بعد قرار الرئيس الأميركي ترامب انسحاب بلاده من اتفاقية الصواريخ المتوسطة مع روسيا، لم تنتظر الأخيرة طويلاً لإعلان موقف مشابه كرد على الموقف الأميركي. هذه الاتفاقية التي أعلن الطرفان الأميركي والروسي الخروج منها، لم تكن الوحيدة التي كانت تفرض ضوابط على حيازة السلاح بينهما، إذ ثمة اتفاقية أخرى، هي سارت (1) التي وقعت عام / 1991، وانتهت صلاحياتها في كانون الأول 2009، لتوقع بعدها اتفاقية سارت (2) والتي حددت فترة نفاذها بعشر سنوات. أي أن مدة هذه الاتفاقية ستنتهي هذه السنة، فإذا لم تمدد، فإن الأمور بين البلدين ستعود إلى المربع الأول، خاصة وأن اتفاقية سارت تناولت خفض الأسلحة الاستراتيجية لكل ما له صلة بالسلاح النووي على مستوى الصواريخ البعيدة المدى الحاملة للرؤوس النووية ومنصاتها والغواصات التي تطلق منها صواريخ نووية والقاذفات الثقيلة. فهل القرار الأميركي الذي قابله قرار روسي مماثل واحتمال عدم تمديد اتفاقية سارت (2) سيفتح المجال أمام سباق تسلح جديد بين الدوليتين الأهم في المعالم على صعيدي التصنيع والتسويق العسكري؟ مما لا شك فيه، أن خروج الطرفين من اتفاقية الأسلحة المتوسطة المدى والمقصود بذلك المنظومة الصاروخية، سيعيد الوضع إلى مرحلة ما قبل الاتفاقية. وهذه العودة ستدخل البلدين في سباق على التسلح، لسببين: الأول، الحاجة الذاتية، أي حاجة السوق الداخلي، والثاني، حاجة السوق الدولي، خاصة وأن منظومة هذا السلاح لا تندرج ضمن منظومة ما يسمى بأسلحة الدمار الشامل الاستراتيجية المشمولة بإتفاقية سارت .وإذا لم تمدد اتفاقية سارت، فإن العودة إلى سباق التسلح لا تعود تقتصر على السلاح المتوسط وإنما يطال السلاح الاستراتيجي الذي حددت مواصفاته اتفاقية سارت... وبتقدير أولي، ان اتفاقية سارت، لا تتوفر في ظل المعطيات الحالية محفزات ذاتية لخروج منها، لأن كلا الطرفين يعتبران أنهما يحوزان على قدرات ردع متوازنة، وهذا السلاح لا يمكن تصديره، وبالتالي فإن الأرجح أن اتفاقية سارت ستمدد لفترة أخرى . أما لماذا أقدمت أميركا عل الانسحاب من الاتفاقية ؟ قد تكون هناك أسباب عديدة، بعضها يرتبط بإعادة تنشيط قطاع التصنيع العسكري الأميركي وهو قطاع نشط من شأنه أن يؤدي وظيفة داخلية في توفير فرص عمل إضافية كما وعد ترامب، وبعض آخر يرتبط بتأمين حاجة السوق الدولي خاصة أسواق الدول التي تبني ترسانات عسكرية ولديها إمكانات مالية .وإذا لم تتقدم أميركا لسد حاجة هذا السوق، فإن روسيا والتي تملك بالأساس فائضاً كمياً من هذا السلاح قادرة على تلبية حاجات هذا السوق. لكن ما يمكن اعتباره سبباً أساسياً لاتخاذ ترامب لقراره، هي الاستراتيجية الأميركية الرامية الحؤول دون إعادة تشكيل نظام دولي جديد، على قاعدة الثنائية التي كانت قائمة حتى انهيار النظام السوفياتي، أو على قاعدة التعددية القطبية التي تطمح إليه بعض الدول الصاعدة وأولها الصين. انطلاقاً من هذه الخلفية للاستراتيجية الأميركية التي تريد الإمساك بمفاصل القرار الدولي، تعمل أميركا على أكثر من خط. الخط الأول، العمل لإبقاء الدولار الأميركي المرجعية النقدية الدولية التي تحتسب بالاستناد إليها قيمة العملات الأخرى، وأسعار المعادن الثمينة والثروات الطبيعية وخاصة النفط منها. ولهذا عملت على تقليم أظافر اليورو وقبله الين للحؤول دون بروزهما كعملتين منافستين في السوق