من أهم الدوافع التي حدت بنا لمعالجة هذا الموضوع هي تلك المظاهر التي تنتشر في معظم أقطار الوطن العربي، خاصة حيثما ينشط الحراك الشعبي، إذ يرتفع الخطاب الطائفي الديني محركاً ومحرضاً أوسع الجماهير الشعبية سطحية الثقافة. وهذا ما يبدو للمراقب والمتابع كأن الصراع تحول إلى تصفية حسابات بين الطوائف الدينية، بحيث حلَّ اهتمام تلك الجماهير بما يسمونه ( الدفاع عن الدين أو الطائفة الدينية ) محل الاهتمام بالوطن وقضايا الجماهير متناسين الأهداف الأكثر إلحاحاً كمثل تحرير الأرض من الاحتلال الأجنبي، أو إسقاط الأنظمة الرسمية لتأسيس أنظمة أكثر عدالة بين المواطنين. من أحد أهم تلك المظاهر هي المشكلة الطائفية التي تحيط بالوضع العراقي الراهن، بحيث تكاد تتحول الصراعات الدينية الطائفية إلى غاية بحد ذاتها. والأخطر منها أن تنجر بعض الأوساط المثقفة للانخراط في أتون تلك الصراعات مستندة إلى ردود فعل أكثر منها إلى مواقف مبرَّرَة، لترتكب بردود أفعالها أخطاء مماثلة تصب في مصلحة القوى المعادية التي قامت بتأسيس (نظام الطائفية السياسية ) في العراق. وهنا نتوجه بمقالنا إلى بعض المثقفين والكُتَّاب الذين اختاروا طريق التحرير وأعلنوا خياراتهم في إعادة بناء دولة مدنية في العراق، أولئك الذين أعلنوا من جهة أخرى مخاوفهم على حقوق الطائفة التي ينتمون إليها. لم تقف مخاوف هؤلاء عند هذا الحد، بل تعدَّتها لتصل إلى حدود اتهام تلك الطوائف بالتواطؤ مع احتلال العراق، واليأس من مشاركتهم في معركة التحرير والاستقلال تحت ذريعة أن تلك الطوائف قد غرقت في معركة ما يسمونه (الدفاع عن المذهب) على حساب انتمائهم الوطني والقومي. ولكي نكون واضحين في هذا الأمر، لم يكن أمامنا من سبيل إلاَّ تسمية هذه المشكلة باسمها على الرغم من قناعتنا أن الامتناع عن التسميات بشكل مباشر قد تعزِّز أواصر العلاقات الوطنية بين شتى مسميات الأطياف العراقية من كل الطوائف. ولأنه لا بُدَّ من تشخيص حالة المريض من دون خوف من تسمية مرضه بشكل صريح، لم نجد وسيلة للتعبير عن ذلك إلاَّ بتسمية القضايا بأسمائها الحقيقية، ولأن دورنا أن نعالج هذا المرض فلن نتحمل وزراً لأن هدفنا هو الإصلاح المبدأي وليس المساهمة في زيادة الاحتقان الطائفي. ومن أجل ذلك كله كانت مقدمتنا مدخلاً لإلقاء الضوء على ما يجري في العراق من تفتيت طائفي منذ بداية الاحتلال الأميركي الأصيل انتهاء بالاحتلال الإيراني الوكيل. بداية نقول للخائفين من غياب دور للشيعة عن مهمة التحرير: لا تخافوا أبداً مما ترونه من ضعف هذا الدور، في هذه المرحلة، لأن المبادئ والقيم العليا، كثوابت مبدئية، ستكون لها الغلبة على الظاهرة الطائفية السياسية كمتغير طارئ مفروض في ظروف زمانية ومكانية محددة، وعابرة. وأما دليلنا التي تثبت مصداقية رؤيتنا، فيستند إلى أنه لو كانت العصبية الطائفية الدينية هي المقياس الثابت في تحديد خيارات المجتمعات، لعمَّت الحروب الطائفية كل الدول المتعددة الطوائف من أقصى