ليس كل ما نسمع عنه او نقرأ عنه كما نتذوقه او نعيش وقائعه فليس منا من لا يسمع بالحج او يرى مناسكه ومحطاته من خلال شاشات التلفزة او وسائل الاتصال الاخرى لكن ان تكون في قلب الحدث فالأمر مختلف تماما . فمنذ زمن طويل كانت تستهويني فكرة الحاج استجابة لنداء الله ( ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا ) ولا شك أن تقوى الله هي أسمى الغايات وأغلى الأمنيات والتسليم لأمره يعني الفوز برضاه لذلك على الحاج أن يسلم أمره وماله وعائلته ودنياه لله مستجيبا لأوامره طائعا لكسب رضاه مقلدا لسنة نبيه راغبا في ان يكون ضيفا عند خالقة بين بيته وشعائره وجزاءه وبشائره ليرى ما وعده خالقه من كرم رحمة وجلال مغفرة وعتق من النيران فأذا كنا نحن عباد الله نحتفي ونهتم ونرعى ضيوفنا ونقدم لهم اقصى ما يمكن من حسن ضيافة وجلال تدبير فكيف بخالقنا الذي كتب على نفسه الرحمة والود واللطف فلا حدود لكرمه وفضله ولا عدد لرزقه وعطائه فعندما يقصد المسلم زيارة بيت الله سيجد فيه مالا رأته عين ولا راودته فكرة ولا لامسته روح فالحجً غنيمة وعبرة للدنيا والآخرة وهو اكبر تجمع في عالم اليوم ملايين من المسلمين حرك قلوبهم وأثار مشاعرهم نداء الله في الحج وهو أرث الخليلين ابراهيم عليه السلام ومحمد المصطفى صلى الله عليه وسلم في مواسم معروفة وأيام معدودة للأيمان ( وأذكروا الله في ايام معدودات فمن تعجل في يومين فلا أثم عليه ومن تأخر فلا أثم عليه لمن اتقى وأتقوا الله وأعلموا أنكم اليه تحشرون ) والتقوى والصبر والتجرد والعمل والتحمل ليتدارك الناس ما فاتهم من عمل صالح يقربهم من رضا خالقهم ليستحقوا نجدته وهباته حيث تتحشد النفوس وتتألق النوايا وتتنافس القلوب لتسلم وجهها لله وحده بعد ان أيقنت ان اصلاح حال الأمة اليوم لا يصلح الا بما صلح فيه الاولون بالتسليم لله قلبا وعملا وبصيرة في رحلة أيمانية مباركة تستند الى تلبية دعوة الله وتنفيذ ضرورات طاعته والاخلاص له طمعا في مغفرة ومثوبة فأن كان الحج مبرورا كان جزاءه الجنة نسأل الله لجميع المسلمين سعيا مشكورا وذنبا مغفورا وعملا بارا صالحا متقبلا . لقد اقترن حج البيت بالقدرة المالية والأستطاعة العضوية وقابلية التحمل على تنفيذ مراحل الحج لأن ديننا دين سهل ويسر ولا اكراه فيه على عمل ورغم اهمية هذا الركن فأن الله سبحانه وتعالى بارا بعبده فلم يفرض على الناس عبادة فيها عسر وظنك وضيق فهو الرؤوف الرحيم حتى مع من يخالف شرعه ومنهاجه فكيف فيمن طاعه فأمر بمعروف او ابتعد عن منكر وتقرب الى الله ففكر وقدر . ان الحج هو الركن الخامس في الاسلام وربما كان من أعظمها فالصوم والصلاة والحج والزكاة لا تمحي الكبائر لكن الحج يمحيها جميعها حتى يعود العبد بعد حجه صفحة بيضاء لا زلل ولا ذنب فيها مع احتفاظه بمزاياه وحسناته السابقة فالذنوب تذهب وما يرضي الله باق في سجلاتنا فهل هناك اوسع من هكذا رحمة وهل هناك بر مثل بر الخالق العظيم . وما ان تضع قدمك على ارض مكة حتى تعود بك الذكريات الى ما فيها من شخوص ومواقف وتجليات يأتي في مقدماتها تراب مكة الذي زحف فوقه ومشى فيه ونام عليه سيد الكائنات محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن هناك بدأ البحث عن حقيقة الكون وخالقه وعلى هذا التراب المبارك كان مهبط الوحي والتكليف الرسالي ومن هذه البقعة المباركة بدأ مشوار الهداية والتبشير والأيمان بدين الحق على يد رجال صدقوا ما عاهدوا الله ورسوله عليه وفي مقدمتهم طلائع الركب أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وصحبهم