من كثرة ما يحكى عن الفساد،بات كثيرون يعتقدون أن البلد ذاهب إلى عهد جديد تحكمه قواعد الحوكمة في الادارة العامة والخاصة،وأن المؤسسات الرقابية ستأخذ دورها وتمارس مهامها كما يجب بعدما عطلّت لعقود وحيل دون تأدية وظيفتها الأساسية التي لأجلها أنشئت وهي ضبط الاداء الإداري والانفاق الحكومي وفق القواعد القانونية الناظمة لعمل الادارة العامة ووفق قواعد المحاسبة العمومية . والمفارقة الأنكى،أن الذين يدعون إلى مكافحة الفساد هم القوى الممسكة بمفاصيل السلطة،بحيث يبدو وكأن الفساد بعيد عن أدائها ومدار حياتها السياسية . هذه الحملة السلطوية على الفساد،تذكر بالحملة ضد الطائفية السياسية.فيوم دعت القوى الوطنية التي تنادي بإلغاء الطائفية السياسية وإقامة الدولة المدنية العلمانية،بادرت قوى سلطوية ذات بنية طائفية إلى تصدر المشهد السياسي والاعلامي وركوب موجة الحراك الشعبي وكانت النتيجة إن أجهض الحراك ولم يصل إلى مبتغاه وفرض نفسه كقوة تغييرية. وكما الحملة أمس على الطائفية تصدرتها قوى السلطوية فإن الحملة اليوم على الفساد تتصدرها قوى سلطوية كلٌ يحاول نفض يديه من دم هذا" الصديق" . إن الحملة السلطوية على الفساد ومن أطراف المنظومة الحاكمة لن تصل إلى غاياتها المنشودة،لإن من يمارس الفساد أو يحميه أو يستفيد منه مباشرة وغير مباشرة،لا يمكن أن يكون راغباً في مكافحة الفساد. إن الفساد لم ينتج عن اختلالات في قواعد المحاسبة العمومية وحسب،ولم يستشر بسبب سوء الادارة وتعميم نظام الزبائينة المالية والسياسية،ولا بالرشى والارتشاء ولا بهدر المال العام،وهذه كلها من مظاهر الفساد. بل الفساد هو منظومة متكاملة من السلوكيات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية تحولت بفعل الحماية السلطوية لها إلى ما يشبه الثقافية السياسية عبر الانقلاب الذي حصل علىى المنظومة القيمية لقواعد الانتظام الاجتماعي العام والذي أدى إلى تعطيل مؤسسات المرفق العام وحال دون قيامها بدورها المطلوب منها . فالتهرب من الضريبة هو فساد،والتعدي على الأملاك العامة هو فساد والوصاية السياسية على المرفق القضائي هو فساد،وسرقة المال العام والهدر وتمرير الصفقات المشبوهة هو فساد وتعطيل دور المؤسسات الرقابية هو فساد،والرشوة هو فساد،وحماية الاتجار بالمخدرات هو فساد ومصادرة وظيفة الدولة الأمنية هو فساد،وإقامة سلطات أمرواقع خاصة موازية للسلطة العامة هو فساد،وتزوير الانتخابات هو فساد واللائحة تطول وتطول .وهذه المظاهر المتعددة من أشكال الفساد،يمارسها كل من يشارك في هذه السلطة بطريقته الخاصة . إذا كان كل الذين في المنظومة السلطوية يدعون إلى مواجهة الفساد وكلهم في ممارساتهم ينضوون تحت خيمة هذه المظاهر،فمن هم الفاسدون إذن؟ إذا كان كل هؤلاء غير فاسدين ،فلم يبق إلا المغلوب على أمرهم ليكونوا هم الفاسدون ؟ إن مكافحة الفساد وهي ظاهرة قائمة في بنية النظام اللبناني منذ أمد ،إلا أنها لم تصل كما هي الحال اليوم والسبب بسيط،هو أن الفساد استشرى،لأن الدولة بما هي ناظمة للمجتمع السياسي قد صودر دورها وباتت هي الأضعف بين القوى السياسية الممسكة بمفاصل السلطة أو في التأثير فيها. وبالتالي فإن محاربة الفساد تبدأ من نقطة انطلاق واحدة هي إعادة الاعتبار للدولة،واعتبارها فوق الجميع ،واعتبار قوانينها النافذة واجبة التطبيق على الجميع دون محاباة وبعيداً عن كل أشكال الزبائنية . وعندما يعاد الاعتبار للدولة،وينتظم الجميع تحت سقف قوانينها ولا تعود المصلحة العامة تطوع لحساب المصلحة الخاصة،يمكن عندئذ القول أن الحملة على الفساد تكتسب بعضاً من المصداقية. من هنا، فإن محاربة الفساد،تبدأ بالدخول في مشروع الدولة وإلا عبثاً الحديث عن إصلاح سياسي ومالي وأمني والدولة هي الحلقة الأضعف في نظام قوي تحكمه قوى المحاصصة الطائفية والسياسية . إن الشعب هو المتضرر الأكبر من الفساد يريد وأداً لهذه الظاهرة،لكنه يريد مواجهتها بصدقية وليس باستغلال معطياتها لتكوين ملفات تطرح في مواجهة ملفات الأخرى،بحيث تكون هذه الملفات مقدمة لانتاج تسويات جديدة بين قوى المحاصصة والتي تتغذى من بيئة الفساد المتعددة الأشكال . إن الفساد هو منظومة متكاملة،والشعب يريد فعلاً اسقاطها، لكن هذا الاسقاط لا يتم بتكوين الملفات المتقابلة بل بإيجاد منظومة جديدة قوامها المواطنة في الانتساب إلى المجتمع السياسي وهو أحد أركان الدولة الحديثة وعكس ذلك هو لمجرد الاستهلاك الاعلامي .