لا يختلف اثنان في العراق إلى أن ما وصلت إليه الأمور في العراق لا يمكن إلّا أن تصل إلى ذلك القرار السحيق، أي الحضيض، الذي أرادته قوى الاحتلال، وهو المستوى الأسفل الذي لا قرار له بعدها. وكما اشرنا في مقالات وتصريحات سابقة إن كثرة المؤسسات والأحزاب والكيانات التي رفعت مسميات وعناوين من مثل: الوطنية والقومية والإسلامية والطائفية والجهوية والعشائرية، ويرطن رجالاتها وممثلوها كثيرا بمصطلحات من مثل الفضيلة والإخلاص والإيمان بالمثل العليا للوطن والشعب العراقي بشعارات وخطاب سياسي مشبوه، ما عادت تلك القوى تزكي نفسها بعد اليوم وهي تمارس بسلوكياتها السياسية المريبة تدمير العراق، كيانا ومجتمعا ودولة وحضارة، فهي لم تعد صادقة في رفع تلك الشعارات طالما انها وصلت فعليا إلى حضيض الفساد السياسي والأخلاقي الذي بات لها مُجَّمَعا ومَكَّباً لكل النفايات السياسية العراقية التي تلعب اليوم في ما يسمى بالعملية السياسية التي أنشأها ورعاها ويحميها الاحتلال الأمريكي وشريكه النفوذ الإيراني. ولا يختلف جمهور العراقيين من أن الفترة التي تلت احتلال العراق في 2003 لم تفرز زعيما عراقيا او مؤسسة أو حزبا شارك في تلك العملية السياسية الجارية فصولها الآن يمكن الوثوق به وتزكيته وحتى قبول مصداقيته من خلال التجربة المُرَّة التي يعيشها شعبنا على كل الأصعدة. وبالتمعن بأرقام ومعطيات أصدرتها هيئات عراقية أسسها الاحتلال وشَرَّعها دستوره وقرارات برلمانه وهيئاته الحاكمة، وقد حمل الكثير منها عناوين ومسميات لازالت تثير الجدل حول مدى مصداقياتها: مثل هيئات النزاهة والمساءلة والعدالة وحقوق الإنسان... الخ. نسمع من مصادرها رغم التكتم، الاختلاسات المالية وقد بلغت أرقاما كونية تفصح عن مدى حجم الفساد وتقنينه وحمايته في العراق، فهناك أكثر من 12 مليون ملف أمام لجنة واحدة فقط من تلك الهيئات، تشتمل على متابعة لأكثر من ربع مليون " مجرم" ، لازال طليقا، وان معظم تلك الملفات ستنتظر عشرات السنوات القادمة للبت فيها، في الوقت الذي تُرتهن فيه عشرات المليارات من الدولارات المحتجزة داخل العراق وخارجه وهي لازالت قيد المتابعات القانونية المحلية والدولية، في حين سلكت مئات المليارات من الدولارات الأخرى طريقها إلى البنوك الخارجية وسُجلت في أرقام سرية منها وعلنية، تُضاف عليها عشرات المليارات من الدولارات الأخرى تم تبييضها وتسجيلها في أشكال من عقارات وأراضي وأملاك وشركات توزعت في لبنان والأردن وتركيا ودولة الإمارات العربية وإيران وروسيا واليونان، وفي بلدان وعواصم أوربية عديدة يصعب حصرها هنا. وفي الوقت الذي لم نشهد حضور وإدانة مختلس ومجرم واحد أمام القضاء العراقي، ولم نشهد أو نسمع عن محاسبة لمقصر واحد من أولئكم الذين ساروا بالعراق نحو الخراب الشامل؛ لازلنا نسمع كل يوم عن وعود مبتذلة عن إجراءات ووعود عن القيام بإصلاح الفساد الإداري والمالي والمحاسبة وإعادة القضاء إلى مجلسه ومحاكمه الضائعة في وحول الفساد، ونسي العراقيون تماماً ما يسمى تفعيل الرقابة المالية والإدارية في أجهزة الدولة. في أجواء مثل هذه نسمع الوعود والأخبار المُسَّربة حول قرب إجراء "المصالحة الوطنية" لردم الشرخ الاجتماعي والسياسي القائم بين ملايين العراقيين المتمترسين خلف خنادق الحرب الأهلية القائمة فعلا بادارة وتسيير أمراء الحرب الطائفية