اختياري للموضوع بعنوانه هو استكمال لما كتبت في الحلقات 12 الاخيره تحت عنوان { هل الاصلاح يتم بتسييس الدين الاسلامي } وبغض النظر عن القراءات المتناقضة لما يسمى بـ{ الحركات الإسلامية أو الأصولية أو الإسلام السياسي أو الصحوة الإسلامية .....الخ } وما ورد فيها من رؤية وتحليل واستنتاج ان كان مدافع ومعاضد أو رافض ومدين ، فأقول هذه الظاهرة وليدة بيئتنا وثقافتنا العربية الاسلامية وتنهل من ماضينا بمجده وكبواته ومقدساتنا والتي هي نتاج وعينا الديني وتعاملنا مع الفقة والشريعة كل حسب فهمه واعتقاده ، الأمر الذي يجعل مقاربتها لا يحتاج إلى الجري وراء تنظيرات المفكرين المستشرقين أوالغربيين وكتاباتهم حول الموضوع ، فبما أنها خاصتنا دون منازع فعلينا أن ننظر إليها بعيوننا وعقلنا وليس بعيون وعقول الآخرين لاننا الاولى والادرك ، فمثقفونا العرب والمسلمون ورجال سياستنا الذين افرزتهم الحاجة الوطنية القومية هم ألاقدر من غيرهم على التعامل مع الموضوع شريطة توفر النقاوة الفكرية والتجرد من المؤثرات الداخلية والخارجية واقصد هنا { القوى التي اتخذت من الدين الاسلامي ونهج ال البيت عليهم السلام وسيله للوصول الى اهدافها ونوايا التوسعية الاستعلائية }، وعليه فان التركيز على ألموضوع بواقعية سيكون ألاكثر افادة من التنظير وسيحتج بعض الاخوة المتابعين على جمعنا بين { العلمانية والأصولية } في موضوع واحد مع أنهما مصطلحان متناقضان وينتميان إلى مرجعيتين مختلفتين ، فأقول هذا كلام صحيح إذا قمنا بدراستهما نظريا أي على مستوى التعريفات التي أوردها علماء الاجتماع والفقه والشريعة ، ولكن بما أننا وكما سبق الذكر سنتناول الموضوع من خلال الواقع بمعايشته وممارسته فإن التعرض لأي منهما سيحيل تلقائياً إلى الآخر وخصوصاً في الشكل الذي هما مثاران فيه في مجتمعاتنا العربية والإسلامية فالعلاقة بينهما علاقة الفعل وردة الفعل أو الشيء ونقضيه ، مع أنهما غير متناقضتين بشكل كامل وكما سنوضح ذلك تحديد الإشكالية ، هناك مقولة مشهورة للعالم والفيلسوف فولتير {{ قبل أن تتحدث معي حدد مصطلحاتك }} ، وهذه المقولة يتوجب استحضارها من قبل الباحثين اجتماعيا" حيث تتعدد المفاهيم وتتداخل وتتناقض بعضها مع بعض حول القضية الواحدة فالمصطلح في العلوم الاجتماعية حمّال تفسيرات عدة وهو لا ينجو من تأثيرات الأيديولوجيا والذاتية اللتين يضيفهما الباحث على رؤيته وتفسيره للمفاهيم المستعملة ، وإن المصطلح الذي هو { تجريد للواقع يسمح لنا أن نعبر عن هذا الواقع من خلاله } ، هو أساس لغة التعامل الإنساني ووسيلة للتعبير عن أفكار وحالات وأوضاع محددة وتكتسي عملية التحديد الدقيق له أهمية قصوى في البحث الاجتماعي لأنه عن طريق هذا التحديد يمكن للباحث أن يحصر المعلومات التي عليه جمعها ، ويمكن للقارئ أيضا منذ البداية أن يعرف ماذا يقصد الباحث بهذا المفهوم أو ذاك ، أو ما هي القضية محل النقاش ، إن تحديد وتعريف مفهوم أو مصطلح والإلمام بمقاصده وخصوصا في دول العالم الثالث حيث يتداخل ما هو اجتماعي مع ما هو سياسي والديني مع الدنيوي بشكل كبير، لا يستمد هذا التعريف غالباً من المفهوم ذاته أي من كونه تجريد للواقع ، بل تغلب عليه الأيديولوجيا والأشواق والتطلعات ، فيصبح المصطلح من خلال ما يضفي عليه مما ليس فيه تعبيراً عن شيء أو أشياء لا علاقة لها بالواقع وعن شيء يجب أن يكون كما يريده العقل المتعامل والمستعمل للمصطلح ، وليس عن الشيء الموجود بالفعل ، الأمر الذي جعل بنية الفكر العربي الإسلامي الذي تملأه هذه المفاهيم وتشكل لحمته وسداه عبارة عن بناء تصوري ذاتوي منسلخ عن الواقع ، فكر مرتبط ومحكوم ومسير بمفاهيم ومصطلحات يعتقد أنها واضحة وبينة ، بينما هي في الحقيقة أبعد ما تكون عن الوضوح والموضوعية حيث إن كل شخص أو حركة أو نظام يضفي عليها مسحة أخلاقية وقيمية