منذ ان طرحت لوحات عادل ناجي اسئلتها يوما عن الوطن، عبرت ضمنيا عن اسرار غربتها واختلاج صيرورتها ، في كل خط من خطوطها، كان الحنين فيها ينغمر في تلافيف ذاكرة العراق البعيدة الاغوار، منذ ان تعمدت هناك اولى صلوات الانسان بأول طهارة للوضوء والابتهال للحياة على شرائع دجلة والفرات.ورغم اغتراب عادل ناجي الى اقاصي المعمورة، فهو لم ينزع جلد عراقيته وانتماؤه مطلقا، فمر بكينونته، عراقي الهوى ، في كل مضائق الحصار والضيق والشتات والغربة القسرية، بل طبع في كل تجدد فني له، وشما سومريا، وآخر بابليا، وظل يطرق ويطبع بازميله وريشته على كل حجر ولوحة بيديه ملامح وجه من آشور وآخر من كلدان وسومر.وهو يذكرنا في اعمال لاحقة اخرى، بان بناة بيت الحكمة في عصر الرشيد والمأمون، كانوا من سلالته المندائية العراقية الاصيلة، كانوا اطباء ومترجمين وفلاسفة وكيميائيين، طَوَّعوا صهر المعادن وصقلها ونحتها، وكانوا منذ فجر العراق هم صاغة الذهب والفضة وصانعي اجمل ما نحتته يد الانسان على المعادن والحجر، ومنهم ايضا رسامون وخطاطون عرفتهم قصور بني العباس ببغداد، وورشات الفن والعمارة في وادي الرافدين على مر العصور . في كل مخطوط ولوحة، وحتى في رسوم كاريكاتيره المبكرة ، وما سجله من اعمال مبكرة في " مجلتي والمزمار" اطلق الفنان عادل ناجي عنان مخياله ومزاجه المبتسم، وحتى كدره الباكي والحزين، المتألم ، فعادل لمن يعرفه، له طبعته وتمايزه في اعماله، وخاصة تلك التي يكمن فيها شجنه العراقي.حرص عادل ناجي على تسجيل اجاباته الذكية والواعية عن كثير من اسئلتنا في اغتراب الهوية، وصراع الثقافات، وازاحات العولمة الحضارية لما قبلها، وحمل معه الكثير من محننا ، اينما حلت به، وبنا، اقدام الشتات والهجرات القريبة والبعيدة. في منطق لوحاته كثيرا من الفرجة، غير المفتعلة،فهو بعيد كل البعد عن اساليب الاثارة الفجة التي ينبهر بها فنانون آخرون. عودنا عادل ناجي في اعماله على تلقائية خالية من الاغراض المبيتة لاعماله الفنية، ولكن ابداعاته ظلت في مضمونها تحمل الغواية والألفة والحميمية الدافئة لغزل عراقي ، كان يصدر اناته في مواويل ناي من قصب الناصرية وما كتبته الاقدار العراقية على برديات والواح الخلود الجلجامشي، وما طبعته في مسارات الطين والصلصال، في قصص ورسومات اهوار الطوفانات الباقية على اديم العراق الازلي.وعندما جاء عادل ناجي من امريكا الى اوفيديو باسبانيا في الاسبوع الاول من نيسان / ابريل 2017 ، اقتنع بحمله الثقيل الغالي، في حمل مقتنيات حقيبة سفره الخالية من حاجياته الشخصية، من ملابس وبدلات وربطات عنق، مثله مثل الآخرين من طلاب الاناقة والحاضرين في مثل هذه المحافل.كانت حقيبة عادل ناجي ثقيلة ومفعمة بافراح وهموم عراقه الجريح ،فتحها هناك مع صندوق اسراره في صالة عرض اسبانية، خصصت له ، كانت كنوزها اكبر من حجم معرض ظرفيكان مقاما على هامش لمؤتمر لمغتربين عراقيين. واللوحات التي جاءت مطوية في الحقيبة المسافرة كانت مساحتها اللونية وموضوعاتها تتسع لمحبة وعشق وتفاني عادل ناجي لوطنه العراق، حرص ان يعرض العراق كله في عدد من تلك اللوحات التي اختارها على عجل، فلم يصل عددها الثلاثين، لكن مخزونها الحضاري والثقافي العراقي لا تتسع له كل ذاكرة محرك البحث جوجول والموسوعات الفنية من مقتنيات التاريخ والحضارة الانسانية التي تتحدث عن حضارة وثقافة العراق، مهد الحضارات.