العالم إلى أقصاه، ولِما كتب للدول الدينية أن تنقرض أو أن تتهاوى تباعاً عبر التاريخ في الغرب والشرق. ففي تاريخ الدول الدينية في الغرب المسيحي، وتاريخ الدول الدينية في الشرق الإسلامي أكثر الدروس عبرة وبرهاناً. وخاصة أن في انهيار دولة (محاكم التفتيش) في أوروبا درساً بليغاً بحيث تمَّ إسقاطها لصالح الدولة المدنية، هذا مع العلم أن حرية الاعتقاد الديني ظلَّت مستمرة في الغرب المسيحي وكل طائفة من الطوائف تمارس طقوسها الخاصة في العبادة من دون لوم لأي منها أو تقريع. وكذلك ينطبق الأمر على ما حصل بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، كنظام حكم سياسي باسم الإسلام. بعد سقوطها، تأسس في كل جزء من تقسيماتها القومية، أو في كل كيان سياسي انفصل عنها، أنظمة مدنية تحكم بتشريعات جديدة تستجيب لمصالح كل المواطنين. وإنه على الرغم من الانتقادات الكثيرة التي يمكن توجيهها للدول القطرية في الوطن العربي، التي رُسمت حدودها بناء لاتفاقية سايكس - بيكو، فنسجَّل لها أنها ساوت في الحقوق والواجبات بين كل الموطنين، وإذا حصلت ثغرات في مبدأي العدالة والمساواة بينهم، فإنما كانت أسبابها تعود للتقسيم الطبقي الاجتماعي، ولا علاقة لها بالتصنيف الديني أو المذهبي، فغالباً ما كانت الطبقات الميسورة من كل الطوائف تبني تحالفات لاستغلال جهد الطبقات الفقيرة من كل الطوائف أيضاً. لقد سادت هذه المعادلة في شتى أقطار الوطن العربي باستثناءات طفيفة، وضمنت الدولة حرية الحق بممارسة العبادة للجميع، وكانت تلك الحقوق مضمونة ومحمية من قبل السلطات الحاكمة. إن الجامع المشترك بين التجربتين الشرقية والغربية، هو إحداث تشريعات عامة قائمة على مبدأي العدالة والمساواة بين الموطنين، من دون المساس بالخيارت الدينية الروحية، ولذلك لم تتأثر المعتقدات الدينية والسياسية لكل المواطنين، إذ ضمنت الدولة المدنية حرية الاعتقاد الديني. إحلال الولاء للمذهب محل الولاء للوطن في العراق ستبوء بالفشل ولأننا أولينا الاهتمام بما يجري في العراق في ظل الاحتلال، فإننا نعتبر أن تجربته في ظل الحكم الوطني، هي إحدى تلك التجارب الجديرة بالدراسة. ففي تلك المرحلة كانت القوانين المرعية الإجراء تمنع تأسيس أحزاب دينية سياسية من دون أن تحرم العراقيين من من حقهم بممارسة طقوسهم الدينية لا بل كانت تحترمها وتحميها، وهذا السبب حال دون نشأة تيارات دينية سياسية. لذا فإن ظاهرة الاتهامات المتبادلة بين بعض التيارات الطائفية العراقية، في هذا الظرف، إنما تعود أسبابها إلى نظام المحاصصة الطائفية التي شرَّعها الدستور العراقي الموضوع في ظل الاحتلال. وكان واضعوه يعلمون أنه الدستور الذي سيزرع الفرقة بين العراقيين، وسيجعل منه عاملاً دائماً في صناعة الحروب الطائفية. وإذا كنا نحمِّل الاحتلال وزر جريمة الاقتتال بين المتعصبين الطائفيين فإننا لا نعفي التيارات الدينية السياسية العراقية من المسؤولية لأنها شاركت الاحتلال بالعدوان والاحتلال