الابرار آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر وحاملين مسؤولية قناعة التغيير الى البشرية جمعاء . وما ان تتوجه في مكة الى المسجد الحرام حتى تذهل روحك وقلبك ومشاعرك تعلقا وتمجدا وتحمدا بأول بيت وضع للناس فتقيم فيه صلاة تعادل مئة الف صلاة في اقدس مكان على الارض فيزداد تذكيرك بآيات الله وعظمة مقامه ويمليء المكان تجردك عن كل مافي الارض خالصا لوجه الله فالانسان يتجرد من كل شيء بالاحرام فلا مال ولا جاه ولا عدة الا عملا صالحا نتقرب فيه الى كل فضيلة وكمال وسمو يذكرنا بيوم الحساب وأنى لنا الذكرى بالمصير المحتوم ونهاية الرحلة التي اول متطلباتها قطعة قماش تواري عوراتنا حتى نرى بأم أعيننا صور تجريبية للموت والنشور والبعث والحساب واللقاء بالله عسى ان يكون ما نقدمه مبرورا ومقبولا يثقل ميزان حسناتنا فالشبه كبير بين ما نعيشه في هذه المناسك وما سنواجهه من مصير وهي سنة الله في خلقه ولن نجد لسنة الله تبديلا .وما أن تتقدم الى الكعبة حتى ترى نفسك طائفا فيها روحا ومشاعراغير آبه لتعب ولا لحرارة جو وغير مكترث ان دفعك تيار الطائفين يمينا أو شمالا فالكل مشغول بهول الحدث سائلا متوسلا حامدا شاكرا قارئا باكيا ذاكرا ويتعامل مع الغير بود وحنو وصبر وسمو فنستذكر مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وكأنك تعرفهم منذ سنوات بالرغم من انك تلتقيهم اول مرة فيكون ذلك دافعا في تعميق مناجاتك لله وطلب عفوه ومغفرته ليس لأهلك وأقاربك فحسب بل يشمل ذلك أصدقائك ومعارفك بأسماء من يحضرك اسمه ومن لا يحضرك وجميع المسلمين في كافة بقاع العالم وبروح انسانية سامية تبتغي فيها الوسيلة وترجوا فيها الرحمة في أبهى صورها وأجل معانيها وأطهر امكنتها وما ان تنتهي من الطواف حتى تصلي ركعتين في مقام ابراهيم عليه السلام وما ان ترى المقام حتى تتذكر آيات الله في ابراهيم عليه السلام منذ ان أسكن ذريته في وادي غير ذي زرع وأمتحان الله له في ولده قبل ان يفديه الله وكيف رفع قواعد البيت وحطم أصنام كان يعبدها قومه وكيف كان حليما في جوابه عندما سألوه عن ذلك فقال اسألوا كبيرهم هذا ليعجزهم في تفكيرهم وسلوكهم وشركهم بالله وما ان تكمل طوافك حتى تسعى بالصفا والمروة لتتذكر هاجرعليها السلام وهي تجوب الارض القاحلة ذهابا وأيابا وتبحث عن المستحيل في مصائر البشر بصبر وقلق وأيمان باحثة عن قطرة ماء لرضيعها الذي اوشك على الهلاك ولكن لا مستحيل على الخالق الجبار المقتدر وهي مؤمنة محتسبة لأمر الله وطائعة لزوجها بعد أن قالت أتتركنا أنا ورضيعي ؟ هل أمرك الله بذلك ؟ فتسلم أمرها لله زهز نعم المولى ونعم النصير. ان العمل الصالح في هذه الايام جزاءه عند الله عظيم كل ذاك يدفعنا بفرح وطيب خاطر لأكمال المشوار والمبيت في منى بخيم لا تقيك حر ولا بردا لكنها أوامر الله وسنة نبيه حيث تذكرنا بأيام الخدمة العسكرية خاصة في الفرضيات والتمارين التعبوية والارهاق وسوء الاحوال الجوبة لكنها هي الاوامر وأمر الله اقوى وأشد وأطيب منال ومن ثم الوقوف في عرفة وهو ركن مهم من اركان الحج فتقف امام مشهد لا يمحى من الذاكرة ملايين الناس تقف في شمس محرقة ورطوبة عالية ليشهدوا مناسك لهم بألوانهم وقومياتهم ولغاتهم ومشاربهم ومساكنهم المختلفة وهم يرددون لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك مقرين بوحدانيته وعظمة شأنه حامدين له شاكرين لفضائله ونعمه وهداه لا يشاطره ولا يقاسمه في ذلك احد سبحانه وتعالى جل جلاله ودام ظله .