التي تقودهم إليها الحكومة الإيرانية بإصرار وتخطيط لم يعد سراً على أحد. وفي الوقت الذي لازالت فيه عشرات السجون العراقية، السرية منها والعلنية، تكتظ بمئات الألوف من الأبرياء من الموقوفين المنتظرين للمحاكمة والاستجواب القضائي العادل ومن الألوف من المظلومين الذين انتهت فترة محكومياتهم، وهم ينتظرون لكي يطلق سراحهم منذ سنوات طويلة. تقود الحكومة العراقية والمجموعات المُتحاصصة في أجهزة الدولة مغامرة التنفيذ المباشر لحرب أهلية بحجة الحرب على " الإرهاب" وهي التي تنفذ وجوهاً متعددة من هذا الإرهاب برعايتها الرسمية لما يسمى "الحشد الشعبي" الذي تتحكم فيه وتقوده المليشيات الطائفية التي يقودها ضباط إيرانيون بشكل علني وغير سري.وعلى الجهة الأخرى تُسَّعر الحكومة وحلفائها المواقف لإثارة الشحن الطائفي والعمل على تشكيل الصَحَوات وتجنيد عشائر وقوى معينة في ما يسمى تشكيلات " الحرس الوطني" في المحافظات المنتفضة على سياسات الحكومة والنظام القائم. ولم تكف الهيئات السياسية المُهَّيمَن عليها من قبل حفنة من اللصوص وشُذّاذ الآفاق وأمراء الحرب الجدد في العراق، من الذين جمعهم المحتل الأمريكي ودعمهم حليفه الإيراني خلال سنوات العبث السياسي والإداري والمالي في العقد الأخير، ويجري العمل اليوم على جمعهم من جديد كلما انفرط عقد تحالفاتهم وتعمقت صراعاتهم خلال تهالكهم على صفقات النهب والفساد والاختلاسات الكبرى، وآخرها ما يقترحه سليم الجبوري، رئيس دورة البرلمان الحالي، بدعوته تشكيل مجلس يجمع أولئك الساقطين في الانتخابات الأخيرة مع المتبقين من زمر اللصوص المتواجدين حالياً في الرئاسات الحكومية الثلاث بحيث يمكن أن تتشكل منهم هيئة أخرى ستجتمع دوريا كهيئة لأهل الحل والربط والتنسيق بين العملاء، لتلتقي فيها حُثالات رؤساء ونواب الحكومة والجمهورية والبرلمان لمتابعة ما وصلت إليه أحوال العراق وحكمه الآن ومستقبلاً، وهم المسؤولين عن تنفيذ وممارسة كل هذا الخراب الشامل الجاري في العراق، والذي يتوجب والحالة هذه، وقوفهم وإدانتهم أمام المحاكم والعدالة المختصة للاقتصاص منهم جَرّاء أفعالهم وجرائمهم بحق الشعب العراقي. إن الحديث حول المصالحة الوطنية في الإعلام والكواليس السياسية هي عملية تمويه وتضليل وتدليس سياسي يقصد بها في الهدف الأول والأخير مصالحة المجرمين واللصوص والعملاء وتقريبهم من بعضهم بعضا، والعودة إلى مظاهر ومشاهد بَوس اللحي ومسح الجوخ بينهم، لتضليل الرأي العام الوطني والعربي والدولي ومغالطة الحقائق على الأرض للإيحاء: بان ثمة نخبة سياسية عراقية قديمة جديدة لازالت موجودة وهي مستعدة للانخراط والتعبئة في خدمة تنفيذ غزو واحتلال العراق في مرحلتها الثانية من جديد برعاية أمريكية، مع مراعاة ما يترتب عليه من استحقاقات الجانب الإيراني في فرض نفوذ الهيمنة الصفوية على شعب العراق والمنطقة. هؤلاء المنافقون، الذين خبرهم شعبنا، يميلون من حيث المبدأ والجوهر إلى تكريس أساليب المخاتلة والخداع والادعاء بالورع والتقية والتضحية، وحتى إعلانهم عن الاستعداد للإصلاح السياسي والإداري للمفاسد الكبرى التي أورثوها هم وبأياديهم القذر من خلال ممارسات أحزابهم وكتلهم السياسية ووزراء حكوماتهم المتعاقبة، والتي ستستمر تاركة آثاراً تدميرية إلى عقود تالية محملة شعبنا حصيلة ضخمة من الآلام والخراب الاقتصادي