لم يحظ زعيم راحل بمثل ماحظي به رئيس جنوب إفريقيا نلسنون مانديلا من حشد ضم ابرز الرؤساء والقادة السياسيين في العالم، تكريما لهذه الشخصية الفذة التي أنهت الفصل العنصري ووضعت البلاد على عتبة عهد جديد من التعايش والمصالحة التاريخية بين جميع مكوناته نالت تقدير وإعجاب العالم. وخلال زيارتنا إلى جنوب إفريقيا ضمن جولة نظمتها الأمم المتحدة للاطلاع على تجربة جنوب إفريقيا في تحقيق المصالحة وطي صفحة الماضي ، أقول فوجئنا ونحن نستمع إلى عدد من قادة جنوب إفريقيا بروح التسامح والشجاعة التي تحلى بها الفرقاء من البيض والسود لانجاز أهم مشروع للمصالحة الوطنية تشهده القارة الإفريقية في العصر الحديث. والمفاجأة تكمن بالإحساس الوطني العارم بضرورة طي صفحة الماضي وفتح الطريق للمصالحة رغم الجراح العميقة التي خلفتها فترة نظام الفصل العنصري ، إلا أن الإرادة السياسية وتغليب مصلحة الوطن على سواها كللت جهود المناضل نلسون مانديلا وخصمه دي كليرك الذي كان رئيسا للبلاد بإنجاز تأريخي قل نظيره. وحتى تكتمل فصول هذه المصالحة الوطنية وتتجسد على ارض الواقع ارتضى المتخاصمون بالحلول الوسط والتسوية السياسية كخيارلابد منه الذي فتح الطريق ليتصالح حملة البنادق ممن كانوا أعداء بالأمس وأصبحوا شركاء في الوطن فيما بعد. وهذا التحول المثير في المشهد السياسي في جنوب إفريقيا وضع البلاد على أعتاب مرحلة جديدة عنوانها التسامح وتجاوزمخلفات الماضي والتداول السلمي للسلطة من دون إقصاء أو تهميش احد، كما يجري في العراق منذ احتلاله وحتى الان . وشهدت مدن جوهانسبرغ وبروتوريا وكيب تاون وديربن عمليات مصالحة شاملة بين من تضرروا من سياسات نظام الفصل العنصري واسر الضحايا كانت إيذانا ببدء مرحلة مهمة في الحياة الجديدة والعيش المشترك ما جنب البلاد عمليات الثأر والتصفيات والملاحقة. وكان لهيئة الحقيقة والمصالحة الدورالكبيرفي نزع الألغام في طريق المصالحة عبرالشفافية والحكمة في فض المنازعات بين المتخاصمين التي استندت إلى حكمة ( عدالة المنتصر ) على حد قول مسؤول في الهيئة المذكورة. وجنبت حكمة مانديلا وأخر رئيس ابيض دي كليرك ، جنوب إفريقيا الانتقام والعنف والثأرووضعتها على أعتاب مرحلة تصالح بها الجميع وفضلوا مصلحة الوطن على الدخول بالحرب الأهلية. إن طي صفحة الماضي والتطلع إلى أمام كان عنوان المرحلة التي أعقبت الانتصار التاريخي الذي حققه مانديلا في أول انتخابات بعد أن تحرر من قيوده وأصبح المسؤول الأول في قيادة الحزب والدولة. وعلى الرغم من اختلاف التجربتين العراقية والجنوب افريقية، إلا أن اغلب المسؤولين الذين التقيانهم كانوا يؤكدون أن العراق لن يستقر من دون أن يطوي صفحة الماضي وتتحقق المصالحة الوطنية بين مكوناته. وكان لافتا اعتراف الرئيس الأبيض دي كليرك بمجازفة التحول الديمقراطي ومخاطرها في بلاده لاسيما على حياة ومستقبل البيض ، ألا انه أكد أن هذا الخيار كان لابد منه ، لو تأخر قليلا لكانت بلاده دخلت في أتون الحرب الأهلية ،موضحا أن ماجرى في جنوب افريقيا كان استجابة لروح العصر واستجابة لاشتراطاته الحياتية، وبعد أن حققت جنوب إفريقيا هذه الانجازات على طريق التحول الديمقراطي والمصالحة فأن الأولويات والتحديات تغيرت فأصبح الايدز التحدي الأكبر الذي يواجه البلاد بعد أن بلغت نسبة المصابين بهذا الداء نحو (25 % ) من السكان إضافة إلى البطالة والتضخم وأزمة السكن وارتفاع الأسعار. ورغم هذه التحديات فأن جنوب إفريقيا تحقق نجاحات على صعيد النمو الاقتصادي وفائض في الموازنة العامة وتصفية ديونها الخارجية إلى مرحلة حولها إلى بلد صناعي بفضل النهضة التي تشهدها في شتى الميادين. فجنوب إفريقيا تصدر نحو (70%) من إنتاج العالم من الذهب وتقف في مقدمة المصدرين للسلاح وتكنولوجيا الطاقة الذرية ويشكل السود النسبة الأعظم من سكانها يليهم البيض والهنود والملونين ويتحدث سكان هذا البلد الذي بلغ تعداده أكثر من خمسين مليون نسمة (12) لغة محلية ويقع في آخر بقعة لليابسة على القارة الإفريقية وفيه يلتقي المحيطان الهندي والأطلسي في رأس الرجاء الصالح. a_ahmed213@yahoo.com