واستبدال نظام الدولة المدنية بنظام المحاصصة الطائفية، وضمَّنته في صلب الدستور العراقي. وهم قاموا بذلك لأنه يحافظ على مصالح النخب الطائفية، وبمثل ذلك النظام يكونون قد قيَّدوا أهدافهم وكبَّلوها بأغلال مصالح الطوائف الدينية، لأنه الوسيلة الأساسية التي يتسللون منها إلى مقاعد السلطة. لقد شارك التياران الأساسيان في ارتكاب الجريمة، وهما تيار ولاية الفقيه الشيعية، والحزب الإسلامي العراقي، السني المذهب. وتواطأ التياران مع الاحتلال وشاركا بإنشاء العملية السياسية، وتشاركا بدعمها على قدم المساواة. وإنما كانت أسباب تناحرهما في هذه المرحلة تعود إلى خلافاتهما حول تقسيم كعكة العراق النفطية. ولذا فقد حظي كل منهما بدعم عربي أو إقليمي، دعماً له أعماقه الطائفية السياسية، خاصة أن لكل طرف عربي أو إقليمي مصالح في العراق يريد أن يحصل عليها ويحافظ عليها، وكل منهما يريد أن يبني تلك المصالح ويضمن استمرارها، وليس أكثر ضمانة لها من وجود قواعد سياسية عراقية تقوم على الانتماء الطائفي المتماثل مع الانتماء الطائفي للداعم الخارجي. ومن هنا تقاطعت مصالح الطائفيين السياسيين من العراقيين مع عمقهما العربي والإقليمي، بحيث يحمي كل منهما الآخر، ويضمن استمرار مصالحه. فالعمق الخارجي يضمن حصة قواعده العراقية بالسلطة، والقواعد العراقية تبادله بحماية مصالحه السياسية والاقتصادية في العراق. ولأن المكوِّن السني من أطراف العملية السياسية قد أُصيب بالضرر عندما قُلِّصت قواعده في السلطة، دبَّ الخلاف مع المكوِّن الشيعي حول السبب ذاته. وتحول الصراع على السلطة بين المكونين إلى صراع طائفي لا تخفى آثاره المدمرة على حياة العراقيين. الثورة العراقية كسرت جدار الدائرة الطائفية المغلقة وفي المقابل، يقف بين المكونين الحاكمين على قاعدة المحاصصة الطائفية، جاء المكون الوطني، الجامع بين العراقيين على شتى مكوناتهم العرقية والدينية، ليشكل الحل الجذري، فجاء الحل على صهوة حصان المقاومة الوطنية العراقية بثلاثيتها الثورية: منهجها التحريري الاستراتيجي القومي، وقيادتها الرافضة للمكونات الطائفية، وجماهيرها الثائرة المقاومة. ولخطورة منهج المقاومة على منهج نظام المحاصصة الطائفية، وقف بالضد منها كل المتضررين من استعادة وحدة العراق وعروبته. واستخدمت تلك الأوساط، خارجياً وداخلياً، سلاح المزيد من التفتيت الطائفي وتغذية الصراعات بينها. وكان من بينها، وأكثرها خطورة، سلاح خطير ولا يمت للواقع وللتحليل النظري بصلة، وهو التفرقة بين (سني ثائر) ضد العملية السياسية، و(شيعي ساكت) عنها أو مدافع. ويكمن أخطر من التصنيفين السياسيين عندما يعيد البعض أسباب هذا التقسيم، عن حسن نية أو سوئها، إلى عوامل إيديولوجية، يخال للقارئ أو المتابع أن (الثورة شأن إيديولوجي سني)، بينما (التواطؤ هو شأن إيديولوجي شيعي). ماذا نقرأ من وراء أسباب هذا التصنيف؟ إن حقائق الأمور، وواقعيتها، أولاً، تدل على أن الثورة والتواطؤ على الثورة لا يعودان إلى أسباب أيديولوجية دينية أو دينية مذهبية. والبرهان على ذلك يظهر واضحاً من مشاركة شيعيي ولاية الفقيه وسُنيِّي الحزب الإسلامي العراقي في مساعدة الاحتلال والمشاركة جنباً إلى جنب في (العملية السياسية). وثانياً تواطؤهما معاً، وعن سابق إصرار وتصميم، على نهب ثروات العراق وامتصاص دماء العراقيين. فهما يسرقان كل العراقيين من دون تمييز بين (سني) أو (شيعي). هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ولأن شرارة الثورة الشعبية العراقية انطلقت من الأنبار، لأسباب ذاتية وموضوعية، وجدت لها مناوئين ومعارضين ومتآمرين من الأنبار بالذات. ويمكن للمتابع أن يعرف أين يأوي بعض رؤوساء العشائر من الأنبار، ممن شكلوا العائق الأكبر في وجه المقاومة ضد الأميركيين سابقاً، أو ما يزالوا يشكلون، هم ذاتهم بأسمائهم وأشخاصهم، أحد العوائق في وجه (الثورة الشعبية) التي انطلقت من الأنبار. إن إعادة السبب للعامل الإيديولوجي في تعريف من هو (مع) أو من هو (ضد). أي من هو مع الثورة أو من هو ضد الثورة، هو مسألة منافية للعلمية والموضوعية. بل ما يمكن الاستناد إليه هي ظروف البيئة الجغرافية والشعبية والأمنية والسياسية. ولكي نبرهن على عقم الاستدلال بالعامل الإيديولوجي الشيعي كسبب يحول دون ثورة محافظات الجنوب، سنورد بعض الوقائع، وبعض الأسباب النظرية: الحقائق الواقعية: -حرب السنوات الثمانية بين النظام الإيراني والعراق، ومن أهم مضامينها تؤكد أن المكون الشيعي في الجيش العراقي كان يشكل 60% على الأقل من مجموع الجيش العراقي، هذا أولاً. وأما ثانياً فإن كل المعارك العسكرية كانت تنطلق من المحافظات الجنوبية وإليها. وعلى الرغم من ذلك فقد انتصر العراق في الحرب العدوانية الإيرانية، وكان المشاركون الرئيسيون فيها ينتمون للمكون (الشيعي). -ما سُميَّ بـ(الانتفاضة الشعبانية) التي أعدَّها النظام الإيراني لإسقاط النظام الوطني في العراق، في ظرف حسب فيه أن الجيش العراقي كان منهكاً في أعقاب العدوان الثلاثيني في العام 1991 ضد العراق. فكانت تلك (الانتفاضة) حركة تخريبية حصلت في القلب من المحافظات الشيعية، ولكن تمت تصفيتها بأقل من شهر واحد. بينما النظام الوطني لم يستخدم بمعركة تصفيتها أي مكون أمني أو عسكري أو إداري أو سياسي خارج أبناء تلك المحافظات. -الحقائق النظرية: بالعكس مما يستند إليه بعض المتشائمين من المخلصين للثورة العراقية. كما على العكس مما يراهن عليه نظام الآيات في إيران، أو على ما يستند إليه عملاء إيران من العراقيين. وعلى العكس من مراهنات أعداء العراق على استمرار مظاهر العداء بين المكونات الطائفية فيه، فإن الثوابت النظرية تدحض مراهناتهم وتنقضها. هؤلاء كلهم، راهنوا منذ احتلال العراق، وما يزالوا يراهنون الآن على أن العراقيين سيتغلب الشعور الديني أو المذهبي عندهم على شعورهم الوطني. ولكن هؤلاء المراهنين يبالغون بلا شك في مراهناتهم وأحلامهم. ونؤكد بدورنا أن أمنياتهم هي خيالية