حقيبة عادل ناجي كانت حبلى ومكتنزة بإرث العراق الثمين، رسما وتخطيطا وآمالا لا تخيب عن رجاء الوصول الى مرسى سفينة جلجامش في مرافئ أور والناصرية، وهي بعادل ناجي ، ظلت تحتفظ بجينات موروثات الحضارة المُخَلَدَة في خطوط التكوين الازلي الذي نقلتها اعمال ورسومات عادل ناجي، فمنذ ان حرك اولى هوامشه على لوحة عراقية مبكرة، لفارس عربي، فهو واعي بما يرسمه من تخطيطات خيول عربية جامحة ، عصية على الترويض، واعمال اخرى انجزها عادل ناجي في مرسم استاذه ومعلمه الرائد الراحل الكبير فائق حسن.نثر عادل الوانه بين التحديث والمعاصرة، لكن بصمته وصبره، اصرت ان تكون الالوان والخطوط عراقية الهوية والتكوين والتشكيل، فهي كنثار طلع نخيل العراق، لا يمكن ان تُخَصِب الا نخيله الباسقات، ولا تُثمر الا بعراجين تمره وبلحه المُسكر، ولا ترسم الا خطوط سعفه وتلاوين مائه واسرار حكاياته التي خلدتها الاساطير العراقية ونقلتها حكايات الجدات، وما نقلته مقدسات الكتب والاديان. حضرت لوحات عادل ناجي مغتربة كصاحبها، ضمن اعمال مؤتمر المغتربين العراقيين ، ولكنها كانت مُفعمة بثبات الذات، واصرت ان تكون واضحة الرؤى والأ خيلة ، تحمل اسرارها ناطقة في صميم عمل عراقي أصيل ، لازال يزخر بالكثير والكثير، ربما لم يفصح عنه الكثيرون من المبدعين ، شعرا وقصائدا وخطبا. ومنها اعمال فنية ضاعت وهي تخوض عابثة بخطاب السياسة والمُباشرة الفجة، واللعب في العبث السيريالي، والملهاة البعيدة عن هموم وطن عراقي لا يريد ان يحتضر، وكما يُراد له من البعض ان يندثر .في كل لوحة لعادل ناجي، يمكن ان نضع اكثر من عنوان، ومن الصعب ان توجزها قائمة المعرض المعلقة في رواق اوفييديو ، وترميزها بمختصرات من الجمل والنعوت لتسميتها، لوحاته تبقى زاخرة بالماضي، الحاضر معنا وفينا، ، سفن بابلية، وصروح اشورية، لا زالت تبحر في بحور الوان عادل ناجي ولوحاته، كان ربانها المقتدر، ، وكأنه في رحلة عشق لزرقة لازوردية مطبوعة بعيون عشتار التي الفناها في شذرات تلكم الجداريات الشامخة في مخيلتنا الخالدة.في صالة العرض الفسيحة ، باسبانيا، التقيت به ، صدفة ، مكتشفا فيه منذ اللحظات الاولى، اخا كأ ني فارقته منذ لحظة الولادة ، لم نحتاج الى بروتوكول للتعارف ولا وسيط، تعرفت على معرضه قبل ان تُرفع اللوحات الى قاعة العرض، وعندما كررت زيارتي له في غرفة الاعداد للمعرض وبعدها ، كثيرا ما راودتني فكرة زيارة المعرض بعيدا عن صخب المحتفلين والحاضرين وصخبهم ، وهم يلتقون في غربتهم الجامعة وباحتضان بعضهم البعض في ملاقاة استثنائية عبرت عن ذلكم التشتت العراقي القسري.