يمثل تور هايردال نموذجا انسانيا مقتدرا ومتميزا وربما مجازفا ايضا في مجال الأستكشافات البحرية للحصول على المعلومات والتحقق منها من خلال مصادرها الرئيسية مما جعله عالما وخبيرا في هذا الأختصاص . كانت جميع توجهاته عالمية ولا يؤمن بالحدود بين المجتمعات وتداول العلوم المعرفية بينها بأنفتاح تام دون ضغوط وحواجزكان دائم القراءة والأطلاع على جميع حضارات العالم القديمة في بلاد وادي الرافدين ووادي النيل والهند ومناطق اخرى في افريقيا وامريكا الشمالية والجنوبية .ولد هايردال في 6 أكتوبر من عام 1914 في مدينة فيستفول النرويجية ونشأ في غرفته الخاصة بشيء من الأنعزال عن الأحتكاك مع اقرانه الأخرين وكانت والدته تخشى عليه من طبيعته الأنعزالية وعدم اختلاطه ومشاركته الأطفال اللعب على ارصفة الطرق وكان الصمت يخيم على سلوكياته ومع ذلك كان ذكيا لدرجة كبيرة حيث لم يبدأ دراسته عالمعتاد من الصف الأول الأبتدائي بل تم قبوله مباشرة في الصف الثاني الأبتدائي لتميزه عن الآخرين من أقرانه .اهتم بالطبيعة وأحب الحيوانات واعتنى بتربيتها منذ صغره واحتفظ بقسم منها في داره حتى امسى شخصية شعبية مشهورة واشتهر صيته بسبب ذلك . أحب الرسم وانجز عدد من اللوحات وعمره لا يتجاوز 7 سنوات .كان صديقا للبحار والمحيطات وهاويا للسفن والمراكب بارعا في صناعتها ربما بسبب السكن في غرفة تطل مباشرة على الجزيرة التي كان يسكنها. درس في اوسلو علوم الحيوان والجغرافية وعلم السلالات والأجناس مما سمح له بألطلاع على تاريخ الشعوب وأجناسها وآثارها ثم ارتحل عام 1936 الى جزيرة بولنيزيا وبسبب حبه للرحلات البحرية فقد زوجته التي كانت تعارض توجهاته واهتماماته بالأستكشافات البحرية وخاصة الرحلات الطويلة منها .وكثيرا ما كان يدعو الناس في امريكا الجنوبية لركوب البحار الى جزيرة بولونيزيا كما انه اولى اهتمامه ببناء القوارب والسفن من القصب والبردي ومن جذوع الأشجار دون ان يستخدم اي مادة اخرى سوى الحبال التي يستخدمها في الربط وعندما فكر في رحلته الأولى أنشأ طوافته من شجر البلسا وباسلوب بدائي قديم وأبحر فيها من بيرو الى جزيرة بولونيزيا في المحيط الهادي برحلة استمرت مئة ويوم واحد(101) عبر فيها 8000 كم فوق البحار .ورغم انه لا يجيد السباحة لكنه كان مؤمنا بقدراته ومتأكدا من نجاح مساعيه لأجتياز الصعوبات التي تواجهه مع طاقم سفينته التي كانت تمثل عالما صغيرا يتكون من ثمانية اشخاص فيهم الروسي والأمريكي والتشادي والمكسيكي والأيطالي والمصري والنرويجي تور هايردال الذي قال ( لقد عشت حياة ممتعة وأنا راضي بالأبحار نحو الموت ). كان مهتما بالحضارات القديمة وآثارها والروابط المشتركة والجامعة لسماتها فتولى بنفسه البحث والتقصي والدراسة وكان يوما بعد يوم يزداد قناعة بصحة افكاره حول التواصل المشترك بين الشعوب في عمقها التاريخي والجغرافي وافرد لحضارات وادي الرافدين ووادي النيل حيزا كبيرا من جهوده ودراساته واستكشافاته وجاءت النتائج لديه لتؤكد للعالم ان السومريون هم اول من ركب البحر للوصول الى العالم الآخروهم يحملون الفنون والآثار والديانات ثم انتقلت الحضارة السومرية الى مصر والهند عن طريق البحركما ان السومريون هم من اسس الأنظمة التجارية ومارسوا جميع انشطتها الأقتصادية وان مدينة أور كانت مركزا للعالم