تحاصرنا اليوم، الذكرى الفاجعة والأشد قتامة في التاريخ البشري كله، ألا وهي الذكرى 16 للجرم الامبريالي الاستعماري الصهيو صفوي أعرابي، والتي استهدفت العراق وهيأت للمسات الأخيرة لغزوه وتدميره وتخريبه والعبث بتاريخه وحضاراته ومخزونه الفكري والثقافي وحتى العقائدي وكذا الفني والأدبي والعلمي الفريد، بكل مدلولاته وثقله ومكانته لا على الصعيد العربي فحسب بل وعلى المستوى الإنساني والكوني ككل، والتي جاءت بعيدا عن حذلقات المتحذلقين وتنطع المتنطعين وسفاسف السفسطائيين والدغمائيين، تتويجا لالتقاء شيطاني شرير وآثم لمجمع أحقاد دفينة وثارات موغلة في القدم لأضلاع العدوان وحلفه المجرم البربري المتوحش، والتي لا يخفيها الغزاة ومن ركب ركابهم، حيث التقى الصهاينة للثأر من بابل العاهرة ( أو القحبة ) كما توصي بذلك بروتوكولاتهم السرية ومقرراتهم، مع الفرس أصحاب الثأر الذي لا يفارق الوجدان الفارسي الصفوي لا من الهزيمة التاريخية التي كسرت عنجهيتهم في ذي قار والقادسيتين الأولي والثانية، بل إلى ما أبعد من ذلك بقرون عدة تتزامن مع المملكة الآشورية والسومرية والبابلية والأكادية وغيرها، وتآلف الاثنان مع الأطماع الاستعمارية والحاجة الامبريالية المتوحشة للثور الأمريكي الهائج الذي يقر أنه لا فلاح له في تطويع العالم وإكمال سيطرته عليه إلا بعد تركيع العراق محور العروبة ومركزها وساعدها الضارب منذ القدم، وشفط خيراته وطمس مكانته وثقله الحضاري، وأيضا إسقاط نظامه الوطني وكسر شوكة جيشه القومي بعد حصار جائر فرض عليه طيلة 13 سنة منع فيه العراق حتى من أبسط المواد الأساسية للعيش الإنساني، والذي كان إعدادا لما عبر عنه جيمس بيكر بالقول إنه لا مفر من إعادة العراق لعصور ما قبل التاريخ، كما تذيل الأتراك الطامعون المعادون التاريخيون للعراق مع جوقة الأعراب المخصيين الذين آثروا ذلهم وهوانهم منقادين لمصالحهم الذاتية القذرة، قطار ذلك التحالف الهمجي العنصري الإرهابي. ورغم ما حمله مشروع الغزو من صدمة حقيقية ( ليست " الصدمة والترويع " التي تحدث عنها الأرعن بوش الصغير وجنرالاته الخائبون ) وخلخلة عميقة للضمير الإنساني الذي تلقى ضربات قاصمة بشكل ناعم على امتداد عقود فاستكان وخدر وارتخى حتى قارب على التلاشي والتحلل ومن ثم الاندثار، لما انطوى عليه - أي الغزو - من نزعة تدميرية وحشية مجنونة فاقت جميع التوقعات واستفرغ أصحابها المتهورون ما لديهم من بطش ونزعات سادية هيستيرية وأكثر، فإن التعامل مع ذلك الزلزال لم يعبر لا في حينه، ولا إبانه، ولا بعده، ولا إلى يوم الناس هذا عن استيعابه من طرف العرب سيما أنظمتهم الرسمية وأغلب قواهم وحساسياتهم السياسية يمينية كانت أم يسراوية، إلا من رحم ربك. ذبح العراق من الوريد إلى الوريد، واستبيحت حرماته كافة، ورزح شعبه المغدور تحت إبادة جماعية لم يعرف لها التاريخ البشري مثيلا، وتحولت