتظام المالي وبالتالي فإن الموازنة التي عبرت من مجلس الوزراء بعد تسعة عشر جلسة إلى المجلس النيابي، يتم التعامل معها تحت نظرية الظروف الاستثنائية، وليس وفق السياقات العادية، وهي وأن أقرت في الشهر السابع، فإنها تكون قد تجاوزت المهل الدستورية العادية، وأن الأنفاق والجباية للسنة الحالية تتمان على القاعدة الاثنتي عشرية، وكل ما في الأمر أن أقرارها الذي يفترض أن يكون مقروناً بقطع حساب للسنة التي سبقت بات إجراءاً شكلياً تفرضه ضرورات أعداد الموازنة الجديدة. أما إذا لم يقر قطع الحساب للسنة المنصرمة وتم ربطها بالسنوات التي سبقت وهي موضع إشكالية، فهذا يعني إن إقرار الموازنة كان مطلوباً لحاجة مطلب خارجي ذي صلة بالشروط المفروضة لتمرير مؤتمر "سيدر"، وليس لأجل انتظام الوضع المالي على قواعده الدستورية. وإذا ما تم تجاوز هذه الإشكالية الدستورية على ما انطوت عليه بنود الموازنة ومقاربتها للعناوين التي تم التركيز عليها لتخفيض العجز في الموازنة العامة وهو أحد الشروط الدولية المطلوبة، لتبين أن الإشكالية السياسية التي عطلت الآليات الدستورية لإقرار الموازنات العامة، هي ذاتها التي تحول دون تحويل الدولة من دولة رعاية اجتماعية إلى دولة تحكمها الزبائنية في الحقول السياسية والوظيفية والتنفيعات على أشكالها وعبر فلسفة وفذلكة الموازنة. صحيح أن مشروع الموازنة حقق خفضاً في العجز بنسبة تقارب 4%، إلا أن هذا الخفض هو دفتري وليس واقعياً وما ركزت عليه الحكومة لم يلامس جدياً الأسباب الفعلية التي أوقعت المالية العامة في عجز انعكست أثاره على كافة جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية. إن موازنة لم توفر الشروط للأزمة للمحفزات الاقتصادية التي تحول اقتصاد البلد من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد بنيوي منتج، سوف تكون سبباً لمزيد من الركود الاقتصادي والشلل وارتفاع مستوى التضخم وهذا ما يتبين حتى الآن من مشروع الموازنة المحال إلى المجلس النيابي. فالأزمة وأن كانت تداعياتها اقتصادية واجتماعية، إلا أن أسبابها سياسية، وأولها نظام المحاصصة الذي يدير البلد بعقلية إدارة المزرعة، وإبقاء أبواب الهدر قائمة وغالبها مشرع أو محمي بقوة الأمر الواقع، وأنه في غياب الشفافية السياسية عبثاً الحديث عن شفافية مالية واستطراداً اقتصادية ،ولولا ذلك لما صنف لبنان من دول الفساد السياسي والاقتصادي والذي توظف قواه النافذة موارد الدولة لخدمة المشاريع الفئوية وتوسيع المساحة الأفقية للفقراء بعدما ضُربت الطبقة الوسطى والتي هي من أهم ركائز الاستقرار المجتمعي والكل يتحمل المسؤولية. في ذلك، من تغول القوى السلطوية في نهب المال العام تحت مسميات مختلفة، وإلى ضعف حركة الاعتراض الشعبي والسياسي والذي أفقد البلد الحد الأدنى من التوازن السياسي، وعليه يجب العمل لإعادة الاعتبار للمحاسبة والمساءلة السياسية ولتوحيد قوى الاعتراض الوطني لإبراز المشروع البديل، البديل الوطني في مواجهة نظام طائفي استقوت قواه على الدولة عبر امعانها في نهب خبرات البلد ومقدراته. فحكمت منظومة الفساد في بلد لا تستقيم الحياة السياسية الوطنية فيه إلا بإسقاطها.