شهد مسرح الأحداث الأوكرانية مؤخرا احتجاجات ومظاهرات في العاصمة ومناطق اخرى توحي بوجود أزمة تلوح في الأفق قد تنعكس سلبا على الأوضاع السياسية والأقتصادية والأمنية لهذا البلد وربما على مجمل الأوضاع والعلاقات الدولية والأقليمية حيث بدأت هذه الأزمة بنشاطات واعتصامات وتظاهرات لقوى راغبة في انضمام اوكرانيا الى الأتحاد الأوربي قوبلت من قبل القوى الحاكمة في كييف والمدعومة من قبل روسيا بالرفض اولا ثم المجابهة المسلحة أودت بحياة العشرات من الطرفين والى مواقف دولية معارضة لأستخدام القوة ومشجعة لأنضمام اوكرانيا الى الأتحاد الأوربي .كان من نتائج هذا الحراك الشعبي خلع الرئيس الأوكراني فيكتوريانوكوفيتش الموالي لروسيا وسيطرت المعارضة الأوكرانية على مقاليد السلطة فيها الأمر الذي تراه روسيا مساسا بمصالحها الأستراتيجية في اوكرانيا وخاصة منطقة جزيرة القرم والتي تتمتع بحكم ذاتي ضمن جمهورية اوكرانيا حيث الأسطول البحري الروسي الضخم وأسلحة نووية خطيرة وموقع جغرافي عسكري ونووي مهم وحدود اقليمية وبحرية مهمة ذات تاثير كبير على المصالح الحيوية الروسية. تتمتع جزيرة القرم بموقع جغرافي واستراتيجي وتتحكم بخط بحري مسيطر على البحر الأسود لذلك احتلت هذه المنطقة مكانة واسعة في اهتمامات السياسة الروسية قبل وبعد الأتحاد السوفيتي اضافة الى احتواءها على ثروات طبيعية هائلة كالبترول والفحم والغاز الطبيعي والحديد والرصاص أضافة الى ثروات زراعية مهمة كالقمح وهو شريان الحياة الروسية وانواع اخرى من الفاكهة ووجود مناطق متطورة للعلاج الطبيعي بالمياه المعدنية تعتبر من افضل المناطق السياحية والعلاجية في العالم .تبلغ مساحة القرم حوالي 2700كم ونفوسها اكثرمليونين ونصف يؤلف الروس فيه 50% من عدد السكان والأوكران 30% بينما يؤلف التتارالمسلمون حوالي13% وهم قبائل تركية اتحدّت مع قبائل مغولية ذات أصول مشتركة اكتسحوا اراضي واسعة من اوربا وآسيا وتعرضوا وبفترات متلاحقة لأشد انواع التعذيب والترهيب والأعدام حيث سرقت أموالهم وهدمت بيوتهم ومساجدهم ومدارسهم واعدم قادتهم عندما احتلتها روسيا عام 1774 وضمتها الى اراضي روسيا القيصرية في العام 1783مما اظطرهم الى ترك ديارهم والفرار الى تركيا واوزبكستان ومناطق قريبة اخرى . عند قيام الثورة البلشفية عام 1917 اعلن التتاراستقلال جمهورية القرم برئاسة نعمان حيجي والتي استطاع الروس اسقاطها وأعدام رئيسها والقاء جثته في عرض البحر. وفي عام 1920اعلن الأتحاد السوفيتي الحكم الذاتي لجمهورية القرم وعندما اراد ستالين بدفع صهيوني انشاء كيان صهيوني في هذه الجزيرة ثار عليه التتاربقيادة ائمة المساجدوعلماءالدين والمثقفين والوطنيين الأحرارفقام الروس بأعدام اكثر من 3600 منهم بما فيهم رئيس الحكومة ولي ابراهيم.وخلال الحرب العالمية الثانية استغل الروس ظروف القتال وجندوا البالغين من سكان الجزيرة للقتال واستخدموا الآخرين منهم في مصانع ومعامل التصنيع العسكري .وخلال المعارك الدائرة اتهم السوفيت التتار بالخيانة العظمى والغي المجلس الأعلى لجمهورية القرم واستقلالها الذاتي ثم الغيت عنهم لاحقا قرارات الأتهام الا انه لم يسمح لهم بالعودة الى وطنهم وهذا ما يفسر اليوم نسبة التتار في المجموع العام لسكان هذه الجزيرة . كان للاجراءات والبرامج والأصلاحات التي جاءت بها عام 1985 بيروسترويكا غورباتشوف نتائج كبيرة ومهمة على صعيد الأتحاد السوفيتي وجمهورياته الخمسة عشرحيث مثلت انعطافا كبيرا في علاقة هذه الدول بالأتحاد السوفيتي بدأت نتائجه واضحة من خلال انفراط عقد هذه الدول وتشرذمها بالحال وتبعثرأرثها العسكري والأقتصادي وتناحر قسم منها مع الدولة الأم وظهور الأماني القومية لشعوب هذا الدول وتطلعاتها بغد أفضل فامست اعادة البناء والأصلاح معاول للهدم والتفكك والضياع فثمة تضاريس اختلفت وسياسات جديدة اتّبعت وخنادق مختلفة حفرت واماني سياسية قبرت وانقسامات واضحة طغت ليس على مستوى الأتحاد السوفيتي بل على كافة المستويات الدولية حيث انتهت مرحلة التوازن الدولي وظهور القطب الأوحد وأحكامه الظالمة وما يترتب على ذلك من ضياع للحقوق في الدول الطامحة