تسائلنا في المقال السابق، ما إذا كانت سياسة ( لا غالب ولا مغلوب ) قد نجحت في سوريا، فهل تنجح في العراق؟ وما هي المشتركات والمفترقات الكائنة بين الساحتين؟ وهل ينجح العملاء الطائفيون والذين معهم في تمرير اجندة من اجل تحقيق خيارين تحددهما أمريكا وإيران معاً : إما فرض سياسة لا غالب ولا مغلوب والإستمرار في تدمير العراق وانهاك شعبه وشرذمته وتهجيره أو وضعه على طريق التقسيم وفرض سياسة الأمر الواقع الذي تفرزها الصراعات المسلحة، كما يروج الاعلام الأمريكي هذا السيناريو في الوقت الراهن وكأنه حقيقة واقعة لا مفر منها؟! 1- الصراع بدأ يأخذ طابعاً اقليمياً حاداً باعتبار ان التمدد الجيو- سياسي الإيراني يواجه رفضاً اقليمياً .. وتلك مسألة طبيعية طالما بات المشهد هو صراع وجود وليس صراع حدود ، ولا مجال لأنصاف الحلول حيال النفوذ الإيراني المستشري ، ليس على حساب الأرض والمياه والثروات العربية فحسب، إنما بات الأمر يمس المكون العربي كوجود وهوية ومستقبل . 2- المفترقات الكائنة بين الساحتين السورية والعراقية هي أن سوريا ليست محتلة من دولة أخرى ، وان الصراع فيها هو صراع بين شعب عربي مضطهد منذ عقود يجابه زمرة طائفية قمعية تحكم الشعب السوري بأبشع سلطات البطش والتنكيل الأمنية والإستخبارية، فهي دولة مخابرات خالصة لا يستقيم وضعها كلياً مع دعوات الإصلاح والتغيير والانفتاح وخلق اجواء ومنافذ للديمقراطية تمهد لحياة ينسجم فيها الشعب مع نظامه الحاكم .. الأمر الذي جعل الهوة بين الشعب والنظام تأخذ طريقها للإتساع بسبب من السلوك القمعي والإقصائي الذي يمارسه النظام منذ عقود .. ومن حق الشعب العربي السوري، الذي تحرك سلمياً وواجه بطشاً دموياً الدفاع عن نفسه وكيانه من مجازر النظام وسطوته الطائفية المقيتة . 3- اوراق الخارج كانت قد لعبت بمقدرات الصراع وصيرته وكأن حسميته متوقفة على الدعم الخارجي وخاصة الأمريكي ، فيما كان الدعم الإيراني يأخذ شكل مستشارين عسكريين، وحرس ثوري، ومليشيات عراقية بأوامر إيرانية، ومليشيات حزب الله في الجنوب اللبناني بأوامر طهران، فضلاً عن تسليح إيراني مستمر عبر العراق، وتمويل بالأموال والنفط العراقي ومشتقاته بأوامر من إيران أيضاً من اجل استمرار زخم النظام في طريق ارتكاب المجازر الدموية ومنذ ثلاث سنوات .. والهدف الإستراتيجي الإيراني هو أن يستمر النفوذ الإيراني سياسياً وعسكرياً وآيديولوجياً يلامس خط النفوذ الإيراني في الجنوب اللبناني. 4- لا توجد حسمية للصراع على هذه الساحة .. والإستنزاف الإيراني يأخذ مجراه والتآكل يبدو واضحاً على هياكل النظام العسكرية والإقتصادية والإجتماعية .. الأمر الذي يدعو إلى التساؤل هل بمقدور إيران تحمل الإستنزاف على الساحة السورية، طالما بات الأمر قائم على سياسة ( لا غالب ولا مغلوب ) الأمريكية ؟ 5- امريكا كفت عن اهتمامها بالشأن السوري وتركت الأمور لتتآكل مع الزمن الذي يمضي كالسيف يفاقم الأحداث ويقوم بتوسيعها .. ولم تكترث بـ ( داعش ) على الأراضي السورية ، ولكن امريكا قد زجت بثقلها في العراق ( تسليح ومستشارين عسكريين وجنود مارينز تحت صفة مدربين وأخرين لحماية السفارة الامريكية في بغداد ) .. فيما تسكت أمريكا على تدخل قوات الحرس الإيراني بشكل سافر فضلاً عن التسليح الإيراني واسع النطاق ) . 