وبعيدة تماماً عن نتائج التحليل العلمي، فهم يجهلون تماماً تأثير الشعور الوطني نفسياً واجتماعياً، وهذا مبني على أن الفطرة الغيبية لن تبقى صامدة أمام وقائع المصالح المادية للبشر، إذ لا يمكن للإنسان المنتمي لدين أو لمذهب، وفي سبيل انتمائه، لا يمكنه أن يتحمل الجوع والمرض كحاجات مادية للجسد، وأن يتحمل الإذلال وأن يُطعن بكرامته وإرادته الحرة، كحاجة نفسية للروح. لذلك ستُصاب أمنيات أولئك المراهنين بالإخفاق. لماذا؟ يراهن هؤلاء على أن الشعور بـ(نصرة الدين أو المذهب) يتغلَّب على الشعور بـ(نصرة الوطن). وهنا نتساءل: هل انتمى أي إنسان على وجه الأرض إلى دين ما أو مذهب ديني ما إلاَّ ظناً منه أن الدين أو المذهب سيشكل طريقاً للسعادة في الدنيا أولاً، وفي الآخرة ثانياً؟ يأتي الجواب من التجربة التاريخية للشعوب التي عاشت في ظل أنظمة الدول الدينية، بحيث إن قراءة التاريخ أكَّدت أن المنتسبين لهذا الدين أو ذاك، لهذا المذهب أو ذاك، لم يستمروا بتأييدهم لحكوماتهم الدينية عندما لم تتحقق آمالهم وأحلامهم بنشر العدالة والمساواة، وبالقضاء على الجوع والمرض. 1-قراءة تاريخ صراع المسيحيين ضد الكنيسة المسيحية انطلقت من أسباب مادية: وهل ردَّة عدد من رجال الكهنوت المسيحيين في أوروبا على سلطة الكنيسة إلاَّ برهاناً على ذلك؟ وهنا لن تفوتنا الأسئلة التالية: -هل من ارتدَّ على سلطة الكنيسة في أوروبا كان من غير المسيحيين أنفسهم؟ -وهل من ارتدَّ عليها بداية غير من كانوا في صفوف الكهنة من المسيحيين؟ -ولماذا ارتدوا عليها؟ هل لأسباب الخلاف على القضايا الغيبية، والخلافات هنا قليلة، أم لأسباب تعود إلى دور الكنيسة الزمني؟ إن الجواب يؤكده رجل دين مسيحي بعد أن رأى ما تنزله الكنيسة من ظلم وبطش بين رعاياها، وما تراكمه من غنى وثراء في أوساط رجال الدين، حينئذٍ قال: (إن خليفة الحواريين قد وُكِّلَ بأن يقود غنم الرب إلى المراعي، لا أن يجزَّ صوفها). وبهذا تبرهن الواقعة التاريخية، أن الثورة في أوروبا بدأت على كنيسة روما لأسباب دنيوية. 2-قراءة تاريخ صراع الشيعة الإيرانيين ضد سلطة (الولي الفقيه) انطلقت من أسباب إصلاحية سياسية ومادية: في إيران، حيث يحكم النظام باسم ولاية الفقيه ذي المذهب الشيعي، حدثت ثورة شعبية عارمة، منذ سنوات قليلة. وكان الثوار من المنتمين للمذهب نفسه وليس من مكونات مذهبية أو دينية أخرى. وإن المحجور عليهم من قيادات المعارضة للنظام هم أيضاً من رجال الدين الشيعة. وتلك دلائل على أن (نصرة المذهب الشيعي) لم يكن المبدأ الذي استند إليه المعارضون، بل كانت مصالح الناس المرسلة هي العامل الذي دفع معارضة تنتمي لمذهب الحاكم السياسي. وهذه الواقعة تؤكد أن مبدأ (نصرة المذهب) ليس ثابتاً بل هو متغير. وهو عقيدة نظرية عبثية يُراد من نشرها وتعميق مفهومها خدمة مصالح النخب السياسية والاقتصادية من رجال الدين. وهو خطاب سياسي لتضليل البسطاء من الجماهير الأمية، ومن قام بترويجه وتعميمه من