في عصر البطولات لا مكان لحلم مستحيل، ولا مكان لمقالات إنشائية، بل الكلام كل الكلام للنتائج المحسوسة التي تلامس العقل والواقع. وهذا عصر البطولات التي تسطرها ثورة العراق الشعبية الآن في مواجهة الاحتلال الإيراني الوكيل، امتداد لعصر بطولات المقاومة العراقية في مواجهة الاحتلال الأميركي الأصيل. وكما ألحقت بالأصيل شر هزيمة، فهي تستأنف حركتها لإلحاق هزيمة أشد وأدهى بالوكيل، وبفلول الاحتلال من الخونة. لقد توهَّم أجراء الاحتلال أنهم رجال سيخضعون العراق بقوة ميليشياتهم وإرهابها، وفيالق غدرهم، باستخدام كل أنواع الشدة والبطش، هؤلاء هم يتقوقعون كل يوم أكثر من اليوم الذي سبقه في جحورهم ( الخضراء ). ابتدأ العد العكسي لعصر عملاء الاحتلال منذ اليوم الذي استأسد فيه المالكي وعقد العزم على تركيع أبطال الرمادي، ومن بعدها أبطال الفلوجة، فإذا به اليوم يتراجع من موقع الهجوم الكاسح إلى موقع الدفاع التراجعي، وهو الآن يدافع عن نفسه في مواجهة اقتحام ثوار العراق لثكناته وتحصيناته وتفكيك أنظومة ميليشياته. منذ أقل من ثلاثة أشهر مضت، كانت موازين القوى راجحة لكفة المالكي، وبعد بدء المنازلة العسكرية التي أعلنها الثوار، أخذت تتناقص ضد مصلحته وتتزايد لمصلحة الثورة. وبعد خطة الهجوم التي أعدَّ المالكي عوامل نجاحها، تراجعت إلى خطة للدفاع عن هياكل مؤسساته الميليشياوية. وبالعكس، بعد أن كانت خطة الثوار تسلك وسيلة الدفاع عن الثورة، تحولت إلى خطة للهجوم فحققت نجاحات باهرة، وأحرزت مكتسبات في اتجاهات عديدة، سياسية وشعبية وعسكرية. تلك المكتسبات وضعتها في الموقع الذي بدأت فيه تنفيذ المراحل الأخيرة من هدف التحرير الشامل والكامل. فلا تراجع الآن عن القرار إلا باستكمال تنفيذه. ليس ما يدفعنا إلى استنتاج ما قمنا باستنتاجه من فراغ، بل إن الكثير من الوقائع أصبحت من العوامل التي تضع القرار في دوائر التحقق والإنجاز. ولعلَّ من أهم تلك الوقائع، ترسيخ الوعي في تكامل عوامل الثورة الناجحة، وهي ثلاثية وحدة المنهج السياسي والقيادة والشعب. - وحدة المنهج السياسي : لم ينزل المنهج السياسي للثورة دون سقف هدف تحرير العراق بالكامل، بل ظل ثابتاً ومواكباً له، وعاملاً من أجل إنجازه منذ الاحتلال حتى اليوم. وهذا ما كان واضحاً في وثيقة ( المنهج السياسي الاستراتيجي ) للعام 2003. وفي (وثيقة التحرير والاستقلال) للعام 2006. وفي وثيقة ( الإعلان عن المجلس السياسي العام لثوار العراق ). - وحدة القيادة على أسس جبهوية ثابتة : إن وحدة القيادة، ومنذ أول انطلاقة للمقاومة، تشهد الآن تقدماً ملموساً في استقطاب المزيد من الفصائل والقوى التي انضوت تحت خيمة ( المجلس السياسي العام لثوار العراق )، وهي تنتظر انضمام المزيد من الفصائل والقوى التي ترفع شعار ( التحرير والاستقلال )، فالمقاعد الشاغرة فيه، تثبت أنه ما يزال يفتح ذراعيه لكل من يريد الالتحاق به، على قاعدة أن من لم ينضح دماً وعرقاً في معركة إنجاز الهدف المركزي قبل التحرير، فهو غير جدير بالمشاركة في حكم العراق المحرر المستقل. - وحدة الشعب والثورة : وأما على صعيد وحدة الشعب، فهي عملية تتصاعد كل