واحد وسبعون عاماً، من النضال المستمر في سبيل درء المخاطر عن الأمة العربية، كافية لإثبات جدارة البعث في حماية الأمة العربية من التبعية للاستعمار والصهيونية، ومنعها من الغرق في مشاريع قوى الظلام والتكفير. كما هي كافية لكشف قوى التزوير الإقليمية التي تدَّعى حرصاً على العلاقة بينها وبين العرب. واحد وسبعون عاماً، من النضال في شتى الاتجاهات، كافية للبرهان على محورية البعث في التصدي لأهداف القوى المعادية للأمة العربية، والتي تتلخص بالمواجهات التالية : - أولاً : ضد الصهيونية في فلسطين المحتلة. - ثانياً : ضد الاستعمار في مؤامرته لاحتوائها وتفتيتها ومنعها من التقدم وإبقائها جاهلة ومتخلفة. - ثالثاً : ضد حركات الإسلام السياسي، من أجل فكرها التكفيري وإعادة الأمة إلى عصور التخلف، وتحريضها ضد الفكر القومي، وخاصة أنه يتم الاستثمار فيها اقليمياً ودولياً على حساب الامن القومي العربي. - رابعاً : ضد قوى التبعية للعولمة الرأسمالية. ومن أجل الارتفاع بحق الأمة في التنمية الشاملة لنقلها من درك الاستسلام لمنهج الاستهلاك إلى سقف الانتاج. - خامساً : مواجهة الدعوات القطرية ودعوتها إلى المزيد من الالتصاق بالهوية القومية، لأنها بها وحدها يكتسب كل قطر قوة ومناعة من سقوطه واحداً تلو الآخر في أيدي الطامعين بثرواته، ومصادرة سيادته. سنوات طوال كان البعث فيها مصراً على أن يكون أول المضحين في سبيل ارتقاء الأمة العربية ووحدتها وحريتها واشتراكيتها. فهو مصرٌّ على أن يحمل سلاح الفكر مبشراً بأن القومية العربية لمنتصرة مهما طال الزمن، ومهما تكاثر أعداؤها. وعلى استخدام سلاح المقاومة في مواجهة أي احتلال. ويخوض معارك المواجهة في الشارع وعلى المنبر ضد فساد الأنظمة. بل هو الحزب الذي قاوم، وسيبقى مقاوماً، كل المشروعات المعادية لأهداف الأمة في العيش الكريم، وفي حقها في تقرير مستقبلها. وقاوم كل دعوات الاجتثاث التي دفع في مواجهتها مئات الآلاف من حياة أعضائه، قيادات وقواعد. كانت البداية باعتبار فلسطين قضية العرب المركزية، فانخرط بالعمل الفدائي الفلسطيني منذ انطلاقته الأولى، واستأنفه بتأسيس جبهة التحرير العربية لتمثل العمق القومي للمقاومة الفلسطينية. ومروراً باعتبار الوحدة العربية حقاً ضرورياً فبادر إلى إعلان الوحدة بين مصر وسورية، واستأنفها بالعمل من أجل الوحدة بينهما مضافاً إليها العراق. واعتبر الثروة العراقية ملكاً للعراقيين والعرب فأمم النفط. واعتبر أن كل القوميات الأخرى المتواجدة ضمن حدود الوطن العربي من المكونات الأساسية للأمة العربية فأصدر بيان 11 آذار الذي قضى باحترام الخصوصيات الكردية في العراق. كانت مضامين الفكر القومي، وتطبيقاته العملية التي قام الحزب بتنفيذها في كل قطر عربي، وخاصة في العراق، سبباً أساسياً في إثارة مخاوف الدول الاستعمارية التي أعدت استراتيجياتها السياسية والاقتصادية والعسكرية لمحاربة القومية العربية، والعمل على إبقاء العرب مفتتين متخلفين. ولأن الحزب يؤمن بتلك الأهداف، أصبح نظامه الوطني في العراق، بما يمثله من وعي عميق لها، تحت مرمى السهام الصهيونية والاستعمارية والقوى الإقليمية المعادية، وحركات التكفير. وإذا لم تكن الظروف الدولية مؤاتية لتنفيذ عدوانها ضد العراق حتى التسعينيات من القرن العشرين، ولكن بعد أن أصيب النظام الدولي القديم بالخلل نتيجة انهيار الاتحاد السوفياتي، فقد أخذت تلك الدول تعد نفسها لتنفيذ مؤامراتها بحصار العراق في أعقاب العدوان الثلاثيني في العام 1991، انتهاء باحتلاله في العام 