في كل مرة اجدد مشاهداتي للمعرض، اجد عادلا متألقا رغم مسحة حزنه الكبيرة، وطموحه الكبير، أن يعرض لوحاته البعيدة عن متناول يده، لانه لم يعرض كل شيئ من اعماله هناك، لقد حاصرته اسعار تذاكر السفر وشروط شركات الطيران من اقاصي الغرب الامريكي فاجبرته على بعض الانتقاء الممكن حمله، بعدد من الكيلوغرامات المحددة لوزن الاسفار الجوي المسموح به، لكن حقيبة عادل التي انتزعت أُطر اللوحات، وترك اللوحات الكبيرة والغالية على نفسه ومقتنياته في اكثر من منفى وبلد اقام به. وكسبا للوزن والمساحة القابلة لعرض هموم العراق في معرض ظرفي سيضاف الى اعمال عادل ناجي في اسبانيا وما سبقها من معارض كثيرة اقامها في العديد من عواصم هذا العالم.وجع في صورة لون، وغناء في لحن بأنين، واحساس غريب، عند من لا يعرف تفاعلية الالم، الا امثال عادل ناجي، فهو المبدع القادر على خلط كل هذه التفاعلات بذكاء عراقي، مادته زيت الوان اللوحة وطيوفها ليصنع منها تراجيديا عراقية مرسومة في لوحاته.ريشة عادل ناجي تحركت على اديم ارض العراق وحلقت في سماواته فامطرتنا محبة وحنين لوطن جميل نحبه ولا نفرط به ابداً. ثمة موسيقا داخلية لكل لوحة، فهي كوحدة سمعية بصرية تحكي، وتوحي، كخلوة الحكمة تملي علينا الكثير من التأمل المطلوب تذكره وانجازه لاجل العراق.وفي غمام سماواته واثيره الغني كانت لعادل ناجي غيوث من مطر ، ورهام، ومزنة، عند فجر او مساء عراقي مفقود، غيث فني رَطَّبَتْ مزنته سطوح اللوحات، المائية والزيتية، التي ارادت ان تكون عراقية، في ورشة عادل ناجي، وتلك صورة، مغتسلة بطهر الرافدين يعمدها هذا الكاهن، الفنان العاشق المتبتل في محراب ابداعه، وعبادته لوطن جميل يعشقه، وطن يليق لعادل وكل عراقي حر ، وطن رفع رأسه يوما ، ولم يسقطه كمسقط رأس، مُحَدَد في بطاقة وتاريخ الميلاد، وطن تقع جغرافيته الازلية على ثرى بقاع سومرية وأ كدية وعربية ينتمي اليها عادل ناجي باستحقاق حضوره الفني ووفاءه لمُثُلِ فنه والتزامه.كثيرا ما اغمضت عيني امام اكثر من لوحة من لوحات عادل ناجي في معرضه وما توصلت اليه عبر النت، كي استرجع طيوفا حالمة ومسترجعة من عوالم طفولتي في تلك الاحياء الميسانية الجنوبية في مدينة العمارة ، اين كان يسكنها جيراننا الصابئة المندائيون ، جيران لنا، كانوا اكثر من اخوة ، ونحن معهم في نسيج ابناء عرب العراق وعشائره النازحة الى المدن الجنوبية كالناصرية والبصرة والعمارة ، نمتزج معهم ، من دون مسميات لتلك الطوائف المستهجنة الوافدة، كنا ولا نزال شعب مرسوم في لوحات عادل، جمعنا في لوحة واحدة ازلية ، كم اتخيل مرساة طفولة اختلطت شرائعها في حضن مياه دجلة المتدفق ، وتفرعاته نحو انهار اصغر متجهة نحو مدن الكحلاء والمشرح والمجر الكبير والبتيرة والميمونة ، لاجد دلتا كل هذه الانهار وهي تصب في لوحات عادل ناجي قادمة من الناصرية واور، توأم ، ميسان وجارتها الحضارية الاولى .عندما يغلق عادل ناجي باب معرض له، يفتح من جديد، وكعادته، صباحات مثيرة أخرى تفصح عنها عصافيره وطيوره واناشيد الواحه المرسومة بحضور كبير على جدر ولوحات معارض الفن العراقي المعاصر.