يوم أكثر من اليوم الذي سبقه، وهي تستند إلى قاعدتين اثنتين: - الأولى : لما كان من أهم وسائل المقاومة استخدام السلاح ضد الاحتلال الأميركي، أي أنها كانت واجباً على كل قادر على حمله واستخدامه، فكان (فرض كفاية)، ينوب فيه عن مجموع العراقيين كل من يُتقن استخدام السلاح لمواجهة أرتال الاحتلال العسكرية وجحافله. - الثانية : في المرحلة الراهنة أصبحت المشاركة في تهديم خيمة ( عملية الاحتلال السياسية ) ( فرض عين ) على كل عراقي، أي أن أي حركة اعتراض ورفض لتلك العملية، هي وسيلة ميسورة لكل العراقيين، وبذلك كانت حركة الاحتجاج الجماهيرية طوال عام كامل عاملاً مقلقاً ومخيفاً لخدامها. وعلى هذه القاعدة، تتوسع الآن رقعة الثورة الشعبية لتشمل كل شرائح المجتمع حيثما اندلعت، وستضم إليها إمكانيات شعبية أخرى كلما أنجزت الثورة القائمة الآن المزيد من الانتصارات في مواجهة وسائل قمع المؤسسات الأمنية والعسكرية والميليشياوية للعملية السياسية. والثورة الشعبية الآن تحرز التقدم بعملية تصاعدية على أكثر من مجال وصعيد، ولعلَّ من أهمها : أ-في كل دسكرة دخلت الثورة إليها، تتشابك أيادي الشعب مع أيادي ( ثوار المجالس العسكرية للعشائر )، بحيث أصبح لكل فرد من أفراد الشعب دور في إنجاح الثورة، ومن أهمها احتضان الثوار في الدساكر التي لم يتم تطهيرها تماماً من أفراد الميليشيات الحكومية، وهذا التطور أصبح ظاهرة بارزة لتسهيل حركة الثوار في عمليات الكر والفر. بـ-في القرى والأحياء التي تم تطهيرها بشكل جزئي أو بشكل كامل، تتكامل إمكانيات الثوار مع الإمكانيات الشعبية على كل الصعد الأمنية والعسكرية والخدماتية، بحيث أصبحت اللجان الشعبية تحمي ظهور الثوار أمنياً وعسكرياً وخدمياً، فتوفر الاطمئنان للشعب والخدمات لهم. جـ-وإن كانت ظاهرة إعلان التوبة من قبل بعض ميليشيات الصحوات، وعلى من غُرِّر بهم من أفراد الشرطة و(الجيش الحكومي)، كسباً إيجابياً، فإن ظاهرة من يهربون من دعوة المالكي للتجنيد بوسائل الترغيب والترهيب، تحييد سلبي، يحول دون سد النقص في ملاكات القوى التي تقاتل لمصلحته. وهذه الظاهرة أو تلك، تتوسع وتنتشر كلما اشتدت حدة المعارك العسكرية بين الثوار وقوى السلطة العسكرية. د-وإن كان هذا الجانب يصب في دائرة ( السلبي المفيد )، فإن الخسائر في الأرواح بين الجنود، أو الميليشيات المغرَّربهم، أو أولئك الذين يصرون على التصدي للثورة، تنعكس استياءً شعبياً على عوائلهم. وهذا ما ظهر واضحاً في بعض نداءات العوائل التي تمنع أبناءها من التطوع، بحيث أخذت تتصاعد في أوساط تلك العوائل. هـ-أخذت انتصارات الثورة، صمودها في مناطق وتقدمها في مناطق أخرى، تعيد الأمل لنفوس القانطين واليائسين، فتجلَّت يقظتهم في أكثر من مكان، وحتى في الأماكن التي كان يحسب المراقبون أنها عصية على الاختراق. وما اعتراض بعض الجماهير لمواكب المالكي، وبعض من يرتبط بعلاقة ما بـ ( العملية السياسية )، إلاَّ مظهر من مظاهر الصحوة الشعبية، التي ستكبر ككرة الثلج كلما أحرزت الثورة نجاحاً في مكان ما في العراق. الكفاح الشعبي المسلح هو أداة النصر الرئيسية : من أهم ميزات الثورة الشعبية