والاجتماعي والنفسي الذي بات يحفر في أعماق النسيج الوطني لملايين العراقيين ويؤثر في أجيالهم من ضحايا المأساة الوطنية الكبرى التي نعيش فصولها الآن كل يوم. ولا شك في أن جُلَّ اؤلئكم الأشخاص الذين يعرضون أنفسهم هذه الأيام على مختلف الجبهات ، الحكومية منها وفي بعض المعارضة الشكلية، نراهم وبصور وتحركات يُسَّوقها الإعلام المرتزق كأمثلة من الشخصيات والجماعات المتهافتة على العواصم الإقليمية وكأنهم أمثلة للاستقامة والمصداقية الوطنية طارحين مشاريع عقد المؤتمرات باسم العراقيين بهدف تحقيق " المصالحة" تارة أو " الدفاع عن المظلوميات الجهوية والطائفية"، وهم يٌسربون هنا وهناك جرعات من التهدئة والوعود تحت حجة قُرب عقد مؤتمرات" المصالحة الوطنية" لحل مشاكل الوضع السياسي والاجتماعي في العراق. والسؤال المطروح هنا: عن أية "مصالحة وطنية" هم يتكلمون ؟؟ وعن بَين مَن ومَن ستتم تلك المصالحة الوطنية الموعودة والمطروحة في بعض الكواليس هذه الأيام؟؟. وهنا لابد من التذكير والقول لمن يتابع مثل هذه الأمور :انه سوف لن نحتاج إلى الكثير من الوقت وحتى الاجتهاد في طرح الشرح والتفصيل في أمور مثل هؤلاء للتعريف بهؤلاء دعاة التسويق التجاري لمشاريع عقد المؤتمرات بإسم " المصالحة الوطنية"، سواء كان ذلك سيتم داخل العراق أو خارجه، لأن واقعهم وسلوكيات الكثير منم كشفت في أكثر من مرة بأنهم شخصيات زائفة وغير مؤهلة لأية ثقة باجماع وطني فيهم، طالما إنهم يسعون إلى إخفاء آثامهم من دون أي اعتراف صريح أو ممارسة نقد ذاتي عن مسؤولياتهم في خراب العباد والبلاد وبث الفرقة بين القوى الوطنية العراقية تكسبا منهم في مصالحهم الشخصية والفئوية الضيقة والأنانية . لقد وصلت الأزمة العراقية منتهاها، وهي في مفترق طرق صعب التحكم فيه ورصد اتجاهاته المستقبلية طالما ظل هؤلاء يعملون وفق أجنداتهم على تقسيم العراق بعد خرابه، حتى وان تجمعوا على أهداف تجمع مصالحهم للانطلاق من جديد بمبادرات غامضة الأهداف والمرامي السياسية المرتبطة بأجندات محلية أو إقليمية، وهم في حرصهم على امتيازاتهم يريدون الإبقاء على عراق منهوب وضعيف ومُقَّسم على كل الصٌعد، ليسهل بقائه مسبياً وأسيرا ومُرتَهَناً للإرادات الدوليةً والدول المتحكمة بأمثال هؤلاء العملاء، الضامنين مستقبلاً لتبعية العراق وإبقائه تحت النفوذ الأجنبي بشتى الصيغ والإملاءات الأمنية والسياسية التي تريدهما حكومتا الولايات المتحدة وإيران، وحتى إسرائيل وبعض دول المنطقة. هل سَيُلدَغ شعب العراق من ذات الجُحور المشبوهة مرات ومرات؟؟ ، وإذا كان الأمر كذلك؟ فتلك هي المأساة الوطنية، لا بد من يقظة وطنية شاملة وقف تصديق البعض لمشاهد ومظاهر بوس اللحي ومسرحيات المصالحات الوطنية الزائفة والخادعة في فنادق النجوم الخمس، وعلى الكثيرين الكف عن خدمة الأجندات المشبوهة والتوقف عن مسح أجواخ عبي وأردية وأحذية أصحاب وأزلام العملية السياسية، من جهة، كما لا بد من فضح كل المتاجرين بالقضايا الوطنية وبكفاح شعبنا ضد الاحتلال؛ حتى وان لبسوا عباءات المعارضة للعملية السياسية وادعاءات مقاومة الاحتلال من خلال مكاتبهم الإدارية والإعلامية فقط ؟؟ . يقيننا ، بحكم معرفتنا لخصال أبناء شعبنا النضالية والجهادية، إن الأمر هو عكس ذلك تماماً، وقد بلغت ثخن وأعماق الجراح منتهاها في جسدنا الوطني ، نرى لزوماً علينا القول ونذكر الجميع :على شعبنا وقواه الوطنية حسم التردد والانتظار والاتكال على رجال الصفوة الوطنية القادرة على استكمال معركة التحرير والثورة، والعمل على تجنيد كل الإرادات الوطنية الخَيّرة المستعدة لاستكمال بناء الوحدة الوطنية، وزج قوى شعبنا جميعها ضمن المسار الذي يوصلنا جميعاً للخروج من أنفاق الاحتلال ومتاهاة ودهاليز العملية السياسية الساقطة لا محالة، وعزل أزلامها وعملائها في سلطة المضبعة الخضراء وخارجها، من دون التعويل على مصالحة وطنية وهمية ومدسوسة مسبقا تعرضها بعض من القوى والمسميات السياسية العراقية وفق نهج تساومي ونفعي وانتقائي لانجاز مصالحة وفق مقاسات معينة، تتبارك بها وتجتمع شخصيات أضحت لحاياها ملوثة بكل أشكال النفاق السياسي والممارسات البراغماتية من خلال المداهنات الميكافيلية في ظروف العمل السياسي الوطني المعقدة؛ وغالبا ما تريد تلك الجهات ان تتمم أنشطتها باشتراطات وصفقات ظرفية لن تصل بشعبنا أبداً إلا إلى مزيد من الخراب والتشتت والتمزق الوطني. إن تجربة جماهيرنا العراقية باتت غنية، بعد ان كُشف المستور عن كثير من القوى والشخصيات في الساحة العراقية، خصوصا ونحن نرى ملايين العراقيين نازحة ومتشردة وضائعة بأجيالها عن مستقبلها بسبب سياسات الاحتلال وما آلت اليه العملية السياسية، وهذا الغنى والتنوع في حجم الآلام التي نعيشها يجب أن لا يجعل البعض من العراقيين أسرى الإحساس بالذنب أو التقصير أو ممارسة الأخطاء بسبب اجتهادات كانت قاصرة عن رؤية مسار التحرير المطلوب اجتيازه وبأقل الخسائر، فلا بد والحالة هذه أن لا نجعل من أنفسنا وأبناء شعبنا ضحايا سهلة لمن يبحثون عن ذبحنا وإلغائنا من الوجود، وهذا لا يتم إلا عبر انتفاضة وثورة وطنية موحدة وعارمة وبكل إقدام وشجاعة وبلا تردد لحسم كثيرا من الأمور التي يؤجلها البعض نتيجة لحسابات ظرفية وقاصرة، وفي مقدمتها إنجاز بناء الجبهة الوطنية العريضة في العراق لمواجهة مهمات التحرير وبناء العراق مستقبلا. علينا أن نعترف أن ساحتنا الوطنية باتت مرتعا لكثير من الانحرافات والتطلعات الأنانية التي تسلكها بعض الشخصيات والقوى المحسوبة على الصف الوطني، وكلها تشكل عوائق لإتمام المصالحة الوطنية الحقيقية، كونها الحجر الصلب لاستعادة وحدتنا الوطنية، والتي يجب الشروع بها من فوراً ومن دون تأخير من خلال الحوار الجاد بين قوى المعارضة الحقيقية للنظام السياسي القائم الذي نَصَّبَه ورعاه، ولا زال يحمي الاحتلال الأمريكي والتدخل الإيراني كلما تداعى هذا النظام إلى السقوط، إذن لا بد من إجماع وطني يعمل على عزل الخونة والعملاء من جهة وكذلك فضح المتسلقين والمتاجرين بآلام وطموحات شعبنا، ولكي نضمن الوصول إلى بناء حركة تحرر وطني عراقية تقود المشروع الوطني العراقي نحو الانتصار في عراق موحد الأرض والشعب. ولابد من عقد مؤتمر وطني عراقي فوري وشامل لانجاز ترتيب أولويات الإجماع الوطني في مواجهة كل الخلل القادم وأخطاره، يتجاوز فيه الوطنيون الحقيقيون العراقيون أصحاب ممارسات بوس اللحي العفنة ومسّاحي أجواخ دعاة الوطنية والقومية والإسلامية والطائفية الزائفة من الذين تجاوزهم الزمن، ولم يعد باستطاعتهم، كما بينت السنوات السابقة، فعل أي شئ يمكن أن ينقذ العراق وضمان مستقبله وحمايته من كل هذا التداعي المريع والمخيف. وان غدا لناظره قريب