بعد انتخاب رئيس جديد للبلاد وتشكيل حكومة جديدة فيها وزير لمكافحة الفساد وأنت تتطرق إلى موضوعة الفساد وتشعباتها هذه الأيام سوف لن تفاجأ بأنك داخل حتماً إلى وكر هائج من الدبابير القاتلة وأنواع مقنعة من المتمسحين بأردية العفة والنزاهة والنقاء، قلَّ أن تجد في مظهرها الخارجي ما ينبي عما في دواخلها المبطنة، وربما ستصاب بالذهول عندما تجد من يحدثك عن أياديها البيضاء ومكرماتها التي أُدخلت في السيرة المستحدثة لهؤلاء والتي وجدت من هم على استعداد ليكتبوا عنهم، في سبيل تلميع صورهم واختراع ماضٍ جديداً لهم يمحو ما قد سبق، فيضيف إلى الحاضر ما يجب أن يُنسب من صفحات مزورة تعيد تقديمهم إلى الناس بصورة مغايرة لما نشأوا عليه، ولنا في أدبيات عصر الانفتاح المصري أيام أنور السادات، ما سلط الأضواء على العديد من النماذج الفاسدة التي تسلقت سريعاً أسوار المجتمع الجديد وبات "العريان" منها حلة "ونسباً وأخلاقية، ذا اسم جديد يطل به على الناس مستعيناً بضعف ذاكرتهم من ناحية، وأوضاعهم الاجتماعية اليائسة التي استطاع أن ينفذ إلى الفقراء والغلابة من خلالها، بالقليل من المساعدات حتى لو كانت من اللحم المستورد غير المطابق للمواصفات الصحية، من جهة أخرى أو باللعب على فطرتهم وبساطتهم وطيبتهم ببناء مسجد هنا أو كنيسة هناك غير متورع عن المتاجرة حتى بيوت الله، واستغلالها في سبيل طموحاته ومخططاته غير المشروعة. ولقد عانى الشعب اللبناني مثل ما تقدم من ظواهر، خاصة أيام الحرب الأهلية الداخلية عامي 1975-1976، حين اتخذت كل منطقة معينة من لبنان تموضعها مع التطورات اللاحقة بالتعرف على طبقة جديدة من "حديثي النعمة" التي ما كان لها أن تعرف تلك "النعمة" لولا الحروب، فكيف إذن بحرب ضروس كحرب لبنان، التي بسببها اندحرت الطبقة الوسطى اللبنانية بمعظمها وتراجعت إلى الخلف بينما كانت صمام الأمان الاجتماعي والاقتصادي للوطن والشعب معاً، لتتراجع معها أيضاً كل مقومات الرأسمالية الوطنية التي دُمَّرت مصانعها وتلاشت مصالحها، وبالتالي تحول أركانها إلى الخارج بما تبقى لهم من رأسمال قليل وإرادة للحياة من جديد، ولتتسع الفجوة فيما بعد، أكثر فأكثر بين ما كان يسمى أرستقراطية مالية تمثلت بأربعة بالمئة من اللبنانيين يضاف إليهم بعض أصحاب الرساميل الوافدة، يقابلهم كل الذين توزعوا مع الأوضاع الجديدة على الغالبية العظمى ممن وُاضِعوا في خانة الفقر وتحت هذه الخانة وما يلامسها فقراً، صعوداً أو هبوطاً مع تضعضع الطبقة الوسطى فيما بعد. وصار علينا بعدها أن نتعرف على طبقة جديدة من أصحاب الرساميل الطارئة غير المعروفة المصدر من الأبناء الشرعيين للنيوليبرالية الحديثة الوافدة التي لم تكن لتتحلى بتاتاً بما كان للرأسمالية الوطنية من أخلاق وقيم وغيرها على الأرض أولاً، حيث عملت على الاستيلاء على هذه الأرض بأرخص الأثمان، ولم يستثنوا بعد ذلك الغالبية العظمى من الشعب اللبناني فلم يوفروا أية وسيلة للاستيلاء على إرادتهم ومقدراتهم فأغرقوهم في وحول المذهبية والتخلف بعدما كانوا قد مهدوا لذلك بإغراقهم في الوعود البراقة مؤثرين عليهم الحجر وتركوا القسم الأكبر منهم، في مواجهات سخيفة وتافهة مع القسم الآخر تحت مسميات مذهبية ومناطقية وتجاذبات سياسية ثنائية خرج الجميع منها كلها خاسراً وتراهم اليوم يلعنون الطرفين معاً، اللذين ما زالا حتى الساعة يستفيدان مما توافقاً عليه من اصطفافات، وأصبح كل طرف منهما بحاجة ماسة للطرف الآخر، أقله، ليبرر بقاءه في قيادة الساحة التي يصادر تمثيلها، ضارباً بعرض الحائط، إرادة الناس ومستقبل أبنائهم الغارقين في حاضر بائس لم يعد يجد من تربة لاحتضانه سوى التطرف والكفر بالوطن والمواطنين معاً، ولقد بات الناس يترحمون على أيام الإقطاع السياسي وأدواته البدائية، في استغلالهم مقارنة بأساليب النهب المتطورة التي يشهدونها على أيدي هؤلاء الممثلين بالشركات القابضة العابرة للحدود والمتحكمين في سعر صرف العملة الوطنية، هم مافيات العقارات على حساب سكن العيش للمواطن ولقمة عيشه وحبة دوائه وكتاب أبنائه المدرسي ووصلت حالات استهتارهم إلى حد الاعتداء على البيئة اللبنانية أن أحداً ممن اعتبر نفسه بديلاً عن الإقطاع السياسي في تمثيله الشعبي للمواطنين على سبيل المثال، لم يتورع مؤخراً عن قطع 295 شجرة صنوبر بري و 587 شجرة سنديان و55 شجرة بطم، كل ذلك في سبيل فتح طريق خاص لقصر يبنيه في أكبر وأكثر محافظات لبنان فقراً وحرماناً متجاوزاً كل الردود والمواقف الاعتراضية التي رفضت ما حصل دون أن تحقق أية نتيجة إيجابية تذكر. من هنا، أليس من العجب العجاب أن لا يتصور أحدنا اليوم شيطاناً بكامل قامته وقيافته كما فعلت تلك الامرأة التي استحضرت الجاحظ أمام النحات مشبهة له بشيطان فيرسم النحات الشيطان على صورته، بينما نعجز في نفس الوقت عن رسم صورة متكاملة للفساد، إزاء ما يمر علينا من نماذج صارخة لشخصيات وأفراد باتت بحد ذاتها تمثل رموزاً صارخة للفساد بكل تلاوينه وأوصافه ومساوئه، وربما سيعترض الشيطان أمام خالقه يوماً عما سلبه منه هؤلاء من مفاسد وأذى لم تخطر يوماً على باله ولا حتى على بال إبليسه الأكبر أيضاً.