المثقفين ومن النخب السياسية والاقتصادية، فإنما هم من المستفيدين من نظام رجال الدين. وإن (نصرة المذهب) لن تنطلي حتى على البسطاء من الشعوب ولن تلعب دوراً تضليلياً إذا ما انحرف الحاكمون باسم المذهب عن مصالح عامة الشعوب، أي عندما يخطأون في إدارة شؤون شعوبهم الدنيوية. وبحكم أيديولوجية الأنظمة الدينية القائمة على قواعد (التقليد) وتنفيذ (التكليف الشرعي)، فستقع بالكثير من الأخطاء ومن أهمها تجاهل مصالح الناس، تحت دعاوى (الصبر على الفقر) وتعميم فضائله. وهم يبيعون البسطاء جنة الآخرة بـ(صبرهم على الفقر) في الدنيا. وما دام الأمر كذلك، فهناك الكثير من الأخطاء التي يمارسها قادة الدول الدينية، وتساعد على أن تبعد الناس عنهم، وتثور ضدهم. وإنه طالما لن تنتهي تلك الأخطاء، فإن الثورة ضد أولياء الأمر فيه تبقى عاملاً نائماً حتى تحين ظروفها. 3-في الثورة الهندية: في الثورة السلمية في الهند قال غاندي: (لا يستطيع حتى الله أن يظهر أمام ملايين الجائعين إلاَّ بصورة رغيف الخبز). وفي هذا القول يكمن جواباً جامعاً مانعاً يؤكد فيه أن الدين إذا لم يوفر رغيف الخبز للفقراء، فهو ليس دينياً حقيقياً إذا لم يهتم بشؤون الناس. فماذا عن العراق؟ 4-نشر مبدأ (نصرة المذهب في العراق)، هو أحد الخدع الكبرى للخطاب الطائفي السياسي: انتشر مبدأ (نصرة المذهب) في العراق بعد الاحتلال مباشرة، هذا وإن كانت قد سبقته بعض الدعوات إليه من قبل تيارات الإسلام السياسي، ويأتي (حزب الدعوة) في طليعة تلك التيارات. وقد بقيت في ظل النظام الوطني أصوات تلك الدعوة خافتة لا تتجاوز التبشير في الخفاء، لأن الأحزاب الدينية كانت محظورة النشاط في العراق. فعقيدة الحكم الوطني كانت تعتمد على نشر الثقافة الوطنية والقومية القائمة على (نصرة الوطن) بما تعنيه من الارتباط بالأرض، وحماية الحدود الوطنية، وتقديس سيادة الإرادة الوطنية، والكفاح من أجل تطبيق القيم العليا بالعدالة والمساواة. ولأن أهداف الخطاب الوطني والعقيدة القومية كانت تدعو للوحدة وتعمل على تطبيقها، فإنها شكَّلت تحدياً حقيقياً للتيارات الدينية السياسية أولاً، ولأنها كانت كذلك فقد شكلت أيضاً تحدياً حقيقياً للقوى المعادية للدولة المدنية، وكذلك للقوى المعادية لوحدة المجتمعات العربية، ولوحدة دولة العرب السياسية. فكان مبدأ (نصرة المذهب) هو البديل العقيدي لمبدأ (نصرة الوطن). وهو المبدأ الذي التقى على ترويجه كل من التيارات الدينية السياسية من جانب، والقوى الخارجية المعادية للقومية العربية من جانب آخر. ولهذا شاركت كل تلك الأطراف في نشر ثقافة الطوائف الدينية السياسية. ولأن النظام الإيراني ينشر عقيدته في بناء الدولة الدينية، على قاعدة استقطاب الشيعة في كل مكان في العالم، كان أكثر القوى حماساً وانغماساً في نشره في العراق كونه يضم، بعد إيران، أكبر تجمع للشيعة في العالم. لقد حاول ذلك منذ انتصار (الثورة الإسلامية في إيران، ولكن محاولاته باءت بالفشل خاصة بعد فشله