الإبادة إلى مسلسل يومي مفتوح من الإبادات داخل الإبادات، واغتصبت حرائره، واغتيلت طلائعه السياسية والعسكرية والعلمية والفكرية والثقافية، وطورد أبناؤه وتفرقت معاناتهم بين الأسر والسجن والقتل على الهوية والتشريد والنزوح القسري وبين المخيمات الكارثية، ودمرت معالمه ومنجزاته وتعرضت بناه التحتية كافة للتخريب الممنهج، ولم تسلم الأنهار ولا الحيوانات مواشي ودواجن وأسماكا وغيرها، ولا النباتات والنخيل من بطش الغزاة وأذنابهم وعملائهم المزدوجين، وجربت ضدهم أعتى الأسلحة وأشدها تدميرا وفتكا من طرف أمريكا وحلفائها، وأعملت فيهم الطائفية المقيتة النحر يوميا على يد إيران وعساكرها وميليشياتها الإرهابية، وسلط على رقاب العراقيين شتى الأراذل وقطاع الطرق وشذاذ الآفاق وحثالات الإنسانية، فساسهم الجاهل والأحمق والمخبول والعميل الدائن بالولاء لأعداء العروبة والعراق، وحوصر أحفاد نبوخذ نصر وحمورابي وسرجون الأكدي وابن الهيثم والكرخي والفارابي والجاحظ والمتنبي وهارون الرشيد وصلاح الدين وصدام حسين، من قبل الموتورين والمنبتين والطائفيين الذين نغصوا عليهم حياتهم وحولوا أرض الرافدين إلى جحيم مفتوح ناره تلظى تشوي وجوه المظلومين وتحرق جلود المرابطين. ولكن .. ومنذ انطلاقة أولى حلقات المسلسل الدامي في العراق، انشغل العرب عن مأساة العراق، واختلقوا ألف ألف ذريعة للتلهي عنها، وسوقوا مبررات غدرهم، وروجوا موجبات تلذذهم بالدم العراقي المهريق على امتداد بلاد الرافدين التي تحولت لبحيرة دم لا ينقطع نزيفه. ولم يكلف أحد منهم عناء التدبر قليلا، ولم يعمل أحد منهم عقله، ولم يستمع أحد منهم لصرخات التاريخ، وفزع الثكالى، ولم يتحسس أحد منهم أنين المشردين في بلاد الله الواسعة، ولم ينصت أحد منهم لصيحات مئات آلاف الأسرى، ولم يفكر أحد منهم في المسح على رؤوس ملايين الأيتام.. لم تهتز فيهم قصبة .. ولم ترتعد لهم فريصة. ورقصوا على وقع هزات زلزال العراق الأعنف، وانتشوا بأزيز الموت، وظنوا أن لن يطالهم منها شيء!! صدق الأعراب أن غزو العراق وإسقاط نظامه الوطني واجتثاث حزب البعث العربي الاشتراكي وتشويه مشروعه القومي التحرري الإنساني وشيطنة فكره وتاريخه ومشروعه النضالي العام، سيجلب لهم أمنا وأمانا ورخاء وعيشا رغدا. وصدقوا أن الشعار الفضائحي الذي رفعه بوش ( تحرير العراق ) سيعود عليهم بالخير الوفير، وسيخلصهم من عدو وخطر حقيقي يهدد عروشهم، وصدقوا أن تدمير العراق سيكون آخر العقبات التي يتوجب تجاوزها للعبور للسلام ولتحقيق طفرة نوعية شاملة تتفيأ المنطقة ظلالها فيما بعد. واقتنع أولئك الأعراب بالحملات التضليلية والدعايات التحريضية الأمريكية والصهيونية المبنية على الكذب والتلفيق والافتراء، وانغمسوا فيها أيما انغماس، وسابقوا الزمن لتحقق الغزو ولقطاف ثماره فيما بعد. وبعد أن ابتلعوا الطعم، أفاق العرب على وقع فاجعة لم يعرفوا لها