لا يتوهمنَّ أحد أن مشروع الشرق الأوسط الجديد قد عاد إلى الأدراج بعد سقوط الحزب الجمهوري، ونجاح الحزب الديموقراطي، فما لم تأخذه إدارة جورج بوش بالحرب، ستأخذه إدارة أوباما بالحوار والقفازات الديبلوماسية. وما لم يأخذه اليمينيون المتطرفون الجدد بالقوة ستأخذه إدارة الديموقراطيين باللين والقفازات الناعمة. وإذا كان أوباما قد سحب القسم الأكبر من جيشه بناء لما يزعم أنه تنفيذ للاتفاقية الأمنية، لا يعني ذلك أن المشروع السياسي الكبير في إعادة تمزيق الوطن العربي على قواعد وأسس جديدة قد تم سحبه. لقد سحب وسيلة «الصدمة والترويع»، لمصلحة أسلوب «الفوضى البنَّاءة»، فيكون قد غيَّر الوسيلة ولم يغيِّر الهدف. ففي الصدمة والترويع تظهر قسوة الكاوبوي الأميركي وخشونته، لأن الجندي الأميركي يلعب الدور العسكري الهمجي المباشر، وفيه ما فيه من عوامل الاستفزاز الشيء الكثير. وفي الفوضى البنَّاءة تسهم الجماعات المحلية في الاقتتال الداخلي، وهو ما لايحمِّل الإدارة الأميركية وزراً أو مسؤولية، إذ تحاول أجهزة مخابراتها تغطية الاقتتال الداخلي في بعض الأقطار العربية بمسحة من الديموقراطية، إذ تغطي أعمال هذه الجماعة أو تلك بغطاء من الخوف والغبن الحقوقي. ولكي لا ننسى، نعيد التذكير بأن مشروع تقسيم العراق، هو مشروع للحزب الديموقراطي، حزب الرئيس أوباما. أقرَّه الكونغرس الأميركي في العام 2007، أي تم تقديمه من قبل جوزيف بايدن، نائب الرئيس، بشكل تزامن مع وعود الحزب الديموقراطي بسحب الجيش الأميركي من العراقي. وتقسيم العراق، هو البداية الفعلية والأساسية لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد. ولماذا تقسيم العراق أولاً؟ إن اكتساح أكبر ما يمكن من أحجار الداما يبتديء من النقطة التي إذا هدمت منها حجراً تنهار الأحجار الأخرى، والعراق في لعبة الداما الأميركية هو تلك النقطة الأساسية، فالبدء منه، وهو مركز الدائرة، تنهار الأحجار في الدائرة كلها. والعراق في الاستراتيجية الأميركية يمثل مركز الدائرة في محيطه الجيوساسي. ويصبح هذا الأمر أكثر وضوحاً إذا أعدنا إلى الذاكرة بعض أسماء الدول الجديدة التي خطط لها المشروع المذكور: - دولة للشيعة جنوب العراق، شرق السعودية، غرب إيران. - دولة إسلامية مقدسة في الحجاز. - دولة للأكراد شمال العراق، جنوب تركيا، أجزاء من إيران وسورية. - دولة سنية وسط العراق وأجزاء من سورية. وبالعودة لدراسة هذه الخريطة نجد أن كل فيدرالية في العراق من الفيدراليات الثلاث، تشكل نواة أساسية لدولة دينية، ولكي تكتمل عليها أن تضم إليها جزءاً أو أكثر من الدول المجاورة. إن اختيار العراق كنقطة للبداية لم يتم عن عبث، بل لنتصور أن المشروع ابتدأ من اليمن، أو من لبنان، أو فلسطين، أو السودان، فسيبقى مشروعاً تقسيمياً معزولاً عن التأثير على غيره. وسوف تتم مواجهته وقبره في مهده. أما أن تكون بدايته من العراق، فسوف يشكل عامل توتر شديد بين دول كثيرة وازنة ( العراق، إيران، تركيا، سورية، السعودية، الكويت والأردن )، وإلى أن تجد ما تتوافق عليه تكون وقائع الأمور على الأرض قد قلبت كل الموازين والمكاييل. كما تصبح الأطراف ( لبنان وفلسطين واليمن ) جاهزة للتقسيم على الأرض، خاصة وأن الحروب الداخلية فيها