لاشك أن الأنانية هو بلاء ابتلي بها ضعفاء النفوس فهم عندما يكون مجتمعهم في حالة سليمة وطبيعية تجدهم يتشدقون بانتمائهم لهذا المجتمع وتلك العشيرة أو الوطن فبمجرد أن تحل المحن والأزمات تجد هؤلاء يتنكرون ليس فقط لوطنهم بل حتى لعائلاتهم ويظهرون على حقيقتهم وما يتأبطون من شر وخيانة ويصبحون بين عشية وضحاها إلى أبواق دعائية لأعداء الأمة خدمة لأنانيتهم الضيقة المحشوة بالرذيلة والنذالة لقطف بعض الثمار حتى ولو أنها متعفنة . هكذا هو حال بعض السياسيين والإعلاميين ورجال الدين الذين ينهالون على الأمة العربية المريضة بتحاليل وفتاوى وأكاذيب لتعميق جراحها وينعتوها بأبشع الصور ويبحثون في التاريخ فقط بما يسئ إليها ، ويتنكرون أو يتناسون ما حققته عبر قرون من الزمن في مجال العلم والأدب والفنون ويتناسوا أن أرضها مهبط الأنبياء والرسل ارتوت بدماء الشهداء والصالحين . صحيح أن الأمة اليوم تعيش أسوأ مرحلة في تاريخها المعاصر صحيح أن ما تعيشها من أزمات لا يليق بماضيها المجيد ولكن قيم الرجولة لا تسمح لنا بالتخلي عن دورنا في العمل على إنقاذها وإنقاذ مستقل أجيالها حفاظا على كرامتنا. هذه هي حالة الجبناء الذين يتهربون من تحمل المسؤولية أو ينسحبون من الساحة تاركين الأمة تنهشها الذئاب. الرفيق أحمد ميشيل عفلق رحمه الله معبرا عن موقف البعث عن هذه المرحلة بما يلي : ( إنني كلما فكرت في حالة امرئ كهذا ترتعد فرائصي ذعرا من صورة الشقاء الذي يضمه وصقيع العزلة التي تنأى به ... أي ضيق في أفقه وأي فقر في روحه ، وأية تفاهة وشحوب في حياته ؟ يعيش عمره وهولا يدري ،هو فرع من نبتة تغور أصولها في أحشاء الماضي ، وتمتد أغصانها على امتداد العصور ، ولا يعلم أنه واحد من الذين تعاقبوا خلال القرون و الأجيال فحرثوا الأرض شادوا العمران واعملوا الفكر وأذابوا الأرواح وحاربوا وسقطوا صرعى الحروب ، كل ذلك ليكتبوا تاريخ أمتهم سطرا سطرا، وليرفعوا بنيانها حجرا حجرا وليوضحوا عبقريتها ويتابعوا رسالتها . وكل هذه الملايين جاهدت وجادلت وصارعت العواصف وصمدت للنكبات لكي تخرجه من ظلمات العدم إلى نور الحياة لكي تلده هو ، هذا الغافل الناسي ، لتغنى حياته بحياة الملايين ، وتدعم نشاطه بجهود مئات الأجيال ولتحمله مسؤولية الماضي وشرف المسؤولية ، لتوجد له اسما ينادى به وملامح تعرفه بين الأمم ، كي لا يبقى زيدا أو بكرا من الناس ، بل ليستطيع القول إذا تفاخرت الشعوب : أنا عربي . قد يكون قاسيا هذا القدر الذي ألقى بنا في عصر الضعف والمذلة والتأخر والتفرقة ، بدل أن يوحدنا في عصر الوليد أو الرشيد ، فنستند إلى دولة عزيزة ومنيعة ، وشعب ناشط موحد الكلمة ، وحضارة ساطعة الضياء . وقدر يكون القدر أحيانا قاسيا ولكنه عادل أبدا ، فهو لا يوزع البطولة إلا بنسبة الصعوبة ، ولا يورث المجد إلا بقدر الجهد . فلن تكون في نظره بطولة الذين