6- إذن .. نحن أمام وضعين مختلفين استراتيجياً .. الأول ترخي فيه أمريكا تماماً قبضتها على نظام الأسد الموالي لإيران وتمتنع عن التدخل، والثاني تشدد قبضتها على العراق حماية لنظام المالكي الموالي لإيران وتتدخل عسكرياً تحت غطاء محاربة ( داعش ) .. والغاية هنا هي تمكين النفوذ إلايراني من التوغل اكثر في العراق والتوسع على حساب المنطقة .. ويأتي ذلك بعد أن تم نزع السلاح الكيميائي من النظام السوري نهائياً . 7- النظام السوري بات يعمل على توسيع نطاق الحرب باتجاه يخدم ايران في العراق ويحاول إعادة ربط الحلقة الطائفية التي حطمتها الثورة الشعبية في العراق .. فبدلاً من أن يحصر النظام السوري اهتماماته في الداخل السوري، بات يتفذ أوامر طهران في ضرب قرى ومواقع داخل الأراضي العراقية، الأمر الذي يفسر على أن نظام دمشق اخذ يوسع دائرة صراعه ليخفف عن الضغط الهائل الذي يتعرض له النظام الطائفي في بغداد بأوامر صادرة من طهران ايضاً .. اعتقاداً من العاصمتين الطائفيتين بأن سلوكهما التسلطي سينقذ مستقبلهما من الإنهيار. 8- الثورة المندلعة في سورياً تفتقر إلى قيادة سياسية موحدة وفاعلة، وجيش يتمسك بأهداف واضحة وشاملة ويقاتل في ضوء برنامج سياسي- استراتيجي لما بعد اسقاط النظام الطائفي الدموي في دمشق. 9- أما في العراق فهو بلد محتل من قبل قوة اجنبية غازية ما تزال رغم اعلانها الإنسحاب تمتلك قواعد عسكرية ضخمة وسفارة مكتظة بالعسكريين والمستشارين، ومرتبطة باتفاقية أمنية اسمها الإطار الإستراتيجي.. كما أن العراق محتل ايضاً من إيران الوكيل الأمريكي على العراق، وإن عودة وحدات المارينز مرة ثانية إلى العراق يؤشر استنساخاً للحالة ولكن بطريقة أخرى أكثر دموية . 10- والثورة في العراق صراعها إذن مركب ضد الاحتلال الامريكي والايراني واحزاب السلطة الطائفية في بغداد .. ولما كان الصراع مركباً من هذا النوع فهو ليس سهلاً ولا يقاس بأوضاع الثورة في سوريا .. ولكن الثورة في العراق تمتلك، خلاف ما هو لدى الثورة السورية الآتي : أولاً- تمتلك الثورة في العراق جيش العراق الوطني الذي حله "بريمر"، وهو جيش متمرس له تجاربه في حروب انتصر فيها في ضوء عقيدته القتالية الوطنية، وتعداد هذا الجيش هائل بكل صنوفه، وله القادرة على خوض معارك نظامية ومعارك حرب العصابات وحرب الإستنزاف طويلة الأمد، كما لديه قدرة تخطيطية كبيرة وواسعة في ضوء واقع تعامله مع التهديات الأقليمية الوشيكة والمحتملة .. كما انه مطلع على الواقع الجيوبوليتيكي والإستراتيجي للعراق ومحيطه . ثانياً- تمتلك الثورة في العراق مجالس عسكرية يقودها قادة عسكريون محترفون مهنيون وطنيون، وفي مقدمتهم فصائل المقاومة الوطنية العراقية، لديهم ليست خبرة عسكرية تراكمية فحسب، بل تجربة قتالية ميدانية اقليمية قادرة على تغيير معادلات القوة لصالح الثورة في ضوء حسابات قائمة على الواقع الميداني وليست حسابات تخمينية .. هذه المجالس موزعة على جغرافية العراق كلها، تقوم بمهامها وحسب طبيعة واقع الصراع ومقتضياته الميدانية . ثالثاً- هذه المجالس ترتبط بمجلس عسكري أعلى مسؤول عن واقع الصراع الميداني بكل أوجههة القتالية والتسليحية واللوجستية