في العراق هو أن ذراعها المسلحة تستند إلى خبرات ضباط ومراتب وجنود الجيش الوطني، وهؤلاء ممن أقسموا يمين الولاء للوطن قبل أي شيء آخر. وهؤلاء هم الذين يخططون وينفذون الخطط العسكرية. هؤلاء جميعهم ممن اكتسبوا خبرات عشرات السنين، وكان من أهمها خبرة ( الحرب الشعبية الطويلة الأمد ) ضد قوات الاحتلال الأميركي، التي ألحقوا بها الهزيمة الكبرى، وهم الآن يستخدمون خبرتهم في مواجهة مع من هو أقل خبرة وتدريباً وتسليحاً. ولو اتخذنا مقياساً مقارنة خبرة وتسليح الجيش الأميركي من جانب ومستوى ميليشيات ( العملية السياسية ) وخبرتها من جانب آخر، سنصل إلى نتيجة أن من ألحق الهزيمة بذاك لن يكون عاجزاً عن إلحاق الهزيمة بهذا. وعن ذلك، نتساءل: كيف يبدو الوضع الآن بعد مرور أقل من ثلاثة أشهر على انطلاقة الثورة المسلحة؟ المشهد العسكري في هذه اللحظة : يخشى البعض ممن يضع يده على قلبه خوفاً من صعوبات شديدة قد تعترض الثورة وتحول دون نجاحها، ويشيرون إلى أن أميركا وإيران ستضعان ثقلهما السياسي والإعلامي والعسكري لقمعها، ولكن ما يمكننا أن نقول، إن ما وظفاه من قوة بشرية وتسليحية وعددية كان أكثر بكثير مما يمكن أن يوفراه الآن من دعم، هذا إذا حذفنا منها إسناد أكثر من ثلاثين دولة شاركت في حماية قوات الاحتلال، ناهيك عن دعم الكثير من الأنظمة الرسمية العربية، وعلى الرغم من كل ذلك فقد أحرزت المقاومة نصراً لم تستطع كل التقديرات المحايدة أو المأجورة أن تتناساه. وفي المقابل، كانت المقاومة تقاتل وحيدة معتمدة على إمكانيات أبطالها في المال والسلاح، هذا إذا تناسينا أنها لم تحصل على دعم مهما محدوداً من أية جهة أو أي مصدر، حتى أنها كانت مجرَّدة من أي دعم لقطاعات شعبية عراقية لسبب أو لآخر، هذا إذا لم تُستخدم تلك القطاعات ضد انتشار المقاومة. وعلى الرغم من كل ذلك، فقد أنجزت المقاومة ( اليتيمة ) نصراً في مواجهة احتلال وجد له أكثر من أب وأم وأخ وشقيق. ولهذا وإذا كان الإعلام المضاد السائد حينذاك، يصرح بأن الأميركيين قد دخلوا العراق لا لكي يخرجوا منه، فقد خرجوا صاغرين أمام إصرار مقاومة ( يتيمة ) وإرادتها. وإذا كانت النتائج قد صبَّت لمصلحة المقاومة في ذلك الظرف القاتم، فإنها ستنجز في هذه المرحلة هدف التحرير بشكل أسرع في هذا الظرف بالذات. وهناك الكثير من الوقائع التي تؤكد ذلك، ولعلَّ من أهمها: 1- على الصعيد الشعبي العراقي والعربي والدولي : - ازدياد أعداد من يناصرون الثورة شعبياً وعسكرياً على مستوى العراق في الداخل، وتكاد نسبة المؤيدين بشكل مباشر للثورة تزداد تحت أكثر من ذريعة لعلَّ أبرزها يتكوَّن الآن تحت شكل مظاهرات الاحتجاج ضد زيارات المالكي إلى بعض المدن، ومنها مدينة البصرة. وفي المقابل تقليص أعداد المحسوبين على ( العملية السياسية ) عسكرياً وسياسياً وشعبياً. -تصاعد التوتر بين حكومة المالكي من جانب وبعض الأنظمة الرسمية من جانب آخر. وفي المقابل ازدياد من هم على استعداد لمساندة الثورة من أنظمة رسمية وخاصة إمارات ودول الخليج العربي ممن كانوا من المحسوبين من أصدقاء الاحتلال الأميركي. - لم يعد هناك إسناد دولي ملحوظ للعملية السياسية، بل تزداد تقارير المنظمات الدولية التي تدين جرائم حكومة المالكي، وخاصة ليس هناك دولة مستعدة للدفاع عن الإمساك الأميركي بالعراق، وكذلك بالنسبة لاستمرار الدور الإيراني. وفي المقابل، فإن الثورة العراقية مؤهلة لأن تستقطب التأييد العربي والدولي كلما ارتفعت نسب اقترابها من الانتصار. وهذا ما نحسب أن ( المجلس السياسي العام لثوار العراق ) قد بدأ ينشط في هذا الاتجاه. 