ومنها الى مزدلفة حيث نرى فيها العجائب أرض جرداء خشنة يتوسدها الجميع في ملابس الاحرام وكأنهم الى نصب يوفضون خشعا ابصارهم لله نساء ورجال يفترشون الارض لا تجد فواصل بينهم لأن قلوبهم طاهرة ونواياهم متعلقة بالله والتمسك بأحكامه في موقف انساني عظيم حيث نصلي فيها المغرب والعشاء قصرا وجمعا وربما كان موضع رأسك او رجليك في نفس المكان الذي وطأته أقدام صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم او محل جلوسهم وفي هذا شرف ورفعة لا يظاهيها كمال أنساني آخر ثم العودة الى منى والتأهب لرمي الجمرات وكان علينا أن نتحسب لمسيرة راجلة لتنفيذ احكام هذا الركن من الحج فالمسافة الى رمي الجمرات تصل احيانا الى ثلاث كم ذهابا ومثلها ايابا وهي ليس سهلة على كبار السن لكنك وانت تسير لأمر الله فلا جرم في ذلك فأجواء المسير لمئات الالاف من الناس بزمر مجتمعة وكل قد حمل أعلامه ورموزه ودلالاته وهوياته يضيف هذا للمنسك جمالية وصفاء فالشيطان لعنه الله عدو لنا أنما يدعو اصحابه ليكونوا من اصحاب السعير .أن رمي الجمرات هو من أصعب المناسك وسبحان الله فالشيطان يهلكنا ان اطعناه ويتعبنا ان عصيناه ورجمناه والفرق كبير بين ان نهلك او نتعب ففي التعب راحة وأستمرارية وفي الهلاك نهاية وعذاب . فما اجمل الرجوع الًى الله والتقرب من منابع الفضيلة والتمتع براحة الضمير وسمو الحال وغسل السريرة وتنظيف الوجدان حتى تعود الروح الى خالقها آمنة مستقرة وما الطف من التعاون بين الحجاج والتآزر والتسابق في حب الله وطلب رضاه الذي هو قمة السعادة وأعلى درجاتها وأوسع المغفرة وأشدها سماحة وعطاءا وهم يأتون من كل فج عميق هذا من النرويج وذاك من افغانستان وهذا من روسيا وآخر من العراق شباب في مقتبل العمر تركوا كل مغريات الحياة الاوربية وملذاتها ناشدين مغفرة من الله وأجرا لا مثيل لثوابه نتعارف مع بعض ونتعاون مع بعض ونتسابق مع بعض وبهذا فاليتنافس المتنافسون ليجني كل منا حصاده وكلنا نحاول ان نملي سلتنا بفواكه متعددة ولذيذة من الأذكار والأستغفار وقراءة القرآن فكل حركة وسكون وتأمل بركة وعبادة حتى النظرة الى الكعبة عباده و نومك عبادة وحركتك عبادة ومصروفك صدقة . والسؤال المطروح من من الأركان أفضل عند الله هل الصلاة افضل الاركان ام الايمان بالله ام الصيام فكان جواب العلماء بعد النظر الى الدلائل ان الحج افضل الأركان ابتداءا من لبيك اللهم لبيك استجابة لله وفريضة بعد فريضة ونافلة بعد نافلة هي أيمان بالله وفي الحج صلاة وإنفاق وصيام وهو شامل لجميع اركان الدين ولا يتطلب تكراره حتى ان الرسول صلى الله عليه وسلم حج مرة واحدة وفي اخر حياته التي اختتمها بالقول ( اليوم اكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكن الاسلام دينا ) حيث كان رسول الله يردد فيها الا هل بلغت ؟ فيجيب الجميع نعم فيقول صلى الله عليه وسالم . اللهم فأشهد . فسميت حجة البلاغ . ولأنها حجة الرسول الوحيدة في الاسلام فوصفت بأنها حجة الاسلام وسميت حجة الوداع لان رسول الله صلى الله عليه وسلم ودع امته فيها حيث انتقل الى الرفيق الاعلى بعد عودته الى المدينة بأيام قليلة . أن من يسلم وجهه لله وهو محسن فقد أستمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ولا ضياع معها ولا نجاة الا بها ومن سار على نهج المصطفى وسنته وشريعته واقتفى الاثر فقد فلح ورشد. أسأل الله أن يرزق الجميع حجة مقبولة تنال رضا الله حتى نلقاه راض عنا فننال منه خير الجزاء في خير اللقاء .آمين يا رب العالمين .