مع اشتداد خضم صراع النفوذ في العراق بين المُعسكرين الأميركي والإيراني، يتطلع الشارع بصمتٍ وترقّب إلى ما ستؤول إليه أمور البلاد، وينقسم البعض بين مؤيّد للانتشار الأميركي الجديد، ورافض له .. كما لاحظنا كثرة الجدل بين الساحات الوطنية، وتصاعد الاتهامات بين البعض بين شرعنة احتلال أميركي جديد، أو مؤيّد لإيران وعملائها! بداية نقول، إنّ العراق مُحتلٌّ منذ عام 2003، ولم يتحرّر حتّى الآن، فليس ثمة احتلالٌ قديم وجديد، بل هو احتلالٌ ممتد يتقلب بين وجهين، أميركي وفارسي، فدائمًا ما كان العراق واقع تحت نفوذهما منذ لحظة الغزو حتى يومنا هذا، وحين يدعم أحدهم الحوار والتفاوض مع المُسبّب الأول لهذه الفوضى التي خلّفها الاحتلال، فهذا لا يعني البتة أنّه أعطى الثقة بعدوّه أو بأنّه يراه مُخلّصًا ومُحرّرًا! السياسة لمن يفهمها ويجيد التعامل بها، هي فنّ الممكن وانتهاز الفُرص، ولا مكان للعواطف فيها، بل هي عملية التقاء مصالح لا أكثر، فلا صداقات دائمة ولا تحالفات مصيرية.. لذلك حينما نلمس بأنّ هنالك تغييرات في سياسة الإدارة الأميركية الجديدة تجاه إيران ونظامها، مع وصول ترامب إلى قيادة البيت الأبيض، فعلى كل عاقل استغلال تلك الفرصة في فتح قنوات حوار مع التزام الحيادية بين الطرفين المتصارعين، أي نفاوض وفق مبادئنا ومرتكزاتنا الأساسية دون المساس بوحدة واستقلال العراق، لكننا لن نكون طرفًا في الصراع الأميركي-الإيراني، بل نتمنى أن يكون بأسهما بينهما شديدًا! تعلمنا من التاريخ ودروسه العميقة، أن التفاوض والحوار دائمًا ما يكون بين عدوّين لا صديقين، فالأصدقاء ليسوا بحاجة لأن يفاوضوا بعضهم، أو الجلوس على طاولة حوار لحلّ مُعضلة أو مشكلة ما، بل ذلك يحصل بين الأطراف المتنازعة والمتخاصمة، كما حصل بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين في الحديبية، وكما حصل من جلوس وتفاوض في الجزائر 1975 بين العراق وإيران، وكما حصل عام 1991 في صفوان بين العراق وأميركا.. كلها لم تكن لقاءات أصدقاء، ولا داعمين لبعض، بل خصوم وأعداء جلسوا للتفاوض حول أمر ما، بغية الوصول إلى نقطة تتلاقى فيها مصالح جميع الأطراف المتنازعة .. والعبقريُّ هو ذاك الذي يجني ثمار تصادم عدويّه وتناحرهما لصالحه، فالحرب خُدعة .. ويحيا العباقرة!