هل حقّا كان العالم الحرّ والمنصفون والموضوعيّون بحاجة لمثل تقرير تشيلكوت حتّى يدركوا أنّ غزو العراق كان الخطيئة الكونيّة الامبرياليّة الأشدّ فضاعة على مرّ تاريخ البشريّة ؟؟ هل كان أكثر وضوحا من سفه كلّ مستندات العزو وتبريرات المعتدين الجناة وصلف الطّغاة البغاة المتعطّشين للدّماء المسكونين بحقد أزليّ على العرب والعروبة تاريخا وتراثا وحضارات؟؟ ألم يكن كافيا لكلّ من أدلوا بدلوهم في كارثة اجتياح العراق وتخريبه والعبث به وإهدار مقدّراته وتبديد ثرواته والتّنكيل بشعبه وتشريد أهله وتقتيل قادته أن يتوقّفوا عند خطاب المجرم بوش الصّغير الذي أعلنها صريحة مدوّية بأنّها حرب صليبيّة جديدة قرّر خوضها انصياعا لأمر ربّه الماسونيّ الذي زاره في نومه موصيا إيّاه بتحرير العراق وتخليص العالم من صدّام حسين وشروره وأخطاره، لكي يعلموا أيّ وحشيّة تلك التي باتت تقود هذا العالم المتغطرس؟؟ لقد اندفعت مجاميع الشّرّ العسكريّة والمدنيّة والإعلاميّة والثّقافيّة غربيّة وأعرابيّة بكلّ ثقلها مؤازرة لموجة الشرّ الأكبر في فعلتها النّكراء ليبارك أكثر أهل المعمورة اعتداء سافرا صارخا باطلا بطلانا عجيبا لا يحتاج للبرهنة عليه تماما كما لا يحتاج المرء للتّدليل على أنّه في النّهار والشّمس في كبد السّماء، وغدا القتلة السّفلة محرّرين، وأمسى رعاة البقر روّاد للفعل الحضاريّ وما هم في واقع الأمر إلاّ أعداء الحضارات والإنسانيّة وفاقدي القيم والرّجولة والنّخوة والشّرف. فهل جاء تشيلكوت ليخبرنا بأنّ الماكينة الاستعماريّة قد خطّت ما خطّته إلاّ بفعل النّهم التّخريبيّ والسّعي المحموم لنهب الثّروات وإذلال الشّعوب وقهر الإنسان حتّى يسهل على أقطابها إحكام سيطرتها على الكوكب الأزرق؟ ثمّ وماذا بعد تقرير تشيلكوت؟؟ وما الذي سيضيفه وسيحدثه من تغييرات إلاّ إذا كان حجّة جديدة تنضاف لسجلّ وصمات العار الأبديّة المخجلة وما أكثرها في رصيد بريطانيا العظمى المخزي؟؟ وهل سيمثّل هذا التّقرير تحديدا قارب نجاة جديد لبريطانيا الإرهابيّة فيقتصر تحميل كلّ جرم غزو العراق تصويرا وتشخيصا ومسؤوليّة لشخص المجرم الإرهابيّ توني بلير؟؟ وهل ستتكرّر بالتّالي نفس الأحداث التي تسبّبت بها بريطانيا ثمّ تفصّت من تبعاتها واستحقاقاتها كجريمة تسليم فلسطين السّليبة لقطعان الصّهيونيّة، حيث لم يعد لآثارها وجودا إلاّ ذلك العنوان الباهت المسمّى " وعد بلفور"؟؟ إنّ غزو العراق وما تلاه من قتل يوميّ وحملات إبادة عرقيّة ونهب للمخزون الثّقافي والحضاريّ واستحواذ على ثروته وتبديدها لينتفع بها المجرمون، هذا بالإضافة لما رافقه من جرائم إرهابيّة فارسيّة يندى لها جبين الإنسانيّة، لا يجب بحال من الحوال أن يتحمّل وزرها المجرم البائس توني بلير لوحده رغم ما له من دور متقدّم فيها.. نعم بلير مجرم، وهكذا تعاملنا معه دوما، وهكذا نظرنا إليه أبدا، ولكن لا يجب أن تفلت بريطانيا