عادل ناجي لا ينتمي لمدرسة بعينها، شرقية كانت ام غربية، رغم تَمَكُنِهِ وقدرته على صهر اغلب معاملات الثقافات التي يعيش بينها وما اكتسب منها خبرة ومعايشة في ايطاليا واوربا وامريكا، وهو المغترب منذ عقود ، الا انه ظل متحصنا بعصمة ريشته العراقية، محتفظا بحنينه الى اهوار العراق وزقورات سومر .لم يُنْصَفْ الفنان التشكيلي عادل ناجي، عراقياً ولا عربياً، رغم عالميته التي استحقها بعصاميته، وبما اكتسب من خبرات وتقنيات كبيرة لا يستهان بها، ولأنه لم ينضوي تحت عباءة لواء وقطيع فني مؤدلج ، يعمل لاجله في الاشهار والتعريف به، هنا وهناك، فئويا او سياسيا، كبقية الفنانين الذين تم التسويق لهم ودعمهم في فرص الظهور ، لكنه بصبره ودأبه ومثابرته تمكن من امتلاك ادواته الفنية، وعبر بها تشكيليا، نحتا ورسما، وخطا عربياً ليصل ذروته العالمية، وسيصل حتما الى طموحاته ومكانته التي يستحقها كفنان، لكونه اختار العراق وحضارته له عنوانا ومرسما، وبث في ثنايا زيت اللوحة في مرسمه ملحا عراقيا خاصا، له طعمه، كما له نكهته ومرارته، ان لم يفصح اكثر من مرة عن شهد له سريرته وطعمه العراقي المتميز .في رواق معرضه الرمزي بمؤتمر المغتربين باوفييديو تدفقت افكار ومشاريع لحلم عراقي مشروع، كنا ولا زلنا ننتظره من انجازات عادل ناجي، حلم عراقي مشترك، وعدنا به ووعدناه ايضاً على التحقيق والانجاز الممكن له مستقبلا في عراق الحرية.ورغم تعتق خمرةُ حزننا في مضغة الكلام بيننا، ونحن غرباء في بلد الاندلس ، كان العراق وجنوبه لم يفارق لهجتنا العراقية العصية على اللكنة والعجمة على مدى ايام المعرض، كانت لكل وقفة ولكل لوحة ، مهما كانت صغيرة او كبيرة ، عند عادل ناجي حلم وامل وعودة لحنين طاغ يربطه الى العراق.سيبقى عادل ناجي مؤمنا برسالته ، وهو يرسي لها دعائم طبعات تشكيله العراقي في اعماله ، وهو يضمنها مفردات ومعاني يعتصرها من وجدان حَجرُ القصيدة العراقية المنغمرة ابدا في طوفان الخلود، والمُعَمَدة في مياه الأبجديّة الاولى، التي اوجدتها انامل اجداده السومريين، ابجديةً وكتابةً صورية تركوها للعالم ، رسوم ومخطوطات علمت العالم ان الرسم بكل ايجازه ومغزاه، ولو عبرت عنه مسامير الكتابة الخالدة على رقيم الطين التي يمكن ان تعلم هذا العالم، الكثير من الحكمة والمتعة والنبوغ الانساني والحب.شكرا لك عادل ناجي، فعلا متعتنا بمنظور الضوء، كما متعتنا في لحظة التأمل، حتى في دكنة العتمة والظلام، فحتى الظلال السوداء في لوحاتك التي اوحت بكثير من مكنون وجوهر وبصمة الوان وشمك العراقي الجميل في ذاكرتنا وعقولنا.لستُ فنانا تشكيليا ، ولا ناقدا متخصصا، لكني من متذوقي جماليات العراق وفنونه، التي خلدتها اعمال فناني الحركة التشكيلية العراقية وروادها الخالدين، لذا وجدت من الواجب ان نوفيك حقك ولو بايجازنا هذا، نعبر عنه لك، وللعراق ، بفيض متواضع من الشعور بالغبطة والرضا ونحن نحتفل بمعرضك مغتربا معنا في اسبانيا في ربيع 2017.وعندما تعرفنا عليك وجدنا فيك أخا وصديقا ومناضلا تحمل قضية سامية يعبر عنها فنك الملتزم . فشكرا لك عادل ، لانك لازلت تطبع وشمنا العراقي ، عنوانا وطبعة للمحبة وخلود الانسان واحترام قيم الحضارة والفن النبيل