بعد كد طويل ومعارك طاحنة مع المحاظرات والملخصات تخرج صديقنا وكله فخر بأنه أصبح من ذوي الإختصاص مقبلاً على أبواب المستقبل الموعودة, عاد الى بيته مزهواً ملقياً على أهله خطابه المكلل بالإنتصار في جو مليء بالغبطة والإنشراح. مر إسبوع على التخرج ولا يزال صديقنا على حاله يسير متغطرساً بنصره, أنسته لذة التخرج أن بلده بل محافظته بل منطقته مدجنة بأصحاب الشهادات ومختلف التخصصات وكذلك هو حال عائلته البسيطة فجدران الإمتياز والجيد جداً تزين صالة بيتهم, فأباه المتقاعد لم يشهد زمن البطالة أما إخوته فقد إستبدلوا شهاداتهم الفخرية بالهندسة والتعليم بشهادات حرف تشهد لها ندبات اليد وعرق الجبين في ضل كابوس البطالة. لم يعط صاحبنا أي إعتبار لحال من حوله في زمن البطالة مصراً على رحلة بحثه عن العمل فدار على مكاتب التشغيل ووزع سيرته الذاتية على أصحابها لبدء حياته العملية, توالت الشهور وهو ينتظر رنين الهاتف معلناً عن نقطة البدأ, ولكن لم يسر الأمر كذلك فلا رن هاتف ولا أُعلن عن بدء مشوار حياة. يأس صاحبنا من مكاتب العمل, خرج في صباح اليوم التالي متأنقاً متعطراً باحثاً عن عمل مكتبي يواسي به يأس إختصاصه, جال بشهادته على الشركات والوكالات ودوائر الدولة فلم يجد منهم سوى الرفض جواباً لطلبه. قرر صاحبنا ان يهاجر فلا أمن في وطنه ولا عمل يرتزق منه, بدأت رحلته بحلوها ومرها ليستقر بختامها في بلد أوربي طالباً يحاول تعلم اللغة من جهة ويعتاد على الغربة من الجهة الأخرى. وبعد أن أنهى ما عليه من فروض, جاء ما كان ينتظره, ذهب الى مكتب العمل وقدم أوراقه ومن ضمنها وثيقة التخرج المترجمة المصدقة. تطلع بها موظفي مكتب العمل, سيدي شهادتك لم تستوفِ الشروط وتحتاج الى معادلة, ومدة هذه المعادلة قد تطول بين بيروقراطية المكاتب وصفوف المصطلحات ثم دراسة مواد المعادلة. لصديقي هذا إصرار وعزم, لم ييأس بادئاً رحلته الجديدة في معادلة الأختصاص حتى أنهاها ويا لها من راحة, وأخيرا سأشغل وظيفة مرموقه تليق بتخصصي وتعبي. اصطدم رأسه بالحائط فقطعت حبال بهجته, ولا يزال دوار الصدمة يلح عليه اوجاعه وكإنها ستين خبطة وليست واحدة, عاد الى مكتب العمل وقدم أوراقه وهي مستوفاة لكل الشروط وموقعة بكل الأختام ومعادلة أوربياً. الموظف : نعم أوراقك كاملة ولكن هناك مشكلة واحدة. شنو المشكلة؟. الموظف : إختصاصك غير مطلوب للعمل هنا, هل لك أن تعمل موزعاً للصحف ؟؟ شنو لك بابا شوف أوراقي يا موزع يا بطيخ. تطلع الموظف بوجه صاحبنا قائلاً ( نكعها وإشرب ميها ) , يبدو أن الموظف عراقي الأصل أو إن المثل العراقي قد هرب كبقية البلاد من الإندثار حتى وصل بلدان الغرب. صاحبي هذا مثال بسيط على العديد من القصص فنسبة البطالة في العراق غير مفهومة وغير واضحة كحال عمل سياسيوا الخضراء, تمتلك الدولة موازنة ضخمة ومخصصات فخمة جميعها محجوزة لموظفي الطبقات العليا وحاشيتهم, ولا أحد يعلم لماذا يحوزون كل ذلك ولأجل ماذا, لإمتلاكهم شهادات مزورة أم لخدمتهم الجهادية في كمبات الدعارة والرفاهية, أم لما سببوه من قتل ودمار فاقمت بجرمها ما سببه هولاكو قبل ما يقارب الألف عام. هرب الشباب بحثاً عن الأمن والعمل, فلم يجدوه بل وجدوا مجتمع لطيف يشوهُهُ سابقيهم الباحثين عن الأمن والعمل. بإختصار كتبت المعاناة على العراقي أينما حل, فقصة صديقي هذا لا شيء نسبة لقصص أخرى, إجتمعت جميعها على سوء الحظ وندبه. قلت له ذات مرة, لا تفقد الأمل فأجابني بهدوء .. نكعة وأشرب ميه.