هذا هو المشهد القائم حتى الآن ، ببغداد العباسية المحتلة بغزاة مُرَكَّبين ، وبصنف من أهلها والمقتربات والمبتعدات ، من فَيَضَة أرض الله ، وانفلاتات زرائب التاريخ ، وصيّاحي دكة مزاد المتردية والجائفة ، وما تركَتْ مواخير الغزاة ، واحدهم إن سمع صوت البلاد تئنُّ وتستغيث وتجهش ، صمَّ أذنيه ، وسدَّ عينيه ، وصاح بالناس ، أن اصبروا وتصبروا ولا تتبطّروا ولا تتدلعوا ولا تكفروا بنعمتنا عليكم ، فتأتيكم ثلة قساة ، تضربكم ضرباً ، فلا صريخ لكم ، ولا أنتم تُسعدون . لعبة دجل ونفاق وإفكٍ ، لا تقع إلّا كلّ ألف سنة . ألحاكم يكذب ، والرعية تسكت ، والوعّاظ يتصايحون ببابه ويقولون له : إنك أنت مختار العصر والزمان ، فيصدّق كَذَبَتَهُ وغشّاشيه ، فلايرفّ له جفنٌ ، ولا يتململ تحت أبطه ضمير ، وتظلّ ابتسامته شاخصة ، وهو على رائحة شواء أجساد الناس ، منتشٍ وأمين . ثمة منظر شاسع وقع الاسبوع الفائت ، بخاصرة فخمة من خواصر فندق الرشيد ببغداد . حفلة تأبين وخطابة بذكرى مقتل السيد محمد صادق الصدر ، والد السيد مقتدى الصدر . حضر الواقعة وتناوحَ وبكى على ذكراها ، خليطٌ من الذين يحبّون الصدر ويعتقدون به ، وآخرون ممّن يكرهونه ولا يؤمنون بفعله وقولهِ ، في مشهد نفاقٍ مدوٍّ ، انرشّت على جوانبه ، كلُّ أصناف القبل ، وتمسيح الأكتاف ولطع المناحر ، والابتسامات الصفر التي لن تراها مرسومة ، حتى على وجه شيطان إفتراضيّ رجيم . شيوعيّ عتيقٌ ذرفَ دموعاً سواخن بباب الذكرى ، وجوفه يكاد يضجّ بسؤال مقبوليته وجماعته ، لدى الفكر الصدريّ ومن شابههُ ووالاه . مسيحيٌّ بكى تماماً مثل بكاء سابقه الشيوعيّ ، وهو يدري أنّ فرص مقبوليته وقومه وحانته وكأسه وطقسه وصومعته ، تكاد تكون منعدمة ، في حال استوى الدينويّون على عرش الحكم ، ونبتت وترسخت أقدامهم وما به يؤمنون ويعملون ويلهجون . ليبراليٌّ جلبيٌّ مشهورٌ كاد يضرب صدره كمداً وحزناً ، إذ شمَّ عين الكاميرا تتقانص على عتبة وجههِ المكلوم . تاجرة سمينة مثل رقّاصة أفلام فرعونية ، مادت وناحت وتخضّبت وجنتاها ببلل الفضيحة ، وقالت قولةً محفوظةً مشعّة ، وهي لم تقرأ للصدر سطراً منشورا . كرديٌّ قويٌّ بمتّكئهِ ، رشَّ على المُنصتين الذاهلين ، خطبةً ملساء صمّاء ، كان تدرّبَ على قولها ولكنَنَتِها ودعبلتها ، قبل ليلةٍ من الواقعة ، على أُسّ عبرةٍ في أول السطر ، وشفطة خشمٍ في مؤخرتهِ . أقصد مؤخرة السطر . مناحةٌ عظمى ، وهدومٌ تنقّعتْ وتبللتْ . قلةٌ منهم ومنهنّ ، قرأت الصدر وأحبّته وآمنتْ به ، وتكفّنتْ بمثل ما تكفّن به ، وعشقتهُ بما لهُ ، وبما عليه ، بوصفه انساناً ، والإنسانُ خطّاءٌ حتى لو عاش بغار نبيّ . سنّيٌّ من كشوانية القصر ، حومرَ وجههُ ، وانقرصَ قلبه ، وكان عيناً على مرضاة الحشد ، وثانيةً على شهورٍ قادماتْ . شيعيٌّ من كَرَهَةِ الصدر ، وجههُ والعينان الماكرتان ، صارا خيمة عزاء مؤثثة بالدموع ، وقلبهُ شيّال غيظ ودسيسة . شاعرٌ قَعَدَ متململاً رجراجاً فوق دبق قافية بائتة ، سفحَ عشر دمعات ، وشفطَ سبعَ مخطات ، ورمى على الرجلِ ، بُردة قصيدة ، لكنّ جوفه كان مهموماً بميقات انقضاء الّلمّة ، حيث الربعُ ينطرونه في حانٍ كرّاديٍّ جميل ، في أفئدتهم عجلة من نفس ما هو مقيم في فؤاد الشاعر المنتظر ، أنّ علينا كرع الكؤوس وقوفاً عجولين ، قبل أن تنزرع مركوبةٌ صدريةٌ بباب الحانة ، فينكسر الكأسُ ، ويضيع ثغيب الشاعر والقوافي العزيزات ، هباءً منثورا . هكذا هي حال البلاد ، مُقادة مسحولةٌ بأذيال كذّابين دجّالين حرامية خوّافين ، ورعيةٍ نائمةٍ ساكتةٍ متواطئةٍ ، صار خدُّها مصفعة غيرَ مستردّة ، وشارعُها مباءةً ، وهي صابرة صبراً غيرَ جميلٍ . إنّهم يكذبون ويسمسرون ، أليسَ كذلك ؟ alialsoudani2011@gmail.com