تحل علينا سنة هجرية جديدة؛ مذكرة العرب والمسلمين بأحد أهم الأحداث في تاريخهم وهو هجرة الرسول العربي ورفيقه أبي بكر الصديق. ومنذ أكثر من ألف وأربعمائة عام ونحن نحيي الذكرى دون الولوج لحقيقة مقاصدها ولجوهرها الأصيل ولما تنضح به من مدلولات وأبعاد ثورية انقلابية سامية؛ حتى غدا الاقتصار على تناولها من جانبها الروحي بأسلوب سطحي في غالب الأحيان أحد أكبر ما حجب عنا الإطلالة الحقيقية على الحدث وما انطوى عليه من غايات ومنجزات سامية وشاملة وغير مسبوقة في التاريخ. لقد حرصنا طول تاريخنا على الاقتصار في التعرض لهذه الهجرة المباركة على تصويرها طاعة للرسول العربي وصاحبه لأمر ربهما وتنفيذا لأحكامه وتوجيهاته وتعاليمه؛ لنغفل بذلك جوهر مقاصد الهجرة العظيمة ومراميها ومدلولاتها. فما أكثر ما تواترت القراءات التي صورت الهجرة على أنها لا تزيد عن مجرد هروب الرسول العربي من مكة وأذى المتنفذين فيها له ولأنصاره. إنه بالعودة لأحداثيات الحدث العظيم؛ وتقفي آثاره؛ سنخلص بالتأكيد لحقائق أخرى مغايرة تماما؛ لنكتشف البعد الثوري الذي ميز هذه الرحلة العظيمة خصوصا فيما أفضت إليه فيما بعد من نتائج. فالرسول العربي؛ لم يكن ولا من معه ومن هم على دينه الجديد بضعاف النفوس أو عديمي القدرة على الصمود بوجه غطرسة مستبدي مكة وقساة قريش وطغاتها؛ بل لقد أبلوا بلاء لا نظير له على مستوى الثبات على العهد والوعد والقسم واصطبروا على سياسات التعذيب والهرسلة والطعن والتشكيك والتضييق والملاحقة وغير ذلك مما تضيق به ملاحم إباء الرسول العربي وأصحابه. وما هذه الملاحم والبطولة التي وسمت أداء الرسول العربي ومتبعيه إلا دحض علمي وعملي لتلك التسويقات التي تظهر بوعي وبدونه الهجرة على غير أنها استحقاق بل وملحمة ثورية جديدة أبدع في خطها العقل العربي الثوري المبدع الخلاق للرسول العربي. وبالعودة للهجرة؛ كحدث ومخطط ولبنة وحجر زاوية في تأسيس غد جديد وضاء لرسالة العرب وبطلهم القومي والإنساني الأعظم محمد؛ نتبين أنها لم تكن وليدة صدفة أو ضربة حظ؛ بل نستشف أنها ثمرة تخطيط عميق وشامل راعى فيه القائم عليه كل ممهدات النجاح في بلوغ نتائجه؛ ولم تكن بالتالي رحلة عبثية سيق فيها الرجل وسلم مصيره للمجهول. لقد اختار الرجل وجهته وتاريخها بعناية فائقة؛ وانتدب للغرض رجالا ذوي كفاءة عالية ومهارات كبيرة من حيث تأصل الإيمان فيهم وتحليهم بالشجاعة وتوفر ممهدات النجاح فيهم باعتبارهم أدوات كسب الرهان الأثمن من حيث دربتهم على الصبر وقدرتهم على قلب الأوضاع وتغيير الخطط التكتيكية وتطويع الحركة التاريخية فيجعلون من الانكسارا نصرا ساحقا بأقل المجهودات وغير ذلك من الصفات النوعية التي تفيض بها أرواحهم وعقولهم التواقة للتغيير والرقي لا بقومهم فحسب بل وبكل الإنسانية. إن الهجرة كانت مباغتة لعيون أعداء الرسول العربي ودينه ورسالته ورفاقه؛ وكانت كذلك فرصة ثورية تاقت لها أنفس من احتضنوها قاعدة للاستقبال ومن ثم الانطلاق .. وأضحت اللحظة النورية الثورية الفارقة التي انتقل فيها المبشرون الرساليون المستضعفون لقوة لا ترد ولا تصد بفضل ما ترسخ فيهم من قناعات ومبادئ وإيمان وثقة فيما بينهم أولا؛ وفي قائدهم العملاق ثانيا؛ وفي نبل ما بين جناحيهم من رسالة ثورية انقلابية إنسانية؛ وخصوصا في تشبعهم بإدراك أنهم أصحاب حق؛ وأنهم على حق؛ وأنهم دعاة حق. لهذا؛ تمكن المهاجرون ومحتضنوهم فيما بعد؛ من الظفر بمكة وهي قلب العالم وعاصمته آنذاك دون الحاجة لإعمال سيف واحد في رقبة واحدة في يوم نصر عظيم فريد لا عهد للإنسانية به ولم يتكرر بعدها. وهذا النصر؛ هو غاية الغايات الاستراتيجية التي خطط لها بحكمة العقلاء والشجعان العقل العربي المذهل عقل محمد الرسول العربي؛ لأنه كان يدرك يقينا أنه حجر الزاوية في كل ما سيتلوه من ملاحم وانتصارات وفتوحات وإبداعات ومنجزات حضارية وفكرية وثقافية وروحية سامية تقوم على العدل والحرية والمساواة بلا تفرقة ولا حيف ولا جور ولا استغلال ولا اضطهاد .. فما أحوج العرب اليوم لمعاودة التدبر في هجرة بطلهم القومي الأعظم ورسولهم الأكرم محمد حتى يغادروا هذه البشاعة التي تلف واقعهم وتهدد مصيرهم ووجودهم في مقتل!! وما أحوج الإنسانية للنهل من سيرة النبي العربي ورسالته الإنسانية حتى تتخلص مما تتخبط فيه من غطرسة وأنانية وظلم وقتل ورعب وخوف وإرهاب!!