من يبحث عن إبرة في كوم قش، أهون عليه من البحث عن أموال في الخزينة العراقية، في بلد يضخ يومياً ثلاثة ملايين برميل من النفط وبلغت الأرقام الدفترية لميزانيته السنوية العام المنصرم أكثر من مئة مليار دولار. لكن إذا عرف السبب بطل العجب. والدليل ليس ضرباً بالمندل، ولا القاء التهم جزافاً عن الهدر الذي وضع البلد على حافة الإفلاس. وعلى سبيل المثال لا الحصر نورد ما يلي: 1- اكتشفت حكومة العبادي، أن أبواب الأنفاق الحكومي تحتوي على بند أنفاق وصرف مخصصات لخمسين ألف منتسب لجهاز أمني، وهو في الحقيقة غير موجود ولا توجد لائحة اسمية بمن صرفت لهم المبالغ. 2- تبين أن ابن المالكي، هرب مبلغ مليار وخمسئة مليون دولار أميركي، وأنه تم توقيفه في بيروت بجرم نقل وتبيض أموال، ومما استدعى تدخل والده وزيارة لبنان للملمة ذيول القضية - الفضيحة. 3- تبين أن مخصصات النواب والوزراء والمحسوبين على النافدين في السلطة تبلغ عشرات الملايين من الدولارات سنوياً وقس على ذلك. هذه النماذج التي جرت الإشارة إليها هي سبيل المثال لا الحصر، وهي ما تداولته وسائل الإعلام وأقر به الذين يتولون مواقع سلطوية في إدارة العملية السياسية. ولو تم الخروج من التخصيص إلى التعميم لطالت اللائحة لأبواب الإنفاق الغير منظورة وعندها يصبح التساؤل أكثر الحاحاً عن الأسباب التي جعلت هذا البلد الغني بموارده الطبيعية يقف على حافة الإفلاس. إن تصنيف دولة العراق، بالدولة الفاشلة منذ وقعت تحت الاحتلال وهي تأتي في أول سلم التصنيف، واستناداً إلى تطبيق معايير الشفافية والحوكمة، يعني، ان الفساد ينخر الإدارة السياسية وأن توالي المتنفذين في السلطة من رأس الهرم إلى أسفله، لم يكن همهم إعادة بناء العراق وإعادة تأهيله بعدما انهكه الحصار ودمرته الحرب التي شنت عليه وأدت إلى وقوعه تحت الاحتلال بل كان همهم إملاء جيوبهم وأشباع بطونهم ولو كان على حساب لقمة عيش المواطن وحقه في حياة حرة كريمة. لقد ثبت، أن سرقة أموال العراق لم تكن حكراً على مسؤولي إدارة الاحتلال الأميركي الذين خرجوا برصيد بلغ المليارات، بل أن الذين تولوا إدارة العملية السياسية في ظل الاحتلال الأميركي وبعده الاحتلال الإيراني من الباطن كانوا أكثر نهماً لأن جوعهم المزمن للسلطة وجوعهم المزمن للمال جعلهم يتصرفون بالمال العام العراقي وكأنه مال خاص، ولهذا كلما كان فريق حكومي يتولى السلطة كان يفرغ الخزينة من كل رصيدها، وهكذا دواليك إلى أن استقرت الأمور أخيراً مع حكومة العبادي. هذه الحكومة التي جاءت في ظل توافقات إقليمية ودولية، قدمت نفسها بأنها سترعى مصالحة وطنية، وستضع حداً للهدر في المال العام وستطبق مبدأ المساءلة وصولاً إلى قيام حكم الشفافية. وهنا نترك جانباً موضوع المصالحة الوطنية، لأن ما اعتبر تغييرياً جوهرياً في التركيب السياسي الحاكم، لم يتجاوز سوى الأسماء وهو اقتصر على الشكل دون المضمون. وأما الموضوع المالي فلم يكن بأحسن حال، لأن ما كان المالكي ينفقه عبر الزواريب، ويوظف مالية العراق في خدمة حاشيته الخاصة وأزلامه في السلطة وخارجها، وما كان ينفقه عبر أبواب وهمية، جاء العبادي يشرعها. إذ أن الخمسين ألف منتسب للأجهزة الأمنية والذين قيل عنهم أنهم أسماء وهمية، أصبحوا حقيقة واقعة، بعد تشريع ما سمي بالحشد الشعبي، وهي ميليشيا مذهبية أطلقت بعد انهيار سلطة المالكي وخروج عدة حافظات من تحت سيطرة الإدارة الحكومية. ومع هذا التشريع للتشكيل الميلشياوي المذهبي، خرج الأنفاق الحكومي من غرفه السرية إلى العلن، وما كان وهماً أصبح حقيقة وبالتالي لم يعد تشريع الأنفاق في هذا المجال يدرج تحت بند الهدر، بل بات يدرج تحت بند "الضرورة الوطنية" ومواجهة الإرهاب والمنظمات التكفيرية. وهكذا فإن أول إطلالة للعبادي في تعامله مع الواقع المستجد في العراق، كان تشريع الواقع الذي أرسى دعائمه المالكي. والخطورة لا تكمن بهذه الخطوة وحسب، بل بما يحضر له، وهو تشريع كل الإجراءات التي اتخذتها حكومة المالكي وخاصة منذ اللحظة التي حل بها قاسم سليماني محل بريمر في توجيه وإدارة العملية السياسية. ومن هذه الخطوات، التعامل مع