"إن إيران اليوم أصبحت إمبراطورية كما كانت عبر التاريخ، وعاصمتها بغداد حالياً، وهي مركز حضارتنا وثقافتنا وهويتنا كما في الماضي. "إن جغرافية إيران غير قابلة للتجزئة وأن ثقافتنا غير قابلة للتفكك. "إن كل منطقة الشرق الأوسط إيرانية، وكل شعوب المنطقة جزء من إيران ونحن نريد تأسيس اتحاد إيراني في المنطقة". الكلام هو لمستشار الرئيس الإيراني على يونسي، وهو الأقرب إلى مرجعية القرار السياسي في هرمية النظام السلطوية. ووضوح هذا الموقف عن المضمر السياسي الرسمي الإيراني، جاء ليتوج سلسلة مواقف صدرت عن مرجعيات دينية وأمنية وسياسية، من أبطحي وشمخاني وجعفري الى لاريجاني وسليماني، وكلها تشير إلى التمدد الإيراني في العمق العربي ومنها على سبيل المثال لا الحصر، أن إيران باتت تسيطر على أربعة عواصم عربية، هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء. هذه المواقف الإيرانية التي تصدر عن منابر متعددة، ليست مفاجئة إلا لجهة وضوح أهدافها وأبعادها، لكن الأخطر ما فيها، أن الجموح الإيراني المندفع إلى العمق العربي، أشر على مسألة خطيرة جداً، وهذه الخطورة تتجاوز النفوذ السياسي للنظام الإيراني الذي يريد تكريسه عبر حفظ موقع لنفسه على طاولة الترتيبات السياسية للأزمات التي تصنف ببعض الأقطار العربية، إلى تقديم نفسه كمحرر لأرض يعتبرها بالأصل فارسية. فعندما يقول قائد ما يسمى بالحرس الثوري الإيراني بأن الحرس قد حرر 85% من الأراضي السورية المحتلة، وعندما يقول يونسي بأن بغداد أصبحت عاصمة الإمبراطورية الإيرانية كما كانت في السابق، وهي مركز الحضارة والثقافة والهوية، فهذا يعني، أن العرب هم محتلون وهم بالتالي غرباء ، وتالياً فإن تحرير بغداد ودمشق وصنعاء وبيروت من عربها هو استعادة لهويتها الأصلية، وهي الهوية الفارسية. ماذا يعني هذا الكلام، أنه يعني بوضوح لا ليس فيه ولا التباس حوله، أن النظام الإيراني الحاكم في طهران يقدم نفسه في تعامله مع الأمة العربية، انطلاقاً من معطى واقعه الذي كان سائداً، قبل الفتح العربي لبلاد فارس، و قبل نشر الدعوة الإسلامية التي أصبحت معتقداً إيمانياً لشعوب فارس التي كانت تدين بالمجوسية والزرادشتية. يومذاك كانت المدائن البعيدة حوالي 30كلم عن بغداد، مقراً شتوياً لأباطرة الفرس، باعتبارهم سلطة احتلال يعتبرون أن بلاد الرافدين حديقة خلفية لنفوذهم، إلى أن جاءت معركة القادسية التي أنهت السيطرة الفارسية على العراق، وبعد قرن ونيف من الزمن، أصبحت بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية العربية. إن نتالي المواقف الإيرانية التي تستعيد الماضي الفارسي، أربكت كثيرين، خاصة الذين يروجون لمواقف النظام الحاكم في طهران بأنه نظام مساند للقضايا العربية، كما أحدثت ارتباكاً لدى الذين يرتبطون بمرجعية القرار الفقهي والسياسي والأمني الإيراني، كونه أماط اللثام عن الحقيقة الفعلية لأهداف النظام، والتي لم تفلح معها كل التوضيحات والتفسيرات اللاحقة التي سعت للتخفيف من وطأة هذه المواقف على وضعها الذاتي قبل أن تكون شديدة الوطأة على الواقع السياسي العام. فماذا يقول الذين التحقوا بالنظام الإيراني، باعتباره قاعدة المواجهة للتحالف الصهيو-الأميركي، وهم يرون بأم العين التنسيق العملاني السياسي والعسكري والأمني مع هذا الحلف في التعامل مع ملف العراق، وماذا يقول هؤلاء عندما يعتبر النظام الإيراني نفسه أنه قدم إلى بغداد ودمشق محرراً ؟ وماذا يقول حكام العراق وسوريا؟ إن الأمر على وضوحه لم يعد بحاجة إلى تقديم كثير من الأدلة لإثبات أن النظام الإيراني أياً كانت العناوين التي يقدم نفسه من خلالها، هو نظام يستبطن عدائية ضد العرب ترتقي إلى مستوى الخطر الوجودي، ولا ما معنى اعتبار بغداد هي عاصمة إمبراطورية فارس، وهي مركز الحضارة والثقافة والهوية الفارسية وهو قدم إلى سوريا محرراً؟ فهل يبتلع الذين نظروا ودافعوا ما زالوا عن الدور الإيراني ألسنتهم أو ينفكون عن الالتحاق والارتباط بهذا النظام الذي يمارس سياسة الانسجام مع نفسه. وهي سياسة العداء للقومية العربية، والتي كما كانت نهجاً ثانياً لحكم الشاه، استمرت مع النظام الجديد الذي تلبس الشعارات الدينية، وحاول توظيف الورقة الفلسطينية للتضليل السياسي والإعلامي؟ إن وضوح الموقف الإيراني تجاه الأمة العربية، لم يفاجئنا، لأن بلاد فارس التي هزمت نظمها السياسية على أيدي العرب في ثلاث معارك مفصلية، ذي قار والقادسية الأولى والثانية، لم تستطع حتى تاريخه أن تهضم النتائج التي ترتبت على هذه الهزائم، ولهذا بقيت مشحونة بعامل العداء للعرب، وهي تتربص الفرص لاقتناصها، ثأراً من العرب وثأراً للهزائم التاريخية التي منيت بها في قديم التاريخ وحديثه ومنا ً للنفس بإحياء أمجاد فارس الغابرة. وإذا يشتد التركيز على بغداد، فلأن العراق كان مسرح المعارك التي انتصر فيها العرب على الفرس، ولأن العراق هو الساتر السياسي والجغرافي والقومي الذي حال سابقاً دون اندفاع المشروع الإيراني إلى العمق العربي. ولهذا فإن الأخطر من التصريحات والإعلانات السياسية التي تصدر عن المسؤولين الإيرانيين وآخرها موقف يونسي هو ذلك الذي يجري على الأرض، حيث تتعرض العديد من المناطق العراقية للتطهير العرقي والتهجير الجماعي في عملية "ترانسفير كبير" تذكر بالترانسفير الفلسطيني. إن هذا الذي يشهده العراق اليوم ومعه أقطار عربية أخرى هو غزو إيراني استعماري مكشوف لأرض عربية، ومواجهته هي مسؤولية عربية شاملة، وإلا لن تجدي بعدها عملية البكاء على الأطلال، وستصبح عملية تحرير الأرض العربية بعد ذلك أكثر تكلفة إذا ما قيد لهذا الاحتلال أن يضرب مخاليه في الجسم العربي.