مثيلا من قبل، واكتشفوا أنهم على فوهة بركان حقيقي لا نجاة لأحد من حممه المتصاعدة والمتناطرة يمينا ويسارا، شمالا وجنوبا، وشرقا وغربا. لقد اعتقدوا أن الدمار الهائل الذي ضرب العراق لن يتجاوز حدوده، بل اعتبروه ضروريا، وقدروا أنه دماء المخاض التي سينطلق بعدها العراق الوليد الجديد المحرر، ولم يتحسسوا أي كارثة حلت بهم، حيث لم يستشعروا إرهاصات الصراع الطائفي، ولم ينتبه منهم أحد إلى الأنامل التي تحركه وتغذيه، ولم يحسبوا حسابا لأن يأتي الدور عليهم تباعا، الواحد تلو الآخر، وأخذتهم العزة بالإثم، وانساقوا وراء أمانيهم، فكانوا طرفا في تلك الحرب الطائفية القذرة، لتنضاف خطايا وآثام جديدة فظيعة لحزمة خطاياهم وجرائمهم السابقة بحق العراق دولة وشعبا ونظاما وتاريخا وحضارات. وبعد مضي سنوات قليلة، اهتزت الأرض تحت أقدامهم وتواترات الرجات الارتدادية لزلزال العراق الكبير والأخطر على الإطلاق، فتشققت الأرض في ليبيا وزلزلت في سورية، وتساقط كسف من سماء اليمن، أما فلسطين فها هم يتسابقون لتصفية قضيتها وتشريد شعبها تحت عنوان صفقات مختلفة، ويعربون عن استعدادهم لمزيد التنازل عنها ولهم في ذلك ذرائع شتى، لتبقى الأحواز العربية نسيا منسيا، لا مكان لها في برامجهم حاضرا ومستقبلا. ولم تتوقف المحن والمصائب عند هذا الحد، ليفاجأ الأعراب أنهم على شفا حفرة أو أدنى من الاحتراق بنار الطائفية التي أطلت برأسها الشيطاني البغيض مهددة بنخر أجسادهم وابتلاعهم، وليحصدوا ما زرعت أيديهم وليكتووا بالنار ذاتها التي أضرموها في العراق الجريح، وكان مبعث صدمتهم أن أحد حلفائهم في استهداف العراق كشر عن أنيابه وأسقط قناعه المزوق فظهر وجهه القبيح، وإذا بإيران تعبث بأمنهم، وتسرح وتمرح مخترقة كل أنسجتهم سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا وحتى عسكريا، فإذا هم يستنجدون فلا منقذ، ويستصرخون فلا مجيب. ولم تتوقف حدود الصدمة عند تكشف حقيقة إيران ومراميها وغاياتها التي لطالما أصدح بها العراق زمن النظام الوطني فيه بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي وحاربها وصد شرورها وأوقف مخططاتها التوسعية الاستيطانية الشعوبية العنصرية وأجلها بعد أن تصدى لها على امتداد سنوات طويلة قدم خلالها أغلى التضحيات، بل دهشوا بحليفهم الأكبر ( أو هكذا تراءى لهم ) راعي البقر الأمريكي يتغاضى عن جرائم إيران وانتهاكها لسيادتهم وحرماتهم، ويزيد عن ذلك بابتزازهم علنا وبمنتهى الصلف ليشفط ملايين الدولارات ويهدد ويأمر بتسخير المزيد مننا مقابل كف أذى إيران عنهم وتأجيل زحف الرياح الصفراء التي إن هبت فلن تبقي ولن تذر. انكشفت ظهور الأعراب بعد اقتلاع خيمة العراق التي شكلت درعهم الواقي ومصدر عزهم دهورا، وتجلت لهم حقائق الأمور ودقائقها، وفضح المستور، فطفت خرائط التقسيم والتفتيت الجديدة على السطح، وظهرت المخططات بلا حجاب، وتبين المرتجفة قلوبهم مصيرهم القادم على مهل، وتيقنوا من الحدود الجديدة للدويلات والكنتونات الجديدة أيضا والتي ستقام على أسس طائفية مذهبية وعرقية وإثنية، ولكن ستكون أشد وهنا وهوانا. هذا ما جناه الأعراب قطافا وخراجا ونتاجا لتآمرهم على العراق، وهذا ما عرفوه ولامسوه وأصدعوا به على رؤوس الأشهاد. لكن، هل استوعب العرب ما جرى؟ وهل أدركوا خطورة الزلزال الذي ضرب العراق سنة 2003؟ وهل أيقنوا تبعاته الكارثية؟ إن هذه الأسئلة، وعلى ما تنطوي عليه من تعقيد ولو نظريا، وعلى عكس ما يتوقع طارحها من صعوبة في الإجابة عليها، تعد أسئلة حمقاء أو صادرة عن حمقى فعلا متى تعلق بالأمر بتناول ردة فعل الأعراب، لأن الأجوبة عنها وعن غيرها بسيطة ولا تتعدى كلمة لا. فبتقصي السياسات الأعرابية منذ 2003 إلى الآن، سواء فيما يتعلق بالعراق أو بالمنطقة أو بالعالم وحتى على المستوى القطري، سنخلص إلى أنها حافظت على وتيرتها، وعلى برودها وانعدام المنطق والحكمة والعقل بل والمصالح فيها. أما فيما يخص العراق، فلقد ضل الأعراب عن الطريق السوي، بل إنهم أمعنوا في إنهاك جسده المثخن بالجراح، وانخرطوا في كل المؤامرات التي حيكت ضده بعد الغزو أيضا، فاعترفوا وباركوا وساندوا ودعموا العملية السياسية الباطلة والعميلة والمجرمة في العراق. كما أنهم منعوا وصدوا وخنقوا كل الأصوات المناضلة والشريفة من أبناء أمتنا المجيدة، وهمشوا الأقلام المخلصة التي تناولت مأساة العراق أو طالبت برفع المظالم غير العادية عليه، وحوصر كل جهد خير سعى لتعرية مشروع الغزو وتفكيك مراميه، بينا أفسحوا المجال في المقابل لبياعي الضمائر والأوطان إعلاميين ونخبا لمزيد جلد العراق وشعبه. ويبقى الأخطر في كل هذه المتاهة السياسية والنضالية الأعرابية، أن الأعراب أحجموا عن سلوك سبيل الرشاد، ولم يهتدوا لثنايا تكفيرهم عن ذنبهم وعارهم الذي لن يمحي، وصموا آذانهم عن النصائح التي قدمت لهم من مثقفين ومفكرين وساسة عرب محنكين، ومفادها أن بإمكانهم تدارك المسألة، وذلك بكسر الحصار عن المقاومة العراقية باعتبارها بارقة الأمل الوحيد لخلاص العراق ومن ثم الأمة من براثن الاحتلال الإيراني وخطر المخططات الفارسية الصفوية العنصرية وأطماع نظام الولي الفقيه الاستعمارية، وبالانفتاح عليها ودعمها والانخراط في مشروعها التحرري الوطني والقومي والإنساني، ذلك أن المؤامرة أكبر مما يعتقدون، ولا يمكن تجاوزها أو صدها إلا عبر سلاح المقاومة عسكريا وثقافيا وفكريا وشعبيا. وها هي ذكرى الغزو السادسة عشرة، بما تشكله من فاجعة الفواجع، تمر كأي حدث عابر، فلا ينصب لها الأعراب ولا يولونها أدنى اهتمام، بل إنهم إذا تناولوها فإنما لمزيد طمس الحقيقة وتمييع المصاب وتسطيح الوعي وتغريب الناشئة العربية وإبعادها عن أمهات مشاكلها التي قد لا تجعل من مستقبلها مهددا فعليا، بل وفي طريقه لظلام أشد حلكة وأكثر سوادا.