2- على الصعيد العسكري للثورة : - لقد ارتفع عدد المجالس العسكرية وقد أعلن أخيراً عن تأسيس ( المجلس العسكري لمدينة بغداد ). - ارتفعت أعداد القتلى والجرحى في صفوف الميليشيات فأصبحت بالآلاف حسب ما تعلنه بعض القوى المشاركة في العملية السياسية، وتفصيلاً أكثر فإن إخفاء الجثث برميها في الأنهر من جانب، ومن جانب آخر السماح بنقل جثة واحدة فقط إلى المدينة الواحدة يومياً منعاً لتصاعد النقمة الشعبية من قبل أهالي القتلى. هذا ناهيك عن أعداد الهاربين من الخدمة، وكذلك أعداد الخائفين من التطوع في أي جهاز عسكري. وكذلك تكاثر حالات التمرد على الأوامر والهرب إلى مناطقهم، أو التعرض لعمليات إعدامهم بحجة عدم تنفيذ الأوامر العسكرية، أو تسليم أنفسهم للثوار، أو انضمامهم لصفوف الثورة. وهذا وإن لم يشهد انقساماً عامودياً مؤثراً حتى الآن، إلاَّ استمرار المعارك واتساع مساحة الثورة سيكون كفيلاً بإحداث مثل هذا الانقسام. - ارتفاع في عدد الآليات المعطوبة، وكذلك الخسائر الكبيرة في الأسلحة والذخائر. وفي المقابل إعلان الفصائل المقاتلة أكثر من مرة أنها غنمت كماً كبيراً من الأسلحة المتطورة، ومن الآليات ووسائل النقل. - وعلى صعيد المعارك فإنها لم تهدأ يوماً واحداً، ولم تتجمد عند حدود، بل هي تتصاعد عدداً ونوعاً. فبمراجعة اليوميات العسكرية يصبح من السهولة بمكان الاستنتاج أن الثورة تتصاعد باستمرار، وتقوى شكيمتها، وتضعف شكيمة ميليشيات ( العملية السياسية ). وهذا الضعف يؤدي بدوره إلى ارتفاع المنسوب المعنوي والنفسي للثوار. - أصبحت المنطقة الخضراء تحت مرمى نيران الثوار بما غنموه من أسلحة نوعية وبذلك تتحول إلى مصيدة ثمينة وقاتلة. كما أصبح المطار تحت مرمى تلك النيران الأمر الذي يعني إقفال بوابات الهروب أمام كل من يريد الهرب من كبار المجرمين والخونة. - أكدت كل التقارير العسكرية أن الثورة، باقترابها من حدود مدينة بغداد الإدارية والأمنية والعسكرية، تدفع حكومة المالكي إلى مزيد من التقوقع والانهيار النفسي. وتؤكد الأخبار أن تلك الحكومة تستقدم قوات عسكرية إلى العاصمة من أجل الدفاع عنها. وهي بذلك إنما تقع في أفخاخ تكثيف وجودها البشري وهذا يعني بمفاهيم مصطلح حرب التحرير الشعبية أنها تقلل من القوة النارية للثورة لأنها ستحصد بكمية قليلة من الذخائر الكثير من الأرواح والآليات. واستناداً لكل ذلك، تُعتبر بغداد، الهدف القادم للتحرير. وبتحريرها تقطع الثورة شوطاً أساسياً، يبقى ما عداها تفصيلات، لأن جناحا العراق سيلتقيان في العاصمة من أجل الإطباق على ما يراهن النظام الإيراني عليه للبقاء في العراق. فهل بعد كل ذلك يمكننا القول: إن سحاب بغداد يوشك أن يُمطر نصراً؟