الذي يده في النار ليس كمثل الذي يده في البرد، حقيقة لا جدال فيها، مثلها مثل حقيقة الاختلافات الهائلة بين الناس في الإدراك والوعي والفهم والعلم والقدرة على التفكير والابتكار والتكييف وبعد النظر والفطنة الخ. هذا التعميم لا يلغي الثوابت الأخلاقية والدينية والاجتماعية والوطنية والقومية والإنسانية التي يتوجب على سواد الناس الإمساك بها بعد معرفتها وهضمها حتى مع اليقين أن القبض عليه هو قبض على الجمر، ولكن مع هذا اليقين علينا كباحثين علماء أن نقر أن الذين يمسكون الجمر هم نخبة أو ربما نخبة النخبة وليس كل الناس ولا كل الشعب، وذلك لتفاوت القدرات وربما حتى القناعات. لكن علميا، علينا أن نفهم أن عوامل التعرية الفكرية والمعرفية التي عاشرت مجتمعنا العربي كفيلة بنسف الصلة بالثوابت كلا أو جزءا. فمن غير المعقول أن ننتظر من الملايين التي لا تجيد رسم حروف أسمائها على الورق أن تمتلك كم الإدراك الذي يمتلكه جمال عبد الناصر أو صدام حسين أو عزة إبراهيم أو ميشيل عفلق أو عبد المجيد الرافعي أو كارل ماركس أو المهاتما غاندي وإبن رشد، أو حتى علي السيستاني ومحمد باقر الحكيم وإياد علاوي وعدنان الباججي وطارق الهاشمي ومارغريت تاتشر و أوباما وجورج قرداحي، مع ملاحظة تفاوت الإدراك والعلم والمعرفة والفكر والأهداف والغايات المختلفة لمن ذكرناهم للاستدلال فقط هنا. إن نسبة الأمية في العراق قد إرتفعت خلال سنوات الحصار( 1998- 2003 ) لتصل إلى قرابة 80 ? من نسبة الكبار في البلاد وطبعا تتفاوت مكونات وأجزاء هذه النسبة بين بيئات البلاد المختلفة وخاصة بين الريف والمدن. ولا نمتلك إحصائية دقيقة لعدد الذين غادروا العراق خلال سنوات الحصار بحثا عن لقمة العيش من جهة أو بحثا عن سوق تتوفر فيها الحلويات والفواكه والسلع والخدمات التي انعدمت في العراق بسبب الحصار من جهة أخرى، ومعظم هؤلاء الذين هاجروا قد حملوا مشاعر ثقيلة وردود أفعال سلبية ووقع كثير منهم تحت قبضة المخابرات الدولية التي كانت تشتغل لتوفير عوامل إغراق العراق بالتزوير والكذب والشيطنة بعد غزوه واحتلاله وبالذات العامل البشري. وبين إشكاليات الوعي وإشكاليات الوقوع في شراك الإثم المغلف ببراقع المعارضة وتوجهات الامبريالية المتصهينة لحتمية تغيير النظام بأي ثمن وبأي طريقة، تشكلت في العراق فئات تتراوح بين من باع وقبض وتطلع ليقبض المزيد وبين يائس ينتظر فرجا للخروج من محنة الحصار الخانقة وبين من تركهم الحصار عظاما يكسوها فقط جلد متيبس، وطبعا بالمقابل هناك فئة غلبت حتى ذاتها وظلت تقارع الأهوال قبل الحصار وبعده ومازالت، وتلك هي الفئة القابضة على الجمر وهي ليست قليلة ولا تتصف بالندرة بل قد تكون أغلبية ولذلك كانت كل الاستحضارات قبل الغزو وكل الإجراءات بعده تستهدفها بالقتل والاعتقال والتشريد. في ضوء هذه الصورة المربكة والمرتبكة، وبعد أن صار الغزو والاحتلال حقيقة قائمة، يجد الكثير من العراقيين أنفسهم خارج أي قدرة على مقارعته وآخرين ينظرون لمن يقارع على أنه ( بطران وقصير نظر وعبثي ) وصارت ( العملية السياسية ) خيارا يقابله الاتهام بالإرهاب الذي يقود إلى الفناء أو السقوط في غياهب جب السجون والتهجير والملاحقة والاجتثاث والإقصاء، بمعنى أنها عملية تفرض القبول بها فرضا وبحد السيوف وفوهات البنادق وأزيز الطائرات، فتوزع العراقيون أفرادا وعوائل وحركات وأحزاب وقوى على التوزيعات التي نعتقد أنها كالآتي : * غالبية العراقيين من الأميين وعديمي القدرة على اتخاذ موقف سياسي مسؤول تجاه وطنهم، وقد استفادت إيران وأحزابها من هؤلاء الغائبين الحاضرين ( كثير منهم ) تحت غطاء ممارسة شعائر مذهبية لا تحتاج إلى إشغال عقل ولا إلى فعاليات ذهنية حيث يظن هؤلاء أن هذه الشعائر هي الدين وهي الطريق للخلاص والدخول إلى الجنة. * العاطلون عن العمل من جيل الحصار الظالم من الشباب الذين فتحت أمامهم بوابة رزق وحيدة هي الأخرى لا تحتاج إلى مهارات عالية ولا إلى تعليم، فتحت أمامهم فرصة التطوع في ما سمي بالحرس الوطني ثم لاحقا القوات الأمنية بأصنافها. وهؤلاء أيضا صاروا مرغمين في جلهم بضاعة للأحزاب العميلة المختلفة التي جلبها الاحتلال والتي كانت بلا