إيجابية أو سلبية بحسب هواه ، وهذا الأمر غير المقتصر على الحركة الإسلامية أو الفكر الإسلامي المعاصر ، بل ينطبق أيضا على التيارات الفكرية الأخرى القومية والاشتراكية ، العلمانية ، فالعلمانية من المفاهيم التي أقحمت في الجدل المحتدم في العالم العربي والإسلامي حول علاقة الديني بالدنيوي ، ويظهرها بعضهم كأسلوب حياة وحكم متعارض مع الشريعة الإسلامية ، ويطرحها آخرون بشكل لا يضعها موضع التصادم مع الإسلام ، لاشك هنا في أن مفهوم العلمانية مفهوم غربي النشأة وسواء نسبنا الكلمة إلى - العلم ـ فالعلمانية بكسر العين ـ أو العالم ـ والعلمانية بفتح العين ـ ، فإن هناك شبه إجماع لدى المختصين على أنها تعني فصل الدين عن الدولة أو مدنية الدولة ، وحيث إن العلمانية في نظرهم شكلت عنصراً أساسياً في تطور الحضارة الغربية وإحدى ركائزها فإن الأمر في نظرهم يتطلب تطبيق العلمانية في الوطن العربي والعالم الإسلامي لتكون ركيزة نهضة حضارية ، وهؤلاء هم أنصار نظرية التنمية ، أو المستلهمون مرتكزاتها الفكرية لن نستعيد هنا المفاهيم والتحليلات المتعددة التي أعطيت للعلمانية من طرف كتاب عرب ، والنقاش الذي بدأ منذ بداية القرن العشرين مع صدمة الحداثة ، ثم توسع واحتدم مع علمانية كمال اتاتورك في تركيا ، لكننا سنبين المفهوم الذي أعطى للعلمانية ووضعها في حالة تعارض مع الإسلام ، حيث عرفت العلمانية بأنها فصل الدين عن الدنيا أو عن الدولة والسياسة ، الأمر الذي يعني أن للرب مجالاً خاصاً به ، وهناك مجالات أخرى لا علاقة للرب بها ، وهذا في نظر بعض التيارات الدينية يتناقض مع مفهوم الرب المطلق اللامتناهي رب السماوات والأرض الذي على كل شيء قدير والذي لا يحدث أمر من دون علمه وإذنه ، كما يتناقض مع تصورهم عن الإسلام باعتباره دينا ودنيا { عبادات ومعاملات } ، قد يوحي تعريف العلمانية بأنها فصل الديني عن الدنيوي ، أن دول الغرب العلمانية تخلت عن قيمها المسيحية ، ولم يعد للدين وجود في علاقتها الداخلية والخارجية وهذا أمر غير صحيح ، فالحضارة الغربية لا زالت تسمى { حضارة غربية مسيحية } والمؤسسات والرموز الدينية لا زالت فاعلة ، والمراكز التبشيرية التي يزرعها الغرب في مناطق العالم لا تخفى على أحد ، بل إن نظرة الإنسان الأوروبي العادي إلى أصحاب الديانات الأخرى محكومة ببعد ديني لا يخفى بالإضافة إلى النظرة العدائية التي ينظر من خلالها الغرب المسيحي إلى العالم الإسلامي بسبب الهاله الاعلامية والدعائيه التي مورست لاظهار المسلمين بانهم الاكثر خطرا" على الحضارة المسيحية وظهور التيارات الاسلامية المتطرفه التكفيرية والتي اعطت المصداقية لما تناولته تلك الهالة العدائية ، إن الفهم الحقيقي للعلمانية التي أخذ بها الغرب يعني أن أمور الدين ليست حكرا على جماعة تدعي أنها واسطة بين الإنسان وربه ، فالعلمانية ترفض التسليم بأن أمور الدنيا لا تستقيم إلا إذا نظمت وسارت على أساس تطبيق نص أو تعاليم دينية واضحة ومحددة ، والعلمانية لا تنفي وجود الرب ولا تحاربه ، بل تقبل التعايش معه واستحضاره ، لكن ليس كنصوص قاطعة باتة أو تعاليم صارمة ، بل كروح وقيم ومبادئ تستلهم وتكيف مع خصوصيات كل مجتمع ، ومع كل مستجدات تطرأ فالعلمانية بهذا الشكل تعني {{ توظيف الدين عقلانياً بما فيه خدمة المجتمع والإنسان }} ، وبما لا يتناقض مع روح الدين إذ أن الدين وجد لخدمة الإنسان ولما فيه صالح المجتمع ، إن الجذور التاريخية للعلمانية في أوروبا والتي تصاحبت مع حركة النهضة ، لم تقم على أساس تغييب الرب أو قطع الصلة مع الدين لكنها سحبت احتكاره من قبل فئة محددة { القساوسة والكهنة } ، ووسعت أفقه ليستوعب العلم الحديث وتطورات العقل البشري وهي مجالات معرفية كانت محجوراً عليها من طرف رجال الدين وهي بذلك حررت الحاكمين من سلطة رجال الدين وتفسيراتهم وتأويلاتهم