سالت دموعي مدراراً وأنا أقرأ التقرير الخطر الذي كتبه المعماري العراقي والمتخصص في الحفاظ على التراث ومؤسس قسم التراث في أمانة بغداد إحسان فتحي عن الجريمة الوحشية التي يرتكبها وكلاء الاحتلال بذبح مدينة الكاظمية من الوريد إلى الوريد، بما سماه فتحي ( هدم ظالم لمحلة الانباريين في الكاظمية التقليدية والتاريخية وإزالتها بشكل كامل لصالح جهات ستستفيد بمبالغ خيالية ). والكاظمية مدينة تاريخ وعلم وفن وفكر أنجبت خيرة مؤرخي العراق وعلمائه وفنانيه ومفكريه ومثقفيه، فقدمت إلى العالم عبد المحسن الكاظمي وعلي الوردي وجواد علي ومحمد غني حكمت وحسين علي محفوظ وخليل الورد وأخاه هاشم الورد وعلي جليل الوردي ومحمد حسن آل ياسين وآخرين يستعصون على العد والحساب. وهي لم تبدأ يوم اختار أبو جعفر المنصور أرضها لتكون مقبرة قريش، وإنما كانت فيها حضارة ومدنية، منذ ما قبل التاريخ، وكان فيها أكبر مجمع كنسي، قبل الإسلام، فيما يعرف اليوم بمحلة البحية. يقول إحسان فتحي : ( مرة أخرى أود أن أعلمكم بأن أمانة العاصمة باشرت منذ فترة، بكل همة ونشاط، على غير عهدها المعتاد، بهدم ظالم لمحلـّة الانباريين في الكاظمية التقليدية والتاريخية وأزالتها بشكل كامل، وهذا الإجراء هو ضمن خطة لهدم جميع الكاظمية التراثية بحجة تطويرها نحو الافضل ). والمعماري المعروف فتحي وثّق جميع دور الكاظمية وأبنيتها في العام 1975 وعاش فيها أكثر من 3 أشهر ليجد فيها درر التراث المعماري في العراق، وعدّها أحد أجمل وأرقى نموذج للمدينة العربية الإسلامية، وتمنـّى وحاول مراراً أن يصدر قرار رسمي بالحفاظ عليها كلها كوحدة متكاملة، إلا أن الجشع والجهل بأهمية التراث للذاكرة الوطنية والجمعية حالا دون تحقيق ما تمنى وسعى لأجله. إنه يصف، اليوم، ما يجري من هدم لتلك الدرر المعمارية التراثية بأنه ( مذبحة مؤلمة في حق الكاظمية وبغداد والعراق والإنسانية، وهي خسارة مقصودة وكان من الممكن تلافيها ). ويؤكد ( إن وراء هذا الهدم الظالم جهات ستستفيد بمبالغ خيالية، وسوف تـُعدم الكاظمية كما نعرفها قريبا وتختفي عن الوجود، وأنا متأكد أيضا بأن هذه "الكاظمية الجديدة" سيكون حالها حال "بغداد الجديدة" فهي نموذج مسخ، خلاسي التكوين، غريب عن البيئة، وبلا طعم ورائحة ). زرت المملكة المغربية في العام 1990 ورأيت مدنها وبحثت عن السحر الذي تتميز به وتجتذب نحوها السائحين من أنحاء العالم، وما علة هذا السحر والانجذاب، فبغداد فيها مناطق قديمة أيضاً، فلماذا لا تمتلك سحر المدن المغربية وجاذبيتها، ووجدت أنهم حافظوا على المدن ولم يسمحوا للمدن والبنايات الجديدة أن تتطفل على جسد القديم، وإنما تتمدد ما شاءت خارج هذا الجسد، وإذا سقطت من القديم طابوقة يعيدونها باعتناء إلى مكانها، وعندما رويت ذلك للعلامة الدكتور حسين علي محفوظ قال لي قولة لاتزال ترن في أذني .. قال : ( نحن أشد على تراثنا من أعدائنا )، فماذا لو يستيقظ الآن وينظر إلى مذبحة المحلة التي ولد فيها وإزالتها عن بكرة أبيها؟ إن جرائم الذبح والاجتثاث والتدمير والتخريب التي اقترفها وكلاء الاحتلال، منذ رأى العراق وجوههم الكالحة محتمين بالأجنبي المحتل، لم تطل الإنسان العراقي فقط، وإنما طالت تراثه وقيمه المجتمعية ومدنه ومقدساته وثوابته الوطنية في مجزرة لم يشهدها تاريخ العراق لا في أيام الطواعين ولا في غزو المغول ولا في أي مرحلة صعبه من مراحل حياته. سيبكي الكاظميون ومعهم العراقيون جميعاً مدينة كانت درة مدنهم بما تختزنه من جواهر تراثية .. وسيبكون ذكرياتهم في هذه المدينة التي مازالت أبنية بيوتها ودرابينها وأزقتها عثمانية وأقدم من ذلك .. ولكن ماذا سيجدي البكاء؟ ومن سيرثي الكاظمية التي ضيعها وكلاء الاحتلال والقيمين على تنفيذ أجندته في طمس تاريخ العراق ومحو الذاكرة العراقية؟