بالانتصار في حربه الطويلة الأمد ضد العراق. وأعاد إحياء محاولاته فآتته الفرصة عندما تأكد من نوايا أميركا باحتلال العراق، فقام بمشاركتها بحماس منقطع النظير فزجَّ عملاءه ودفعهم للتسلل إلى العراق تحت حماية الدبابات الأميركية. وواتته الفرصة أكثر عندما أصيب الاحتلال الأميركي بالضعف، فاعتبرها فرصته الذهبية ليقوم بأكثر أعمال التطهير المذهبي حيثما وصلت يداه، وأصبح الترويج لمبدأ (نصرة المذهب الشيعي) منتشراً في على الأخص في كل زاوية من زوايا محافظات العراق الجنوبية. فقام أولاً بملاحقة الوطنيين في محافظات الجنوب، اعتقالاً وقتلاً وتهجيراً، لكي يبقى في تلك المحافظات من استجاب لدعوته سواء باللين كان أم كان بالإكراه أم استجاب بالخداع والوعود البراقة. وطالما ظلت المحافظات الأخرى، ومنها المحافظات الست في الأنبار وغيرها، خارج سيطرة النفوذ الإيراني المباشر، وإنما توهموا أنه تم تدجينها على أيدي دعاة (الحزب الإسلامي العراقي) ليس لسبب إلاَّ لأن الحزب حليفهم في إنجاح (العملية السياسية)، وهو حريص على اقتلاع الشعور الوطني وسجنه في مبدأ آخر هو مبدأ (نصرة المذهب السني) أيضاً. كانت اليد الطولى للنفوذ الإيراني في جنوب العراق، ولكونه متوهماً أنه ضمن ولاء من بقي في محافظات الجنوب، فقد اطمأن واسترخى، واعتبر أن توسيع نفوذه في العراق سينطلق إلى داخل المحافظات الأخرى مطمئناً إلى إسناد ثابت من قواعد شعبية عراقية جنوبية. إن هذا الواقع هو الذي دبَّ الخوف في نفوس بعض الأوساط المؤيدة للثورة أو المشاركة فيها، وانخرط بعضهم بقصد أو من دون قصد في السجال الطائفي الدائر حول مبدأ (نصرة المذهب) معتقدين أن لهذا المبدأ عمق إيديولوجي وتأثير إيديولوجي، وهنا فإننا سنثبت تهافت المواقف التي تقوم بالتخويف منه ومن تأثيراته على استراتيجية توسيع الثورة والانتقال بها إلى محافظات الجنوب. إننا، وعلى قواعد دحض مبررات اعتبار مبدأ (نصرة المذهب) مبدأ ثابتاً، وهذا ما قمنا بإثباته من خلال استعراض التجارب التاريخية والبراهين النظرية، سنقوم بدحض تلك المخاوف لإعادة الثقة بأن الثورة لن تتأخر كثيراً لإعلان انطلاقها من محافظات الجنوب في العراق من جانب، ومن جانب آخر إثبات تهافت الأوهام الإيرانية بشكل خاص، وأوهام القوى المعادية للعراق والقومية العربية بشكل عام. 1-كان ترتيب وضع (جنوب العراق خالٍ من الوطنيين) تأثير سلبي على انتشار الثورة بسرعة. 2-وسائل القمع الشديد الذي تتم ممارسته على من بقي في الجنوب صامداً، الأمر الذي كتم الأصوات المعارضة والمناهضة للاحتلال ودفعها للانتظار من أجل اقتناص الفرصة المناسبة للثورة في وجه الوجود الإيراني ودوره. 