الانتقائية التي ليست بالضرورة تطبيقا لنص إلهي أو موحى بها إليهم ، وفصلت الكنيسة عن السياسة بحيث أصبح رجال الدولة يستمدون شرعيتهم من الشعب من خلال الانتخابات المباشرة ، وأصبح رجال الدين والمؤسسات الدينية جزءاً من حركة المجتمع وتطوره ومؤسساته ، وعليهما إثبات جدارتهما في خدمة المجتمع والتفاعل معه وليس في اعتمادهما على شرعية متوهمة مستمدة من مصدر إلهي مشكوك في تمثيلهما إياه ، لقد أضفت العلمانية طابعاً اجتماعياً واقتصادياً على المقدس مستوعبا" لمجريات الحياة اليومية ومتكيفاً وفق متطلباتها أي أنها عملت على تبيئة المقدس وتبسيطه وتحويله إلى أخلاقيات وقيم دنيوية ، فما هو مقدس ليس ما يقول به رجال الدين بالضرورة ، بل أن قدسيته تستمد من قدرته على خدمة الإنسان والمجتمع ، بما لا يتناقض مع روح الدين وقيمه السامية وبالتالي فإن القانون الوضعي لا يتناقض أو يلغي النص الديني ، بل يكون هذا الأخير متضمنا فيه وممثلاً روحه ، فما يخدم الإنسان ويمثل إرادة الأمة ويحظى بإجماع الشعب ورضاه لا يمكنه إلا أن يكون مقبولا من قبل الرب ، إلا أن تبسيط العلمانية وحصرها في علاقة ثنائية تناقضية مفترضة بين الدين والسياسة ، أو الدين والدولة ، لا يساعد على فهم أسباب وعوامل نجاح العلمانية في الغرب وتعثرها في البلدان الإسلامية وهنا قد يطرح بعضهم خصوصية الإسلام وتميزه عن المسيحية ، كأهم أسباب صعوبة تطبيق العلمانية ، من منطلق أنه لا يوجد في الإسلام كهنوتية ـ طبقة رجال الدين ـ كما هو الأمـــر فــي المسيحيــة وأن الإســلام فـي جوهــره ديــن ودنيا لا يمكن الفصل بينهما ، نعتقد أن هذه الأسباب وإن كان لها بعض القدرة على التفسيرغير مقنعة ، إذ أن المتعمق في البحث لن تعوزه النباهة ليكتشف وجود طبقة رجال الدين وما يشبه الكهنوتية في المجتمعات الإسلامية {{ ولاية الفقيه التي تجعل من المرجع المرشد الاعلى ذا القرار القاطع الذي يلزم التنفيذ والقبول ، الامامه كما كان في اليمن قبل الثوره وليبيا قبل الثوره }} ، بل إن هذه الأخيرة هي أكثر انغلاقاً وتخلفاً من الكهنوتية المسيحية فلعقود طويلة والدين مجال مقدس محرم لا يناقش ، وعالم مغلق على رجال الدين التقليديين من أئمة مساجد وشيوخ وعلماء يحتكرون فهم الدين وتفسيره بالشكل الذي يتفق مع مصالحهم ورغباتهم ومع مصالح ورغبات من هم في السلطة ، وهنا لابد من الاشاره لامر ذا أهمية أن اغلب العلماء والمراجع هم من خارج المحيط العامل به وكما هو الان في العراق والمرجعية الدينية في النجف الاشرف ، كما كان الدين مُحْتَكرا من قبل السلطة التي توظفه بالشكل الذي يخدم أغراضها { دولة الخلافة العباسية والاموية والعثمانية } وكان مما يزيد من شقة التباعد بين الناس العاديين وبين الفهم الحقيقي للإسلام وإدراك معانيه العميقة وعقلنته هو التحالف بين الفئتين السابقتين { رجال الدين التقليديين والسلطة } والمقصود بهم وعاظ السلاطين هذا التحالف الذي جعل الفئة العظمى من المواطنين وخصوصاً المثقفين الشباب تلتجئ إلى الإيديولوجيات العلمانية وتتبنى أفكارها وتنخرط في أنشطتها ليس كفراً بالإسلام ، لكن لأن الإسلام الرسمي والتقليدي لم يكن يشفي الغليل ، ولم يكن يسمح لهم بالتفكير العقلاني معه وبه وكانت أية محاولة من طرف المثقفين الشباب للتساؤل والتقصي حول أمور تنسب إلى الإسلام ، تفسر بتوجهات إلحادية وبالزندقة ، حيث كانت عملية التساؤل والتفسير من اختصاص الشيوخ التقليديين أو من اختصاص السلطة والمجامع العلمية الدينية التابعة لها ، ومما زاد في ارتباك مفهوم الإسلام في أذهان الناس وسلوكياتهم وتداخل الإسلام مع أمور تنسب إليه وليست فيه ، واحتكاره من طرف فئة محددة من الفقهاء وعلماء السلطة ، هو انتشار الأمية والجهل وغياب مناهج تدريس تنقل إلى الناشئة المعنى الحضاري والعميق للإسلام يتبع بالحلقة الثانية