النقدي والتجاري العالمي. الخط الثاني، استمرار تحكمها بنسبة عالية من المنظومة المعلوماتية وفي التقديرات الأولية أنها تتحكم بنسبة 75% منها. الخط الثالث،اعتماد أساليب "الحرب الناعمة" كبديل "للحرب الخشنة" لإسقاط ومحاصرة وأضعاف المواقع التي تشكل حالة اعتراضية للاستراتيجية الأميركية، وعنوان هذه الحرب الناعمة هو نظام العقوبات الاقتصادية التي تفرضها أما واقعياً بالاستناد إلى قوتها الهائلة وأما بالاستناد إلى سن تشريعات أميركية .و"الحرب الناعمة" التي هي حرب تشن بأساليب الضغط الاقتصادي المتعدد الأشكال أعطتها أميركا أولوية لتنفيذ استراتيجيتها، بعد حرب فيتنام، لكن عندما ترى أن نظام العقوبات الاقتصادي يعجز عن تحقيق الأهداف المرجوة تلجأ إلى أسلوب الحرب الخشنة كخيار محسوب وكما حصل مع العراق. إن هذه الخطوط الثلاثة التي تعمل عليها الإدارة الأميركية توجه رسائلها إلى الدول الكبرى والصغيرة بقياسات القوة والفعالية وروسيا هي واحدة من هذه الدول. فهذه الدولة الكبيرة وذات القدرات العسكرية الهائلة والإمكانات الاقتصادية الكامنة في أرضها، هي من الدول المنافسة لكنها لا تملك عناصر القوة والتأثير التي تحوز عليها أميركا. فروسيا وأن كانت المركز المحوري للاتحاد السوفياتي سابقاً، هي اليوم دولة قطبية قارية، ولكنها ليست دولة قطبية دولية وطموحها أن تصل إلى هذا المستوى لكن في نظام متعدد الأقطاب لا تعود أميركا فيه الموقع المقرر الأول كما حصل عقب تفكك الاتحاد السوفياتي. من هنا، فإن أميركا التي تدخل في صراع مع القطب الصيني الصاعد تريد أن تضعف من عناصر القوة لدى المركز الروسي الذي يتميز بموقع متقدم عسكرياً لكنه دونه صعوبات في الحقل الاقتصادي. ولهذا فإن روسيا التي استطاعت خلال السنوات الأخيرة أن تستوعب بعض الآثار الكارثية لانهيار الاتحاد السوفياتي، تخطو خطوات عملية للخروج خارج حدودها لحماية ما تعتبره مصالح حيوية لها، واثبات وجودها كمشروع قوة منافسة في الميدانين العسكري والاقتصادي. لكن إذا كانت قوتها العسكرية، وازنة وتملك إمكانية ردعية، فإن أي تطور في أوضاعها الاقتصادية سيعزز من مكانتها الدولية. على هذا الأساس، ترى أميركا أن إدخال روسيا في سباق تسلح جديد سيستنزف جزءاً هاماً من قدراتها الاقتصادية، وسيحول دون تفرغها لتطوير اقتصادها وتقوية مركز عملتها على صعيد التبادل التجاري. إن أميركا في اتخاذها لهذا القرار، إنما تستحضر النتائج التي ترتبت على سباق التسلح إبان الحرب الباردة والذي بلغ ذروته فيما عرف بحرب النجوم والتي كانت إحدى الأسباب التي أرهقت الاقتصاد السوفياتي وأدت إلى تفكك تلك المنظومة الدولية. من هان، فإن روسيا إن عادت إلى سباق التسلح كما كان في السابق، تكون قد وقعت في الفخ الأميركي المنصوب لها، وهذا الفخ هو شرك تنصبه أميركا لمن تريد أن تتجنب مواجهة عسكرية مباشرة معه، فتلجأ إلى الأضعاف من الداخل، وهذا الأضعاف من بوابة استنزاف القدرات الاقتصادية في ميدان التصنيع العسكري سيكون عاملاً مرهقاً للاقتصاد الروسي وبالتالي فإنه ليس من مصلحة روسيا الاستجابة للرغبة الأميركية من موقع "الاعتزاز" بالذات، لأن هذه الحالة فيما لو حصلت فإنها تكون قد دخلت إلى الانحباس الاقتصادي، بقرار ذاتي من موقع رد الفعل . هل تستدرك روسيا خطورة استدراجها أم أنها ستقع في الفخ؟ سؤال تجيب عليه الأيام القادمة...