هذه المرّة من ما تستحقّه من عقوبات حقيقيّة تتناسب وحجم إسهامها المخزي في غزو العراق. فبريطانيا، كلّ بريطانيا، سياسيّين وعسكريّين واقتصاديّين واستراتيجيّين وفنّانين ومثقّفين، كلّهم شاركوا بنصيب وافر في حبك المؤامرة الأشنع لا بحقّ العراق والعراقيّين والعرب فقط بل وفي حقّ كلّ الإنسانيّة.. وبريطانيا من مزّقت أوصال العراق بنفس القدر الذي أتته أمريكا رأس الإرهاب في العالم، وبريطانيا إذن هي من يتوجّب أن تٌدان رسميّا وتحاكم ويٌقْتَصَّ منها بما يوازي ويضاهي إثمها. أمّا أن تٌلقى اللاّئمة، كلّ اللاّئمة على بلير وحده، فهذا ما لا يمكن إلاّ أن يكون مباركة جديدة لما أتته سابقا، وتزكية ومكافأة فعليّة وسخيّة لبريطانيا عن مهامّها القذرة جميعا طيلة تاريخها وخاصّة في حادثة تدمير العراق عام 2003. إنّ تقرير تشيلكوت هذا، سيظلّ مفرغا من معانيه ولا طائل منه ما لم تتحّمل بريطانيا ككيان سياسيّ تبعات رعونتها ومروقها عن القانون الدّوليّ وعن الضّوابط الإنسانيّة وقيمها الحقيقيّة لا تلك الإنسانيّة المغشوشة التي يروّج لها المتنفّذون اليوم والمستفردون بالعالم في سعيهم المخزي لتدمير النّظم الإنسانيّة رغم ادّعائهم عكس ذلك. ولن يكون لذلك معنى ما لم توقف بريطانيا فورا، الآن الآن وليس غدا، الآلة التّدميريّة العسكريّة والطّائفيّة وماكينة القتل على الهويّة وكلّ الجرائم التي أنيطت مهامّ إكمالها للعدوّ الفارسيّ الصّفويّ الجبان بحقّ العراقيّين، كما ينبغي أن تعوّض العراق دولة وشعبا كلّ ما أفسدته ونغّصته عليهم، مع يقيننا أنّ التّعويض شبه مستحيل لأنّ ما حلّ بالعراق قد لا يعوّض لعشرات القرون القادمة. على بريطانيا، إن كان ضروريّا لها أن تتبجّح بديمقراطيّتها المخاتلة، أن تضع حدّا لكلّ ما ترتّب عن غزو العراق، وأن ترفع الغطاء السّياسيّ والعسكريّ عن طغمة الجواسيس والأقزام الطّائفيّين الذين آوتهم طويلا ودرّبتهم وطوّعتهم لإهلاك العراق، وأن توقف العمليّة السّياسيّة المهزلة التّاريخيّة وأن تقدّمهم جميعا لمحاكمتهم عن كلّ ما ارتكبوه من جرائم ساديّة صادمة لا نظير لها. وعلى بريطانيا أيضا، أن تعيد العراق للعراقيّين الشّرفاء المخلصين، وأن تعمل على ذلك ليس من باب المنّ أو التّعويض، ولكن لأنّه ما من سبيل لإقناعنا بجدوى مثل هذا التّقرير إلاّ ذلك .. على بريطانيا أن تعيد كلّ ما تمّ نهبه من آثار العراق برعايتها المشتركة مع حليفتها الكبرى الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وعليها أن تتعهّد بألاّ تتدخّل في شؤون العراقيّين والعرب جميعا مستقبلا .. هذه هي الخطوات الأولى والبسيطة التي يتوجّب البدء فيها منذ اللّحظة، حتّى يكون لمثل هذه التّقارير معنى، ولتحافظ بريطانيا ولو على مثقال ذرّة من مصداقيّتها أمام شعبها والإنسانيّة. أمّا ما سوى هذا فليس إلاّ لهوا وعبثا ومضيعة للوقت والجهد، وليس إلاّ خديعة ومكر جديدين ..