2003. إنه في الوقت الذي حسبت فيه أميركا أنها ستدخل العراق فيستقبلها شعبه بالورود، فقد تفجَّرت الأرض تحت أقدام جنودها، وجنود حلفائها، وانفتحت أبواب جهنم في وجوههم كما عبِّر عن ذلك طوني بلير، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق. بينما كانت ورود نيسان وأزهاره تتفتَّح تحت أقدام المقاومين العراقيين، وفي المقدمة منهم القائد صدام حسين، والذي تابع القائد عزة ابراهيم، رفيق دربه الطويل، مسيرة المقاومة التي ما زالت مستمرة حتى الآن. قي نيسان هذا العام، وبعد هزيمة الجيش الأميركي، ومع استمرار المقاومة ضد النظام الإيراني، الشريك الفعلي للاحتلال الأميركي، فقد حصلت بعض المتغيرات على الصعيد الدولي والعربي، لجهة منع أميركا من قيادة العالم بقطبية واحدة، أو لجهة البداية في صحوة عربية، وإن أتت متأخرة، إلاَّ أنها اكتشفت أنها وقعت ضحية احتلال العراق. وأصبح أمنها الوطني مكشوفاً أمام التهديدات الإيرانية، في الوقت الذي أدارت فيه أميركا ظهرها لهم، واضعة مصالحها في سلة إيرانية لسبب تشابه مشروعيهما في إعلان العداء للعرب، ومنعهم من ممارسة حقهم في الوحدة والتحرر من أي نفوذ خارجي. لم تكن مرحلة مقاومة الاحتلال الأميركي وإلحاق الهزيمة به، تشكل الفصل الأخير في برامج المقاومة، والتي وقفت وحيدة في مواجهتها، بل جاءت بعدها المرحلة التي سلَّمت فيها أميركا العراق للنظام الإيراني، ولذلك أعلنت المقاومة استمرارها في منع فرسنة العراق بعد أن نجحت في منع أمركته. وإذا كانت المرحلة الثانية ما زالت تتوالى فصولاً حتى الآن. وإذا كانت قد شهدت متغيرات في مواقف بعض النظام العربي الرسمي، باتجاه إدراك خطورة الدور الإيراني، عندها بدأت مرحلة جديدة تشكل نقطة انطلاق في مسيرة المقاومة، لأنها المرة الوحيدة منذ العدوان الثلاثيني التي شعر فيه بعض النظام العربي الرسمي بخطورة ما يحدث، وأعلن أن هدفه الاستراتيجي الأول هو قطع أذرع الأخطبوط الإيراني من التمدد أكثر باتجاه تهديد الأمن القومي العربي برمته، وذلك كخطوة أولى على طريق اقتلاع كل تلك الأذرع تماماً ومنعها من الاستيلاء على الوطن العربي كله. وإذا كان نيسان هذا العام ما زال واعداً في إحداث المزيد من المتغيرات باتجاه إعادة صياغة مبادئ حماية الأمن القومي العربي، فإنه في الوقت ذاته يحتمل فشلها. وأما الأسباب فكثيرة، ومن أهمها : -مع الوثوق بمصداقية الهدف الاستراتيجي الذي أعلنه بعض النظام العربي الرسمي، باعتبار النظام الإيراني يشكل الخطر الأساسي على الأمن القومي العربي، في هذه المرحلة. إلاَّ أن الخلل في الوسائل التي تُعتمد في الوصول إلى تحقيقه قد يحمل الفشل الذريع، الأمر الذي يقتضي مراجعة تلك الأنظمة وسائلها. وأما السبب فيعود إلى ركونها في المراهنة في الحلول على عاملين: 1- الوعود الأميركية التي تشكل سراباً لا يمكن الاطمئنان إليه. ولأنها ليست المرة الأولى التي تغدق الإدارات الأميركية وعودها السرابية، وتتراجع عنها فيما بعد. 2- ووعود القوى والتيارات السياسية العراقية العميلة للاحتلالين، خاصة وأنها مارست الخيانة والفساد والجريمة المنظمة، بحق العراق والعراقيين. فهي لن تكون أمينة لعلاقاتها مع الدول الأخرى. ولذلك فالمراهنة عليهما في وضع الحلول، أو المشاركة بها، لهو ضرب من الاستحالة والعبثية. وإذا كان احتمال الفشل في الوسائل وارداً، بكل ما له علاقة بالتصدي لأهداف النظام الإيراني الخبيثة في العراق أولاً، كخطوة لا بُدَّ منها لحماية الأمن القومي العربي ثانياً، فإن الحزب وإن كان يعتبر الخطوات والأهداف المرحلية مشروعة في الممارسة السياسية، إلاَّ أنه يخطط من أجل تحقيق أهدافه بناء على ثوابت استراتيجة، وعن ذلك، ماذا يحمل نيسان هذا العام من وعود؟ - على المستوى العراقي، وباعتبار تحرير العراق قضية مركزية، فإن المقاومة العراقية وإن كانت تعمل للاستفادة من المتغيرات على الصعيد العربي، إلاَّ أنها تعتبرها إحدى وسائل التحرير من الاحتلال الإيراني، وليست كلها، بل تشكل جزءاً مرحلياً منها، على أن يكون مرتبطاً مع الهدف الاستراتيجي المُعلَن: تحرير العراق بشكل شامل وكامل من كل احتلال مهما كانت ألوانه وأشكاله. لذا يحمل نيسان هذا العام، وكما هو الحال منذ عشرات السنين، بشائر استمرار المقاومين العراقيين في الخندق المواجه للتصدي للاحتلالين الأميركي والإيراني في العراق. ويصر على اقتلاع جذور ( العملية السياسية ) التي تستجيب لإملاءات الاحتلال المركِّب. وهي إذ حددت أهدافها بدقة محسوبة، وإن كانت تراهن على تحولات سياسية تعضد معركتها وترفدها بإمكانيات إضافية، إلاَّ أنها تؤمن أولاً وأخيراً بأن سواعد المناضلين في صفوفها، من شتى أطياف العراق من الوطنيين والقوميين، هي القوة الأساسية والقاعدة الأقوى التي تقف عليها، وتصر على متابعة النضال وحيدة فريدة، مدعومة بإيمانها بحق العراق بالتحرر والاستقلال، وبناء نظام وطني يعيد تحصين حدود الوطن العربي الشرقية من أي اختراق أو أي عدوان. - وإذا كان الحزب على المستوى القومي، قد استطاع أن يشق طريقه بثبات، ويعزِّز حركته التي لم تتوقَّف منذ واحد وسبعين عاماً، فإن نيسان هذا العام يحمل أزهاراً ووروداً ورياحين، تؤكد أن نيسان البعث يبقى واعداً بالعطاء مهما تكاثرت حوله العوائق والعراقيل. وتبقى وروده يانعة ملوَّنة باللون الأحمر القاني بلون دماء شهدائه الذين قضوا في خنادق المقاومة العسكرية، ومعطَّرة بعبق الغبار الذي تطلقه حركة نضال مناضليه في الشوارع وفي الأزقة حيث تكون الجماهير الكادحة. وفي المعتقلات التي يُزجُّ فيها المناضلون المكافحون في سبيل حقوق العمال والكادحين. وإن كنا سنخص بعض الأقطار بالذكر فلسمات تتميز بها في حركتها الآن، فهذا يشمل أيضاً أن ساحات المناضلين البعثيين في كل أقطار الأمة لفي المستوى الذي نعتز به من الحركة والنضال. - كما يحمل نيسان هذا العام بشائر التحدي الذي يعلنه البعثيون في السودان ضد نظام القمع والاستغلال، وقد أثبتت سنوات نضالهم السابقة مدى تمسكهم بأهداف الجماهير السودانية، وقد برهن حراكهم على أن قدرات الجماهير هي الكفيلة بتحقيق الأهداف، ورفضوا أي مساعدة خارجية، لأن كل مساعدة من الخارج لا بُدَّ من أن تكون مشبوهة. فكان الأنموذج السوداني، في الحراك الشعبي، هو الرمز لكل الثورات التي يجب أن تكون نظيفة نقية من أية شبهة. - كما يحمل نيسان هذا العام، باقات من الورود إلى البعثيين في لبنان، خاصة أنهم يسطرون اليوم صفحة جديدة في النضال الشعبي، وهم بعد أن ملأوا الشوارع مطالبين باجتثاث الفساد، والطائفية السياسية، فإنهم يقتحمون الآن بوابات الترشيح للانتخابات النيابية بعد أن كانت مقفلة عليهم وعلى غيرهم من الوطنيين الذين صدقوا الوعد وأوفوا به تجاه جماهير العمال والفلاحين وكل طبقات المجتمع اللبناني المحتاجة. وأخيراً، ومن أجل نيسان آخر، وحتى أبد الدهر، سيظل فكر حزب البعث العربي الاشتراكي، في كل مكان على أرض الوطن العربي الكبير، نوراً ساطعاً لن تطفئه أحقاد الحاقدين. وسيبقى الوفي لوعوده، طالما ظلَّت عروق بعثي واحد تنبض بنسغ أهدافه في الوحدة والحرية والاشتراكية.