اجمع وهي التي اسهمت في بناء الملاحة البشرية . كان تور هايردال صلبا قوي الأرادة حكيما في خياراته محسنا في اختيار من يشاركه غاياته فقطع الآف الأميال البحرية من بيرو الى جزر بولونيزيا في المحيط الهادي على ظهر طوافة بسيطة مصنوعة من مواد بدائية تتلاقفه الأمواج من كل جانب وتحيطة اسماك القرش من كل أتجاه وقد تحقق هدف رحلته من اثبات اصل سكان الجزر المنعزلة في اقصى المحيط هو من امريكا الجنوبية . في عام 1958 ابحر تورهايردال الى جزر أيسترفي المحيط الهادي اكتسف خلالها ان الجزركانت مأهولة بالسكان قبل اكثر من الف عام . في عام 1969-1970 ابحر بمركب من القصب الأفريقي ليثبت تأثيرحضارة مصر القديمة على الحضارة المكسيكية وفي عام 1977 بدأ رحلته من جنوب العراق بقارب مصنوع من القصب والبردي العراقي سماه ( دجلة ) الى شبه القارة الهندية من خلال الخليج العربي ومن ثم الى مصر عن طريق البحر الأحمروقد وفرت الحكومة العراقية آنذاك كل الأمكانيات لنجاح رحلته وقدمت له كل التسهيلات اللازمة للمرور والأقامة والحركة وممارسة نشاطاته دون اي تدخّل وقد كان ضمن طاقمه هذا العراقي رشاد نزارسليم الذي كان محبا للفن والأطلاع ولديه الرغبة في المشاركة في الرحلات البحرية لزيادة المعرفة والخبرات لكن هذه الرحلة لم يكتب لها النجاح بسبب الحشود العسكرية والتواجد الأجنبي بسبب الصراعات الدولية القائمة آنذاك فقررهايردال حرق السفينة وارسال رسالة الى الأمين العام للأمم المتحدة جاء فيها ( لقد اثبتنا ان السكان القدماء لوادي الرافدين ومصركانوا قد بنوا حضاراتهم الممعنة في القدم بالأستفادة من الأتصالات المشتركة عن طريق المراكب والمفيد للأفكاروالبضائع. اليوم عزف مركبنا البهيج بشراعه المرفوعة رغم انه في أفضل هيئة وذلك احتجاجا على المظاهر اللأنسانية في العالم والتي واجهناها بعد عودتنا الى اليابسة من فضاء البحر في عام 1978 .وهذا موقف مشرف يزيد من رقي وحصافة هذا الرجل وحسن تصرفاته ومواقفه النبيلة التي لا يخشى فيها لومة لائم . وكان تورهايردال مساندا وداعما لأعمال الحفر والتنقيب عن الآثار في بيرو والتي كانت تجري في العام 1988.لقد كان لمشاهداته المتكرره للطبيعة وقربه منها ومعرفته لأسرارها رسّخت ايمانه بوجود آلهة تسيطر على حركات الطبيعة وتكويناتها .كان للأعمال الجليلة التي قدمها هذا الرجل للأنسانية جديرة بأن يحتفل العالم هذه الأيام وخاصة في النرويج بمناسبة الذكرى مئة لولادته وله معرضه الخاص ( كون تيكي وهو يحمل اسم سفينته التي ابحر فيها عام 1947 ) الواقع في وسط اوسلو زرته عدة مرات وشاهدت فيه عدد كبير من اللوحات الفنية التي تمثل رحلة هذا الرجل وجولاته الأستكشافية في بحار العالم وعندما انتجت النرويج فلم وثائقي عن حياة هذا الرجل فاز بجائزة الأوسكار الشهيرة وقد شاءت الصدف ان اشاهد هذا الفلم اكثر من مرة وفي كل مرة يزداد احترامي لهذا الرجل وقوة اصراره . اني اعتقد ان ليس للثقافة حدود وليس للعلوم توقف ولا للمعرفة حصاروليس للحياة الا التعاون والعمل الجاد للوصول الى الغايات التي تخدم البشرية جمعاء وتوفر للجميع وسائل العيش السعيد والمعرفة المشتركة وان من يسىعى ويجتهد ويخدم شعوب العالم أحق بنا ان نحتفي به دون ان نبحث في تفاصيل جنسيته وديانته ووطنه وعرقه فالمهم الغايات والنتائج .