الدور الإيراني في العراق بأنه "ضرورة وطنية" عراقية، وهذا الدور الذي ينسق خطواته مع الدور الأميركي، له أثمانه وتكاليفه. والأثمان ليست سياسية وحسب، بل هي مالية أيضاً. وعليه، فإن المال العراقي سيوظف بجانب منه في تسديد نفقات الأنخراط الإيراني في الصراع في العراق، وان تسديد هذه النفقات واجب على العراق كما واجبه على تغطية نفقات كافة العمليات العسكرية التي تشنها أميركا مع حلفائها. وهكذا، فإن ما يسمى "بالحشد الشعبي" الذي شُرع وضعه في ظل النظر للدور الإيراني بأنه ضرورة وطنية، سيكون مشكلاً من كل الذين يعملون بإمرة الحاكم العسكري الإيراني. وهذا يشمل بطبيعة الحال، الميليشيات العراقية والإيرانيين الذي ضخهم النظام إلى الداخل العراقي والذين باتوا بعشرات الألوف وأن تمويل هؤلاء من المال العام العراقي، سيجعل الخزينة العراقية أعجز من أن تواجه متطلبات الخدمات الضرورية للمواطنين. وإذا ما أضيفت عوامل التثقيل هذه، إلى سحب أموال طائلة من المال العراقي لتمويل تكاليف الانخراط الإيراني في صراعات متفجرة في ساحة الوطن العربي من سوريا إلى اليمن انطلاقاً من نظرية ارتباط مواجهة الإرهاب في العراق بالإرهاب في ساحات أخرى،واذا ما استمر استعمال السوق العراقية سوقاً خلفياً للاقتصاد الإيراني الذي يرزح تحت ضغط العقوبات واستمرار سرقة البترول العراقي من المناطق الحدودية وهي بحدود ثمانية عشر بئراً، لتبين كم هو العبء المالي الذي تتحمله الخزينة العراقية في تغطية نفقات الدور الإيراني في العراق وعلى مستوى الوطن العربي. من هنا، فإنه عبثاً القول بإمكانية الخروج من واقع العجز في الميزان الاقتصادي العراقي إذا ما بقيت الأمور تسير في وفق النهج القائم. وبالتالي فإن إخراج مال العراق العام من دائرة النهب والهدر الداخليين ووضع حدٍ لامتصاص إيران للثروة العراقية لا يكون بالنهج الذي تدير به الحكومة الحالية البلاد، وهي بما تقوم به إنما تشرع إجراءات المالكي. من هنا ان وضع حد لنهب ثورة العراق لا يكون الا بإطلاق عملية سياسية جديدة، تضع في سلم أولوياتها إسقاط نظرية اعتبار الدور الإيراني "ضرورة وطنية عراقية"، والنظر إليه باعتبار مصدر خطر فعلي داهم على الأمن الوطني العراقي بكل مضامينه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمجتمعية. ان المدخل لذلك هو إطلاق عملية سياسية جديدة، تنطلق من مبدأ إيقاف العمل بدستور بريمر الذي الذي شرع تقسيم البلاد وتطييف ومذهبة حياتها السياسية وإعادة إنتاج نظام سياسي، يقوم على التعددية السياسية والديموقراطية تصان في ظله وحدة العراق وعروبته، بحيث يشعر العراقيون كل العراقيين بأن وحدتهم الوطنية هي مظلة حمايتهم من العدوانية الأميركية والإطماع الإيرانية الذي اتخذت بعداً خطيراً في الآونة الأخيرة وكل أشكال الترهيب الديني والسياسي. إن تحقيق ذلك بمشاركة كل القوى الحريصة على استعادة العراق لحريته وتحقيق وحدته وحماية هويته القومية هو الذي يحمي ثروة العراق من الهدر والنهب الداخليين ويحول دون سرقته وامتصاصه من الخارج الدولي والإقليمي توظيفاً لتغطية نفقات عدوانية أميركا ومشاريع النظام الإيراني. إن ثروة العراق التي هي حق شعب العراق يجب وضعها في خدمة إنماء وطني وليس في خدمة مشاريع العدوان والتوسع والهيمنة التي تستهدف ضرب المقومات الوطنية ومنها مقوماته الاقتصادية. واذا ما استمر النهج القائم على حاله فهذا يعني أن العراقيين سيبقون يقتلون بسلاح يدفعون ثمنه من مالهم العام، وهذه حقيقة يجب أن يدركها كل العراقيين، إدراكهم بأن لا مستقبل وطنياً للعراق، خارج المشروع الوطني العابر للطوائف والمذاهب والمناطق والتي تشكل ركيزته الاساسية قوى المشروع الوطني التي تصدت وما تزال للاحتلال الأميركي وللهيمنة الإيرانية . وإلا فإن صياغة مشروع وطني خارج دور فاعل لقوى المشروع الوطني هي صعبة كصعوبة البحث عن إبرة في كوم قش وحالها حال البحث عن مال عام في خزينة العراق في ظل طغمة حاكمة مثالها المالكي وخلفه الذي بدل ان يسائل ناهبي المال ، منحهم الحصانة الدستورية من خلال مواقعهم في هرمية السلطة والمالكي أنموذجاً.