قد اكتملت عناصرها وإيديولوجياتها. أما الجزء الأفريقي من الوطن العربي، فيتم تحضير السودان على نار تقسيمية حامية، كونه يشكل مركز دائرة آخر جاهزاً للتقسيم، وجاهزاً للانتشار والتمدد في شتى الاتجاهات. واستناداً إلى ذلك، وإذا كنا قد سلَّطنا الضوء على ما يعنيه تقسيم العراق، فلكي نعيد توجيه أنظار من يعنيهم الأمر، أنظمة رسمية عربية وقوى وأحزاب عربية، فإننا نعتبرهم كلهم مسؤولين على حد سواء. وهنا لا ننسى ما تعنيه دعوة حكومة العدو الصهيوني للفلسطينيين بالاعتراف بفلسطين كدولة يهودية، وفي هذه المرحلة بالذات، أليس لأن هناك مؤشرات جدية على نجاح المشروع؟ ولماذا نحسب أن المشروع سيتم وضعه على سكة التنفيذ؟ إن الحركة السياسية الناشطة، التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية مع كل من إيران وتركيا، ونتائجها التي تقترب نحو النجاح، خاصة بعد التوافق على تشكيل حكومة عراقية، تعزز ثقة إدارة أوباما بأنها ستحقق بـالحوار ما لم تحققه إدارة بوش بـالحرب، خاصة أن التوافق على تقسيم العراق بين إيران وأميركا محسوم أمره منذ بداية الاحتلال العسكري، أما مع تركيا فلا شك أن التوافق حاصل بمجرد عقد اتفاقيات تطمينات أميركية بضمان أمن تركيا من جهة فيدرالية كردستان، وضمان مصالحها الاقتصادية بموجب اتفاقيات أخرى قد تبصر النور بعد استتباب الأمر في العراق، بمساعدة إيرانية وتركية. ولأن الفوضى البنَّاءة منتشرة في أكثر من قطر عربي، وفي المقدمة منها العراق، يعني أن مشروع الشرق الأوسط الجديد موضوع على سكة التطبيق على نار حامية. ولأن إطلاق صفارة التنفيذ الفعلي تنتظر القطار العراقي، فلا يمكننا أن نتجاهل خطورة ما يجري ولا أن نخبِّئ رؤوسنا في الرمال على طريقة النعامة، فنقول: من أراد أن يواجه المشروع السرطاني الخبيث عليه أن يعرف ماذا يجري في العراق؟ ومن يريد أن يعرف ماذا يجري في العراق، عليه أن يتابع حقيقة وأبعاد الحركة الناشطة بين أميركا وإيران وتركيا في هذه المرحلة. ومن يروم مصلحة الأمة العربية فعليه أن لا يخجل من تحميل المسؤوليات بكل صراحة ووضوح، والابتعاد عن الإسهام في تضليل الجماهير العربية. بحيث يتم تمرير أخطر مؤامرة تحت دخان نقد النظام العربي الرسمي، وهو المقصِّر فعلاً وقولاً. فالخطير في الأمر أنه تحت دخان النقد تعمل بعض أوساط من يجب أن يمثلوا حركة التحرر العربي، على الترويج تارة لمواقف إيران وكأنها أكثر «عروبة» من العرب، وتارة أخرى لمواقف تركيا وكأنها أيضاً أكثر «عروبة» من العرب. وهم بحجة بعض مواقف النظامين الإيجابية الجزئية تجاه بعض القضايا العربية يسكتون عن تعاونهما مع إدارة أوباما لتقاسم المصالح في العراق التي لن يحصلوا عليها إلاَّ بتنفيذ مشروع جوزيف بايدن بتقسيمه كما هو حاصل الآن. وهم بذلك يثيرون باليد اليسرى دخان فضلهم على العرب في مواقف جزئية ليغطوا باليد اليمنى أكبر مجزرة لإعادة تقسيم الوطن العربي على أسس ومبادئ مشروع الشرق الأوسط الجديد. هؤلاء إما أنهم يعرفون أن تقسيم العراق تمهيد أساسي لتقسيم الوطن العربي على أسس طائفية وعرقية وهي كارثة عظيمة، وإما أنهم لا يدرون ماذا يفعلون، فالكارثة أعظم. وفي الحالتين معاً فلا تغفر لهم ذنوبهم يا أبتاه لأنهم إما جاهلون أو متجاهلون.