لأعادة بناء قدراتها الذاتية بعيدا عن التدخل والسيطرة الأجنبية . كان من نتائج ذلك استقلال اوكرانيا عن الأتحاد السوفيتي عام 1991فعقد التتار مؤتمرهم الأول في العام نفسه في مدينة سيمفروبل حيث انتخب المناضل التتاري مصطفى جميل رئيسا للمجلس ورفع شعار اعادة الشخصية الأسلامية وعدم التفريط بها وضرورة تعلم ومعرفة أحكام الشريعة الأسلامية وعندما ضمّت شبه جزيرة القرم الى اوكرانيا احتفظ الروس باعتبارهم ورثة الأتحاد السوفيتي بأسطول نووي في مدينة سيباستوبول وتحولت الى محمية روسية وبقي ملايين التتارموزعين بين روسيا وتركيا واوزبكستان وتمثيل التتار بالبرلمان لا يزيد عن عضو او عضوين فقط . تمر روسيا اليوم بظروف لا تحسد عليها فبعد ان خسرت حلف وارشو وامكانياته أصبحت ربما ذليلة وتابعة لحلف الناتو بعد ان خسرت كثير من هيبتها ومواقعها وانصارها في مناطق متعددة من العالم (اسيا /افريقيا/امريكا اللاتينية/امريكا الجنوبية ) أصبحت اصوات البنادق وقرقعة السلاح قريبه من حددوها فأن هي سكتت أحترقت وان هي تكلمت فالنتائج غير محسومة في صالحها وفي هذه الأزمة بالذات نسمع اليوم لأكثر من مسؤول روسي حرص روسيا على حماية مصالحها ومصالح رعاياها في المناطق الواقعة في القرم وشرق اوكرانيا والتفكيربأرسال قوة تدخل سريع للتحكم في منطقة قريبة من حدودها الأقليمية على البحر الأسود وربما قامت بجس نبض الموقف الدولي عندما سهلت انتخاب أكسيسونوف رئيسا للوزراء والذي يقود حزبا مواليا لروسيا خلفا لأناتولي موهيلدوف رغم معارضة اوكرانيا على ذلك اوعندما قامت بمحاصرة سفن اوكرانية في البحر الأسود وكذلك ارسال قوات عسكرية اوربما توفير الدعم اللوجستي لها للسيطرةعلى مطارين في القرم ( سيمفربول ووسيباستوبول ) حيث استطاعت القوات الأمنية الأوكرانية السيطرة أخيرا على الموقف حسب تصريح لرئيس المجلس الوطني للأمن والدفاع ( أندريه باروبي ) .ان الوجود العسكري الروسي في البحر الأسود يحتم على روسيا التنسيق مع القطعات الأوكرانية قبل القيام بأي تحرك مستقبلي للقوات الروسية خارج مركز اسطولها ولما كان التغيير الذي حصل في اوكرانيا شأنا داخليا فلا يجوز لروسية استخدام القوة اوالتلويح باستخدامها دون موافقة السلطات الجديدة والمنتخبة من البرلمان الأوكراني . كانت ردود الأفعال الدولية عامة تشير الى ضرورة ايجاد حل سياسي للأزمة في منطقة القرم ومواقف غربية اخرى منتقدة لروسيا ( اميركا / بريطانيا / كندا / فرنسا / بولندا / المانيا ودول اوربية أخرى أيضا ). وكان على رأس هذه المواقف تصريح اوباما بعد ان منح مجلس الدوما الروسي الحق بأستخدام القوة الروسية في اوكرانيا حيث أكد اوباما ان أي انتهاك لسيادة اوكرانيا سيكون له ثمن .كما صرح وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ان التدخل الروسي سيكون له عواقب وخيمة ربما تشمل اموال وودائع مالية روسية او مصارف وشخصيات سياسية ومالية روسية .كذلك دعت مفوضية الأتحاد الأوربي الى ايجاد حل سياسي داعية الى ضبط النفس وعدم التصعيد في المواقف التي قد تعرض المجتمع الدولي والسلم والأمن الدوليين للخطر. وبين هذا وذاك يصعب السيطرة علي جميع المواقف او التكهن بمستجداتها بعد ان وضعت اوكرانيا قواتها العسكرية والأمنية في حالة تأهب واستدعت قوات الأحتياط مما قد يرفع من اسباب التوتر وروسيا ليس من مصلحتها ان تتجاهل ايضا طلب المساعدة الذي تقدم به أكسينوف رئيس وزراء شبه جزيرة القرم خصوصا ان نصف سكانها هم من الروس وتتجاهل أيضا قسم الولاء الذي قدمه قائد البحرية الأوكراني اليوم لرئيس وزراء القرم الموالي لروسيا مما قدتعرّض مصداقيتها للخطرامام اصدقاءها ومناصريها فيدفعها الأمرالى التصلب ويقود الى المواجهة والى تدخلات دولية من شأنها تزيد الأمور تعقيدا. ولا ندري هل يستمر بوتين بتصلبه وطموحاته لأعادة الأمجاد الروسية الى ما كانت عليه ويقف صامدا أمام الأنتقادات والتحذيرات التي توجه اليه من المجتمع الدولي ام انه سيتراجع عن كل ذلك من منطق الحكمة والتعقّل وبسبب الضغوط التي تمارس عليه لثنيه عن دوافعة بالتدخل والمواجهة . سؤال قد تجيب عليه الأيام القليلة القادمة .