يجاهدون اليوم ليحرروا بلادهم من استعمار الأجنبي وخطر التجزئة وينشلوها من هوة الجهل والفقر ، بأقل من بطولة قتيبة وابن نصير . وإذا كان عصر الرشيد والمأمون قد اتسع لإنتاج الفلسفات ، والأدب ، فسيكون كل واحد من أبطال اليوم في نظر الجيل الآتي موضوع ملحمة خالدة وتكون تضحيته منشأ فلسفة جديدة ). هكذا يفكر المؤمنون الصادقون الذين وهبوا حياتهم من أجل نهضة الأمة والرفع من شأنها بين الأمم. فالصراع اليوم ليس فقط صراع بين الأمة وأعدائها بل هو صراع الإنسان العربي مع ذاته ، إما أن ينحاز إلى الأمة ويحبها كما هي بسلبياتها و محاسنها ويعمل على أن تخرج من دائرة الضعف إلى دائرة القوة ، أو ينحاز إلى ذاته التي مهما بلغت من الذكاء والدهاء واستفادت من مكاسب الدنيا إلا أنها ستؤدي بصاحبها إلى مزبلة التاريخ . فالأعداء يملكون كل وسائل التدمير وفرض منطق القوة في السيطرة على مقدرات الأمة، ولكن الأمة تملك هي كذلك بذور الخير والمناعة من خلال القلة القليلة المكافحة في كل شبر من هذه الأرض كل في موقعه واختصاصه. فالبعثيون الذين تعرضوا للأذى بأبشع صوره بقوا على العهد صامدين يتحدون مغريات الدنيا ودسائس المغرضين ، وهذا دليل على أن الأمة ما زالت تلد الرجال وأن البعث يؤمن بانتصار الشعب العربي ويأمل فيه دائما إلا الخير لأن الأغلبية فيه تتعرض للظلم وهذا ما يؤجج فيها مواقف الرفض ولا تعترف لا للذين يدعون تمثيلها سواء الحكام ولا الحركات السياسية الدينية منها والعلمانية، ولا تعترف بالواقع المقروض . أحيانا نغوص في التحاليل السياسية والتيه في الفروع ينسينا أهم شئ لمعالجة أزمات الأمة هو الرجوع إلى الإنسان العربي الذي ينبغي أن يقف مليا ويستحضر العقل ويتدبر الأمور في تروي وعدم اللجوء إلى الانفعال السلبي الذي يحجب عنه الرؤية الصحيحة فيما يدور حوله ويحدد العدو الحقيقي . فالمحن التي مرت على الأمة أطهرت بعض الحقائق على الأرض ولا يمكن طمسها فأهمها هي التجزئة من صنع الاستعمار أنتجت وضعا غير طبيعي أضعفت الأمة وكبلتها بأنظمة قطرية حالت دون نهضتها وتطورها وعمقت حالة التخلف ففتحت المجال للقوى الإقليمية والدولية بالعبث بأمنها وذلك بتغذية الصراعات العرقية والطائفية كأدوات للتدمير بطاقات محلية وللأسف الشديد يتقاتل أبناء القطر الواحد خدمة لأجندات خارجية وبتواطؤ الأنظمة . فما هو مطروح للشعب العربي من مشاريع وأفكار من قبل السياسيين بمختلف مشاربهم كله يصب في خدمة الأعداء والشعب يدفع الثمن . رغم كل هذا فالمواطن العربي يصر على البقاء ويتشبث بالحياة حتى تحين فرصته ليعبر عن وجوده وأنه لم يقل بعد كلمته ومن يراهن على انبطاحه واستسلامه لا يمكن إلا وضعه في خانة الجبناء. وفي المقابل على القوى المؤمنة بالأمة أن تبذل الجهد الكافي للإفصاح عن أفكارها لكي تعلم الجماهير أنها تمتلك طليعة مؤمنة تثق فيها.