بلغ الوضع العربي مستوى من الانهيار لم يعد ممكنا معه مزيد الاكتفاء بأدوار المتابعة وانتظار بعض مفاجآت وحزم من الوعود قد تتحقق وقد لا تتحقق، فلا أوضح اليوم من حالة الوهن الشامل التي تطبع الفعل العربي الرسمي وقسما واسعا من العمل الشعبي كذلك. إن تناول تردي الأوضاع العربية بالاستعراض دون البحث عن حلول علمية وعملية جذرية، يبقى في أفضل الحالات ضربا من الترف الفكري العقيم الذي لا خير فيه ولا أمل. فلقد تحولت رقعة الوطن العربي إلى بحيرة مفزعة من الدماء، وغدت ساحات الوطن مسرحا للتفجير والتهجير والتقتيل والتدمير والتخريب الهائل والاستنزاف الموغل في تهرئة وتهديد الوجود العربي وهو ما لا يسلم من تداعياته عربي واحد سواء داخل الوطن أو حتى في المهجر، مهما تراءى له العكس. وفي الحقيقة، فإن هذا التدحرج المتسارع في مضمار الفعل العربي اليوم، هو نتيجة لتتالي المؤامرات الكونية المعلومة والمخفية على الأمة، وبالقدر نفسه هو مآل طبيعي لسياسات التعاطي العربي مع تلك الأحداث والدسائس وهي التي تنوعت بين التعامل معها بلامبالاة وبين غياب إرادة صدها والحد من مخاطرها تارة وسوء إدارتها وانعدام الخطط الكفيلة بذلك تارة أخرى، وبين الانخراط فيها وركوب موجتها في أبشع صور استهتار العرب بمصالحهم الحيوية والاستراتيجية. ولقد عبرت كارثة الغزو البربري الامبريالي الأمريكي للعراق عن ذلك بأبشع الصور، حيث توزع العرب بين مبارك لتقصد العراق وتدميره وبين متابع لا تهتز له قصبة وبين منغمس في تلك الجريمة الإرهابية الامبريالية غير المسبوقة في التاريخ البشري كله. وتكتسي كارثة غزو العراق خطورة مركبة، ففوق ما ألحقته به من دمار وجراح غائرة قد يستوجب تطبيبها زمنا طويلا، فإن تداعياتها على منظومة الأمن القومي العربي أخطر بكثير، فلقد تصدع النسيج العربي كاملا حتى إذا لم يستشعر العرب ذلك ويلامسوه. ولا أدلّ على ذلك من الخطوب التي جرفت ليبيا واليمن وسورية وتونس ومصر بدرجة أقل، ونزيف الفرقة العاصف بأبناء الأمة الواحدة وتشظيهم طائفيا ومذهبيا حتى ليناصب الواحد منها العداء المطلق للآخر. وفي الواقع، فإن تجاوز التفكك والتفكيك الحاصل ممكن ولو كان مضنيا. لكن يبقى أخطر انعكاسات الغزو الإجرامي للعراق هو قطعا ما أصاب العروبة والعرب من عجز مطبق واهتراء كلي نسف القيم والمفاهيم والاقتصاد والأمن، فغدت الأمة لقمة سائغة لجميع الأعداء. صعق العرب - رغم إنكار المناكفين - بهول الكارثة وحجم الفراغ المدوي نتيجة تدمير العراق، وتحسسوا أي هوان بلغوا وأي درع ثمين أضاعوا! فبدون العراق العربي الواحد الموحد الحر، والمبادر دوما للذود عن عروبة الأمة وحقوقها نظرا لثقله التاريخي والحضاري ولوزنه في معادلات الدفاع طيلة تاريخه، انتٌهِكت حرمات العرب جميعا، وَدِيسَتْ مقدساتهم بلا استثناء، وهتك الأعداء سترهم، فبلغ بهم الذل منتهاه. وبدون العراق، تراجع المد القومي العربي للحضيض، وخبا وهج أم القضايا العربية فلسطين في الضمير الجمعي العربي وفي العالم إلا في قرار قلّة طلائعية مؤمنة مدركة موقنة ملمة بتفاصيل تفاصيلها. وبدون العراق، بلغ استهتار الصهاينة بفلسطين وبالثوابت والمحرمات العربية مبالغ جنونية، واستفردوا بشعب الجبارين. ثم مروا لإعلان فلسطين المحتلة وطنا قوميا لليهود، وانتقلت سفارة أمريكا إلى القدس بقرار اعتباطي من ترامب، وهي الخطوة التي تم العدول عليها سابقا بفعل الدور التاريخي للعراق ونظامه الوطني بقيادة الشهيد صدام حسين وبفضل ثباته وجرأته وكفاءة ونضالية رفاقه، ثم رشحت صفقة القرن كمقدمة لتصفية القضية الفلسطينية تماما. ولم يكتفوا بذلك، فسرعوا من اختراقهم للداخل العربي لارتباك أغلب الأنظمة العربية وتواطئها، وحققوا إنجازات ومكاسب لم تحدث طيلة عقود من الصراع العربي الصهيوني. ومن مخلفات تدمير العراق، انقض العدو الفارسي بكل حقد القرون الطويلة وبمخزون الثارات العنصري الهائل على بلاد العرب، يقضمها جزءا فجزءا، فبلغت سياسة التَّفْرِيِس مستويات مرعبة في العراق والأحواز وسورية ولبنان، ناهيك عن المساعي الإيرانية المحمومة لخلخلة أمن أقطار الخليج ودورها التخريبي في اليمن، علاوة على مخطط التغلغل في الشطر الإفريقي من الوطن العربي. وبدون العراق مجددا، أعمل الفرس في العرب سيوف القتل على الهوية والتهجير القسري والتغيير الديموغرافي، وأججوا الفتن الطائفية لمزيد تمزيق الجسد العربي المنهك أصلا. وبدون العراق، كشّر الأتراك عن أنيابهم، وباتوا بدورهم يبحثون عن حصة لهم في الكعكة العربية المغرية، وولجوا حيث أمكنهم، وقفزوا لتتريك ما تحوزوا عليه لغياب عنصر الرد والردع العربيين وقلاعهما وفرسانهما. أَفَيٌعْقَلٌ بعد هذا ألا يسارع العرب باستعادة العراق للحاضنة العربية بتخليصه من الاحتلال المركب الأمريكي والإيراني؟ ألا يعلمون ألا خلاص لهم إلا بذلك؟ ألا يدركون ألا كرامة لهم بدون العراق العربي الحر الواحد الموحد؟ أما استوعبوا الدروس بعد؟ وهل من المقبول أن يضل العرب عن طريق ذلك؟ ألا إن ضلّوا فعلا، أو استكبروا، أو غرهم بالله وبأمتهم الغرور .. فما عليهم إلا الانخراط الآن الآن وليس غدا في المشروع التحرري الوطني والقومي والإنساني للمقاومة العراقية.. فهي كلمة السر لتجلية الغمة عن العراق، وإذهاب الشرور عن كل العرب .. وما دون ذلك فمزيد من الهوان والخسران! فهل من متدبر عاقل حكيم في هذه البلاد، ليتدارك الأمور قبل فوات الأوان!