قواعد جماهيرية. كلتا الطائفتين أعلاه صارتا مادة للمليشيات التي قدمت لهم رواتب مغرية وغطاء مذهبيا وسلطة كانوا يحلمون بها مكنتهم من رقاب الناس وممتلكاتهم وأمنهم المجتمعي عموما وهذه الأجواء هي ذاتها التي يتوسدها الجهل والإدراك المغي . * الأحزاب التي أدخلها الاحتلال وكذلك المليشيات. * مئات الآلاف الذين عادوا للعراق من الذين غادروا في زمن الحصار وفتحت أمامهم فرصة الانتماء للوضع الجديد لإثبات تقاطعهم مع النظام الوطني السابق كشرط لقبولهم في البيئة السياسية والمليشياوية الجديدة. * ملايين من العسكريين والمدنيين المحالين على التقاعد الإجباري وهم متهمون بدون تهمة كما أنهم هدف مستمر للتصفيات والملاحقة والاعتقال. * مهجرون بالداخل من المطلوبين للأحزاب الجديدة والمليشيات كونهم كانوا جزءا من النظام الوطنيٍ أو من مؤيديه، وهؤلاء تتهمهم الأحزاب التي أدخلها الاحتلال بأنهم هم السبب في انتصار العراق على إيران وعلى أنهم هم السند الذي اتكأ عليه النظام الوطني في مقاومة التآمر والتمكن وتحقيق الانتصارات في الحروب التي شنت ضد البلاد. * مهجرو داعش والحشد الصفوي وهم بمئات الآلاف من الأنبار وصلاح الدين وديالى والموصل وأجزاء من كركوك، وهؤلاء تحكمهم الآن بوصلات التغيير الديموغرافي الناتج عن خطة إنتاج داعش وسيطرة ميليشيات وأحزاب ايران على محافظات الثورة العراقية. * شيوخ ووجهاء وأمراء القبائل والعشائر الذين اشتراهم حزب الدعوة وشكل منهم نوري المالكي ما يسمى بمجالس الإسناد واستخدمهم لبث الفتن بين القبيلة الواحدة وتجنيد الشباب العاطل عن العمل في ميليشيات وحشد إيران الطائفي المجيش أصلا للمساعدة في احتلال ايران للعراق وسوريا. * الحوزة ودولة العتبات التي لها جيوشها وقوانينها واستثماراتها وتوزيعاتها الجغرافية وتلعب أدوارا مرئية ومرحلية وأخرى غير مرئية واستراتيجية في طمس هوية العراق العربية وإلحاقه ضيعة ذليلة بدولة فارس فضلا عن كونها دولة مصالح للمرجعية السيستانية الفارسية. وتبعا لنتائج هذا التفتيت الخطير وما يتخلله من فقر وبؤس وفاقة وخوف وإرهاب وقلق واضطرابات اجتماعية وسايكولوجية وما يبنى عليه من تصورات واقعية منها ما هو سليم ومنها ما هو محلق في الخيال والوهم المنتج من الخوف والقلق والإرهاب، ارتسمت الخارطة السياسية العراقية في الوطن المحتل النازف قريبا من الموت، ولذلك صارت الخيارات : - أن العمل السياسي الوطني الشامل والعابر للـ ( أنا ) الحزبية والفئوية يجب أن ينطلق من فهم واقعي لما آلت إليه أحوال العراق وشعبه ومنها يرسم تكتيكات واستراتيجيات التحرير التي يجب أن تعلن عن نيات صادقة واضحة وخطط منظورة تبدأ من الدستور وتعبر إلى نوع الحكم والتشكيلة الوطنية للسلطة المبنية على الكفاءة والتي تسحق وإلى الأبد المحاصصات سيئة السمعة وكارثية النتائج. وإن العمل الوطني لتحرير البلاد لا بد أن يستحضر هذه الخارطة البشرية التي أنتجها الحصار والاحتلال، وبدون استحضارها يكون السياسي قد خسر جزءا أو أجزاء من الشعب. - أن أي مقاومة مدنية أو مسلحة يجب أن تعلن عن برنامج وطني شامل يلم شمل الجميع عدا من تلطخت أياديهم بدم العراق ودماء شعبه وهم بالأساس الأقطاب العليا لأحزاب البيع في مؤتمرات لندن وصلاح الدين ومن أنتجوا المليشيات والولاء لإيران ومن يحارب المقاومة . وأن تعلن ضمن برنامجها لإنتاج الدولة المحررة أنها لن تحارب الشعائر والطقوس التي يرى البعض أنها طائفية أو دخيلة ولن تمنع ممارستها بالقوة والعنف والإكراه، بمعنى أن تعلن عن احترامها للشعائر المعبرة عن قناعات الناس حتى وإن كانت خاطئة، ففي بلدان لا تعد ولا تحصى يمارس الناس شعائر وطقوس مخجلة للإنسانية دون أن يمنعهم أحد، وأمريكا تمارس كل أنواع الإباحية واللوطية والمثلية تحت حماية القانون وغطاء حرية الفرد الإنسان. فلا ضير من الإعلان عن عدم التعرض لزيارات المراقد واللطم والطبخ والمنابر شريطة أن لا تكون غطاء لإيران المحتلة أو المتدخلة بشؤوننا فالمذهب عراقي عربي وليس فارسيا أولا وأخيرا. إن هذه النقاط التي ذكرناها تحتاج إلى دراسة وتعمق وتنقيح وتعديل لأننا نرى أنها جديرة بأن ترقي إلى مستوى التبني سياسيا وإعلاميا.