وادارته لطابع العمليات والطوارئ . رابعاً- ويرتبط المجلس العسكري الأعلى بالمجلس السياسي العام الذي يضم بين ظهرانيه ممثلون سياسيون من كل الأحزاب والمنظمات والشخصيات الوطنية والقومية والإسلامية الوطنية ، يتولى رسم السياسة العامة في ضوء إستراتيجية التحرير المعروفة والمعلنة منذ علم 2003 .. هذه التشكيلات العسكرية والسياسية للثورة في العراق .. ليس هنالك ما يمائلها على الساحة السورية ، ومع ذلك فأن نظام دمشق بات مستنزفاً وليس له مستقبل. 11- إذن الثورة في العراق لم تأت من فراغ، انما انبثقت من رحم الشعب الذي يرفض الاحتلال الامريكي والايراني والطغمة الطائفية الحاكمة في بغداد .. وإن اساس قوة الثورة وديمومتها ورؤيتها تكمن في سياستها الإستراتيجية ومؤسساتها السياسية والعسكرية وتجربتها الرائدة واتساع قاعدتها الشعبية وعمقها العربي السوقي . 12- المقاومة الوطنية العراقية هزمت امريكا في العراق وارغمتها على الهروب .. ابتدعت امريكا بالتوافق السياسي مع إيران ما يسمى "داعش" لمحاربة الثورة في العراق لغرض اجهاضها أو جرها إلى معارك جانبية اعتقاداً من امريكا بأن اسلوب الإستنساج ينجح مرة ثانية على غرار الصحوات .. الأمر الذي جعل امريكا ترى انها امام حالة ليست سهلة وليست مكررة .. فكشفت عن ذعرها بالأصطفاف مع نظام بغداد الفاسد والفاشل والمرتهن لنظام طهران الصفوي .. حيث هرعت واشنطن تعلن تسليح هذا النظام ودعمه في اطار اجندتها الخاصة بمحاربة الإرهاب .. فيما تثبت الحقائق أن "داعش" هي خريجة سجن ( بوكا ) ومعسكرات القاعدة في طهران، التي دفع بها للعمل على الأراضي السورية ضد الثورة هناك ، ودفع بها للعمل على الأراضي العراقية، تحت ذريعة محاربة الإرهاب .!! والآن .. تصطف كل من واشنطن وطهران وبغداد على سبيل المثال على خط محاربة الثورة الشعبية في العراق التي تم اختزالها في " داعش " .!! 12- تريد امريكا أن تجعل من إيران شرطياً ليس على الخليج العربي فحسب، بل شرطياً طائفياً قذراً على المنطقة برمتها .. حيث الساحة الواسعة الشاسعة التي يتسم فيها الصراع بأنه مركب، كما أسلفنا، فهو صراع قائم بين الشعب العراقي بكل طوائفه ومذاهبه وقومياته وشرائحه الاجتماعية وبين المحتل الأمريكي الغازي وبين نظام الحكم، الذي فرضه على الشعب العراقي، والذي يسمى العملية السياسية القائمة على المحاصصة الطائفية في ظل دستور ملغوم لا يؤسس أمناً اجتماعياً ولا استقراراً لبناء الدولة والمجتمع إنما يرمي إلى تقسيم الشعب والوطن الواحد.. فيما يرفض الشعب التقسيم جملة وتفصيلاً وبأي شكل أو صيغة، سواء كانت فيدرالية أو أقاليم أو كونفيدرالية قد يلوح بها الواقع الإقليمي في ضوء سياسات خبيثة مرفوضة قطعاً. التاريخ قد يعيد نفسه .. والسياسات قد تتكرر وتستنسخ في واقعين أو أكثر .. وقد تكون هنالك مشتركات وقد تكون هنالك مفترقات .. ولكن ليس هناك تشابهاً أو تطابقاً كاملاً تبني عليها السياسة .. لأن الواقع المتحرك في كل ساحة يختلف والمعطيات تختلف كما النتائج .. والثورة في العراق اخذ مسارها يتسع ونتائجها تتعمق فهي في نهاية المطاف ثورة منتصرة.. لأنها ثورة الشعب، كل الشعب .. أنها إرادة لا تعلو عليها إرادة إلا إرادة العلي القدير سبحانه .!!