ليس غريبا الوقوع في خطأ تحليل طبيعة العلاقات الدولية في هذه المرحلة، وخاصة منها تلك التي تجري بين الدول الكبرى مع الصغرى، فضخامة التوافقات والتقاطعات في منطقتنا العربية جعلت من تحليلها مهمة شبه مستحيلة إذا ما تورطنا بالدخول في تفاصيلها المتشعبة والكثيرة جدا. سنحاول هنا تفسير الغرابة في نتائج اللقاء الذي جمع بين وزير الدفاع الأمريكي كارتر وبين العبادي، والذي يدعونا للبحث فيه عن سر رفض العبادي لمطلب أمريكي بالسماح للقوات التركية المشاركة في معركة الموصل، في وقت ينهال فيه الدعم الأمريكي على حكومة العبادي وجيشه في حرب مصيرية يعرف العبادي جيدا بأنها قد تطيح بكل آمال المنبطحين والعملاء، وهو أولهم طبعا. سمعنا عن آراء كثيرة حول كون الموضوع مجرد اتفاق لا يمكن الخروج على نصه بين السيد والعبد، وكذلك عن كونها طبيعة أمريكية يحاول مسؤوليها التصرف مع العراق كدولة ذات سيادة وإن كانوا يمتلكون على حكام العراق ملفات أخلاقية، وربما هذا جزء يسير من الحقيقة، لكن خلف الكواليس ما هو أعظم. معلوم إن العراق ساحة صراعات دولية، كما سوريا، وكل ما يجري فيهما عبارة عن مساومات وحروب ذات منافع دولية ربما تكون مشتركة او متقاطعة، والمنفذ هنا والمتضرر هو شعبي العراق وسوريا، لأنهما الأداة لكل هؤلاء، فتلك الحروب والمعارك تجري بمال ودم البلدين، كمنفذين أو ضحايا. لكن لازال السؤال المطروح هنا والذي هو مرتكز المقال، لماذا نرى كل هذا الوهن الأمريكي، طبعا ليس فقط في جزئية اللقاء بين كارتر والعبادي، بل وكذلك مشهد ضعف الموقف السياسي الأمريكي على العموم، بالرغم من منطقيته في وقت تتصارع فيه القوى داخل امريكا لاختيار الرئيس القادم، والذي أثر بشكل ما على السياسة الخارجية، ومع ذلك للأمر احتمالات أخرى. لمزيد من التوضيح ينبغي علينا العودة لتاريخ ربما سيشكل محور استغرابنا وتساؤلنا هنا، نعود إلى زمن تمكنت فيه أمريكا من الهيمنة على العالم، لكن على حساب من؟؟ هنا سؤال المليون ! فامريكا بدأت سيطرتها منذ الحرب العالمية الأولى عندما استطاعت ( بأيدي خفية ) ان تفرض اقتصادها المريب على دول العالم، وخاصة أوروبا التي خرجت من الحرب منهكة ومستدانة، وكانت البنوك الأمريكية ( اليهودية الأساس ) حاضرة للمساهمة في انعاشها، وهنا سنجد تفاصيل كثيرة منها عملية فرض الدولار كعملة عالمية ودون غطاء، لكن نعود إلى سؤال المليون، على حساب من؟؟ بالتأكيد كانت بريطانيا آنذاك تمثل أكبر امبراطورية على وجه الأرض، حتى وصلت للحرب العالمية الثانية التي بدات خلالها بالانحلال، فخارت قواها في الشرق على وجه التحديد، وخسرت هيبة تاجها البريطاني لصالح أمريكا، القادم الجديد للمنطقة، لكن لم تكن تلك حربا تقليدية بين دول عظمى، بل حرب خفية جرت تحت الطاولة، استطاعت فيها أمريكا سحب البساط من تحت التاج البريطاني لتنسحب بهدوء تاركة الأمور لرعاة البقر، لكنها لم ولن تفكر بترك تاجها لأمريكا إلى ما لا نهاية. بدت هناك بوادر قبل اشهر طويلة لعودة بريطانيا للساحة، وبالرغم من ضعف الأدلة في السابق إلا إنها كانت واضحة، وربما بدأت تتوضح اليوم أكثر، وكانت المرة الأولى التي توضحت فيها العودة البريطانية للساحة العراقية بالتحديد عندما أكتشفنا بأن هناك خمسة أو ستة مسؤولين عراقيين منتخبين يحملون الجنسية البريطانية، وحينها طرحنا استغرابنا وكان ذات الرد والجواب يأتينا بانهم "دافنيها سوا"، وهذا ليس الواقع بالتأكيد. اليوم الفرصة باتت سانحة لبريطانيا للعودة للساحة، في الشرق على أقل تقدير، وذلك بعد أن استطاعت النأي بنفسها عن حروب امريكا العبثية، لكن ليس بعيدا جدا، بل حاولت أن تضع قدم هنا وقدم هناك، كي لا تترك شيئا للصدف، فشاركت بحرب العراق واختارت منطقة كانت يوما درة تاجها البريطاني، البصرة، وهنا دليل آخر على بداية عودتها، هذه العودة التي بالتاكيد ستكون على حساب أحدهم، فالتاريخ يعيد نفسه، وهو سر لغز رفض العبادي للمقترح الأمريكي، وهو ذات السر الذي بدأ يحرك المياه الراكدة بين الهند وباكستان، وذات السبب الذي جعل من تركيا ( الغريم الأسبق ) الهدف القادم لبريطانيا خشية العودة لمربع الصراع التاريخي مرة ثانية.