الحراك الشعبي والشبابي أساسي فيه، شكل نقلة نوعية في التحرك الجماهيري ضد حكم الفاسد والفاسدين، والمافيات السلطوية وقوى المحاصصة الطائفية. وإذ يكتسب هذا الحراك أهمية فلأنه انطلق من خارج الاصطفافات الكبرى التي تقودها قاطرات طائفية وطرح شعارات حاكت المعاناة الشعبية من تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية ومنها ملف النفايات. وإذا كان هذا الملف شكل عنواناً لانطلاق التحرك، إلا أن توسيع مروحة الشعارات، لتشمل قضايا سياسية ومطلبية أعطى للحراك بعداً شعبياً ووطنياً شاملين ودفع الشرائح الاجتماعية للنزول إلى الشارع لا لتعبر فقط عن رفضها وشجها للطريقة التي يدار فيها ملف النفايات بل ايضاً لتأكيدها على وجوب المحاسبة عن الطريقة التي تدار فيها الملفات ذات الصلة بالقضايا الحيوية والحياتية من ملف الكهرباء إلى ملف السكن ومن ملف الاستشفاء إلى ملف الأمن الغدائي. وإذا كان العنوان السياسي حل في المرتبة الثانية بالقياس إلى العنوان المطلبي، فليس لأنه أقل أهمية، ولكن تحاشياً لتجاذبات سياسية قد تفسح في المجال أمام قوى متضررة من هذا الحراك لأن تدخل على الخط لإرباكه وصرفه عن أهدافه الأصلية. فالدعوة لملء الشغور في سدة الرئاسة الأولى و إن كانت لم تتصدر الشعارات المرفوعة علماً أن الشغور هو أحد مظاهر ونتائج الوضع المأزوم، إلا أن الدعوة إلى إعادة تكوين السلطة انطلاقاً من سن قانون انتخابي جديد خارج القيد الطائفي وعلى أساس النسبية كانت بارزة، وهذا ما يؤكد بأن المدخل للإصلاح السياسي الفعلي لم يكن غائباً أو مغيباً عن الحراك الشعبي، وهذه مسألة على قدر كبير من الأهمية، يجب التأسيس عليها والانطلاق منها في تناول قضايا أخرى تشكل في مجملها حزمة متكاملة من الإصلاحات ومنها على سبيل المثال لا الحصر، تفعيل المجلس الاقتصادي والاجتماعي وتطبيق مبدأ الإنماء المتوازن، وهذا ما نص عليه اتفاق الطائف، الذي وأن كان غير منزلٍ ويمكن إدخال تعديلات عليه، إلا أنه لم يختبر في ما تناوله من بنود إصلاحية وخاصة لجهة الغاء الطائفية السياسية، وإجراء انتخابات تشريعية خارج القيد الطائفي وعلى أن يترافق ذلك مع تشكيل مجلس للشيوخ يقوم على أساس التمثيل الطائفي ومعه تسقط الطائفية عن آليات التشريع بكل ما تعلق بقضايا الناس الحيوية. من هنا، فإن قوى الحراك الشبابي التي نزلت إلى الشارع تحت مسميات مختلفة، وأعطت انطباعاً إيجابياً عن إدارتها لهذا الحراك سواء لجهة سلميته أو لجهة ديموقراطية التعبير على تنوع المشاركين، مطلوب منها أن ترتقي في عملها إلى مستوى تنسيقي أفضل تعلق الأمر بالجانب التنظيمي أو بمضمون الحراك. وهنا يكتسب الحضور الوطني أهمية شرط النظر إلى القضية باعتبارها تشكل هماً وطنياً شاملاً وترفع أطرافه عن فئويتهم السياسية. إن الحضور الوطني الذي أتيحت له فرصة النزول إلى الشارع في ذروة الضغط الاجتماعي المعيشي على الناس، يملي التقاط معطيات هذه اللحظة والتأسيس عليها لإطلاق ورشة عمل وطني تعيد صياغة الشعارات التي طرحت في برنامج سياسي مرحلي بحيث يجد كل متضرر أو مستاء من الوضع القائم، نفسه ضمن الاصطفاف العريض حتى ولو لم يكن منضوياً في إطار تنظيمي محدد. والأهمية الكامنة وراء تنشيط الدور الوطني في الحراك تكمن في كون القوى الوطنية تملك خبرة في إدارة التحرك بشقيه التنظيمي والسياسي، ولها قاعدة شعبية ثابتة هي في حالة جهوزية للتحرك. إن التشديد على الحضور الوطني في الحراك الشعبي ضمن وضوح الرؤية السياسية وفي لحظة ارتفاع مستوى التذمر والاستياء الشعبي ضد كل أطياف الطقم السياسي الذي تناوب ويتناوب على إدارة السلطة على قاعدة المحاصصة السياسية والطائفية يفتح كوة في جدار الانسداد السياسي الذي شيدته قوى الخطاب الطائفي والمذهبي والتي حالت دون الكتل الشعبية من التعبير عن معاناتها ومطالبها بعيداً عن إملاءات أمراء الطوائف والمذاهب. وهذا الخطاب السياسي الوطني يجب أن يكون حاضراً، حتى تسقط كل شبهة يمكن إلى تلصق بالحراك، وحتى يبقى محصناً من اختراقات يمكن أن تحرفه عن الاتجاهات الوطنية، وحتى يبقى مبدأ المحاسبة بعيداً عن الشخصنة، وكل ذلك لأجل استحضار دوره كقوة وازنة في الحياة السياسية التي تطرح قضايا الناس بما هي قضايا اجتماعية محقة لا هوية طائفية لها أو مذهبية. إن الدينامية الشعبية والشبابية أساس فيها، والتي برزت من خلال الحراك الأخير، هي مؤشر إيجابي على تحول نوعي في الرأي العام، وحتى لا نقول أنها ولادة جديدة لهذا الشعب المسحوق، فإنها عبرت عن حالات المخاض القوية التي يختلج بها الرحم الشعبي اللبناني التي لا بد وأن تفصح عن مولود جديد يجب احتضانه ورعايته في مناخ من الشفافية والصدقية في تقديم الذات ومخاطبة الأخرين وهنا لا يكفي أن يقتصر موقف الحراك على نقد السلطة ومحاسبتها على الهدر والتقصير والفاسد وسوء الإدارة وتعطيل المؤسسات، بل الأهم هو طرح البديل، والبديل هو المشروع السياسي الذي تتمرحل خطواته وإجراءاته في ضوء معطيات المرحلة، والأساس إعادة تشكيل السلطة انطلاقاً من الغاء الطائفية السياسية ومدخلها قانون انتخابي خارج القيد الطائفي.