3-من أبرز الأسباب والعوامل التي تؤشر على أن من بقي في جنوب العراق لن يتخلف عن الثورة بشكل مباشر هو أن مبدأ (نصرة المذهب) أصبح ساقطاً بدون معنى أو مضمون بعد أن استفحل ظلم التواجد الإيراني بمساهمة ومشاركة عملائه في ارتكاب الجرائم البشعة من كل صنف ونوع بحق من يدعونهم لـ(نصرة المذهب). فإن الاعتقاد بـ(نصرة المذهب) يقوم على رفع الحيف والظلم عن المنتمين إليه، وإذا كان العكس هو السائد، فأي دافع يجعل هؤلاء مستمرين في دعمه والدفاع عنه. ولأن الظلم والقمع هو ما يجري الآن، فقد انتفت دوافع الاعتقاد به. والنتيجة المتوقعة هو أنه لا شك بأن الثورة ضد من نشره وروَّج له ستظل كامنة حتى تجد الفرصة التي تنفجر فيها. 4-الظلم المادي الذي طال كل العراقيين حتى منهم أولئك الذين يرتزقون من صنايق قيادة الميليشيات الإيرانية. فلن يصبر حتى المغرق بمذهبيته على سلب ثروات بلاده، بينما هو يتضور جوعاً، ويصرخ ألماً، وغيره يرفل في واقع الثراء. وهذا سبب آخر يدعم ما نتوقعه من أن نيران الثورة كامنة تحت الرماد. 5-وسائل الإذلال التي يمارسها الإيرانيون حتى على أنصارهم من المنتسبين للميليشيات، فهم لم يوفروا كرامة حتى لبعض رجال الدين الشيعة ممن يقفون في صفوف المعارضة. والسبب أن (الولي الفقيه) في إيران هو الذي يصدر الأوامر ليتم تنفيذها، وليست مناقشتها. ألم تنص القواعد الدينية لنظرية (ولاية الفقيه) على أن: (الراد على الإمام هو راد على النبي، وأن الراد على النبي هو راد على الله)؟ 6-إن وطأة الاحتلال مرفوضة حتى ولو كان المحتل يحكم باسم المذهب، وسلب القرار المستقل مرفوض، فكيف لو كانت عملية السلب تستند إلى (تكليفات شرعية) لها صفة القداسة؟ وبناء على تلك الأدلة، والتي نوجزها بما يلي: -استفحال الظلم المادي على شتى المستويات في ظل سلب الثروات الوطنية. -واستفحال مظاهر سلب القرار الذاتي، واستلاب الشخصية والإرادة الوطنية تحت ذرائع إلهية. -تعميق الاحتلال وترسيخه هو نقيض للسيادة الوطنية والقرار المستقل. كل تلك المظاهر والحقائق لا يشك أحد بأنها تشكل أسباباً مستعجلة للثورة في جنوب العراق. وما تأخيرها إلاَّ لظروف مرحلية، من دون أن يساورنا الشك بأنها قد تأخرت لأسباب إيديولوجية مذهبية. لكل ذلك، نقول للمتشائمين: أقلعوا عن مخاوفكم، وبددوا غيوم تشاؤمكم، فالثورة ليست بعيدة عن جنوب العراق. وتيقنوا أن كل خطوة متقدمة لثورة الأنبار تجد الآن صداها النفسي الإيجابي في الجنوب، وإنها تشكل حافزاً نفسياً كبيراً يتراكم بالتدريج لكي ينفجر في الوقت المناسب وستجد صداها الإيجابي في نفوس كل سكانه، وستعم وستنتشر كالنار في هشيم من يخدعون الناس بوجوب (نصرة المذهب). وساعتئذ سيتفاجأ الخائفون بما لم يكونوا يتوقعونه. لكل ذلك، ومن أجل ذلك، على الصادقين بدعم الثورة والمشاركين فيها أن يلقعوا عن الكتابة بغير موضوعية عن ظاهرة ما يعتبرونه انحيازاً مذهبياً لنظام الملالي في إيران. وإن التزامهم بالتعبئة بثوابت الخطاب الوطني والقومي هو الخطاب الأكثر تأثيراً فيمن في قلوبهم بقية من مذهبية أو طائفية، وهو السبيل الوحيد لزرع الطمأنينة في نفوسهم من أجل استقبال معالم الفجر الجديد الذي يطل على العراق منذ بدء انطلاقة المقاومة العراقيةن والتي تستأنفها الآن في حلة الثورة الشعبية الكبرى.