مؤشرات الفساد السياسي في العراق أشبه بالمادة الهلامية التي يمكن تطويعها من قبل الحكومة بالشكل الذي تريده، وأحد هذه الأشكال يتمثل بنهب أملاك الدولة وتجييرها لصالح الحكام بطريقة مبتذلة ومفضوحة. حيث تنجز صفقات مبطنة بين البائعين ( كبار موظفي الدولة ) المعينون من قبل الكتل السياسية الحاكمة وبين المشترين ( زعماء الكتل السياسية ) وأقاربهم. ومن المضحك المبكي ان هذه الأملاك لا تعرض للبيع عبر مزايدات عامة تنشر في وسائل الإعلام كالصحف الرسمية، وإنما تتم عبر مشاورات وتفاهمات سرية وبأسعار زهيدة لا تشكل 10% من القيمة الحقيقية لتلك الاملاك. وهذا ما تجلى بصورة واضحة في أستحواذ آل عبد العزيز الحكيم الاصفهاني على مساحات شاسعة في كربلاء والنجف وبغداد ناهيك عن آل المالكي والجعفري والصولاغي ومدرسي والمشهداني والشامي وبحر العلوم وبقية الشراذم الحاكمة ! وفي مخالفة دستورية وقحة تمت مصادرة بيوت المسئولين في الحكم الوطني السابق وحلً المسؤولون الإسلاميون الجدد فيها، دون أن يقول القضاء كلمته رغم أنها أملاك خاصة ولا يجوز شرعا أو قانونا الإستيلاء عليها بهذه الطريقة البربرية. فالحكم في العراق الجديد شريعة الغاب وليس دولة القانون. ولا عتب على القضاء العراق فهو بحق جحش الحكومة الوديع. مؤخرا إشترى أحمد نجل رئيس الوزراء نوري المالكي القصر والأرض العائدة للرئيس السابق أحمد حسن البكر الواقعة على صفاف نهر دجلة قرب الجسر المعلق، وهو يضم من ثلاث فلل مساحة كل منها ( 1200 ) متر مربع وبمساحة إجمالية ( 7200 ) متر مربع، بعد أن يأست العائلة من إخلاء القصر من قبل مغتصبه رئيس مجلس النواب السابق محمود المشهداني الذي لم يدفع للعائلة قرشا واحدا عن سكنه. بيع القصر والأرض الملحقة به ب ( 12 ) مليون دولار، علما إن السفارة الفرنسية دفعت مقابله ( 40 ) مليون دولار. لكن المشهداني كان يعلق صفقات البيع، حتى حصل أخيرا على مراده بنسبة من المبلغ قدرها ( 3 ) مليون دولار. لا غرابة! فالرجل من حزب إسلامي مشهود له بالعمالة والفساد! ولم يقتصر الأمر على هذا الجانب فهناك المليارات من الدولارات التي استولى عليها المسئولين بصورة غير قانونية، وأخذت طريقها الى الخارج لتتوظف في العقارات وخاصة في لندن ونيويورك وواشنطن وفرنسا ودمشق وعمان والقاهرة. وأخرى توجهت كإيداعات شخصية في البنوك السويسرية والبريطانية والخليجية حيث الراحة الأمان طول الزمان. من مؤشرات الفساد السياسي نهب ثروات البلاد من قبل الزمرة الحاكمة بالتعاون مع قوات الاحتلال فقد انتشر سرطان الفساد المالي والإداري من القمة الى الاطراف فدمر خلايا الوطن، حيث سرق اكثر من ( 200 ) مليار دولار منذ الغزو الامريكي للعراق! ولم يُحقق في هذه الجرائم الكبرى لأن اللصوص هم الحكام، والحكام هم اللصوص، والقضاة أعوان اللصوص. فمًن يحقق مع من؟ وحتى ما يسمى بمفوضية النزاهة فهي الأخرى كانت أبعد ما يكون عن إسمها، وأقرب الى المحاباة والتستر بإلاضافة الى الفساد المستشري في كل مفاصلها. فقد تسترت على الوزارات والمسئولين الفاسدين ولم تنشر قضايا الفساد إلا بعد أن هرب رئيسها الى بلاد العام السام وكشف عن أرقام مهولة بأمكانها ان تجعل العراق يقفز الى مرتبة عالية في التنمية والتقدم. فهي تعادل واردات حزمة من الدول مجتمعة، وانهى مدير النزاهة حكاية الشطار والعيارين بأن رئيس دولة القانون هو من يقف وراء المفسدين ويحميهم من القانون! كإنها فزورة لا يعرف حلٌها الجميع. ورغم وجود المئات من الدلائل على فساد وزير التجارة السابق كنموذج فريد للفساد والفضائح التي كشفت عن وجود مواد مسممة في الطحين، والنقص في الحصص التمونية، وفساد معظمها إضافة الى الصفقات الوهمية والعمولات المليارية، لكن حتى البرلمان نفسه عجز عن إحالته الى القضاء بل وصلت جرأة الوزير وإستهانته بالبرلمان برفضه الإستضافه! لأن أكبر كتله في المجلس تقف خلف الفساد، وبدلا من أن تنزع الشوائب والطفيليات عن جسدها العفن، وفرت لها المناخ المناسب للنشاط والتكاثر! وقد إنتهى المطاف بالسيد الوزير في بلاد العم السام مع المليارات السحت، حيث أمن له المالكي منفذ الهروب! ولا تسأل عن السبب. من مؤشرات الفساد الحكومي إن الحكومة نفسها لم تتمكن من إعادة تشغيل معظم المشاريع والمؤسسات والمصانع التي كانت شغالة على أحسن ما يرام في العهد الوطني السابق، ومنها مصانع الغزل والنسيج، معامل الخياطة، معمل الأدوية في سامراء، والصناعات الغذائية في كربلاء، معامل السكر في ميسان، معامل الألبان، صناعة التمور، الصناعات البتروكيمياوية وغيرها. أو تفعيل مؤسسات الأعمار الكبرى كشركة المنصور والرافدين والآلاف من الشركات الوطنية الأخرى لسد الحاجة المحلية وإستثمار المواد الاولية وتوظيف الأيدي العاملة وزيادة الناتج الوطني. بل قامت على العكس من ذلك بإغلاق المعامل وسرحت العمال ليجدوا أنفسهم أمام طريقين لا ثالث لهما. أما الإنضمام الى سلك الشرطة والجيش بعد دفع الرشاوي أو الإنطواء تحت جناح الميليشيات والعصابات الاجرامية. وانقلبت المعادلة رأسا على عقب! فإذا بخريج الجامعة يعمل في أعمال لا تتوافق مع تحصيله العلمي، وإذا بالأمي الذي لا يحسن القراءة والكتابة أوصاحب الشهادة المزورة يحصل على أفضل الرتب والرواتب! تعتبر البطالة من أهم الأخطار التي يتعرض لها المجتمع، بحكم نتائجها الوخيمة حيث إنها تكرس الفقر والتخلف والتفاوت الأجتماعي والأقتصادي والثقافي وتهدر الطاقة البشرية وتعطل الاقتصاد وتحبط الآمال وترفع مستوى اليأس والتذمر الجمعي، وتنمي العداوات، وتوفر الجو المناسب للجرائم وان 40% من الأيدي العاملة العراقية لا تجد لها فرصة للعمل في بلد تدعي حكومته المباشرة في عملية التنمية وبداية مشاريع الأعمار، وتطالب دول العالم بأرجاع اللاجئين العراقين للمساهمة في عمليات البناء والتعمير! حكومة تمتهن الفساد والكذب معا! فماذا يرتجى منها؟ من مظاهر الفساد السياسي مسلك المافيات والعصابات للحكومة بجميع مؤسساتها الأمنية حيث تقوم بتصفية خصومها والمناوئين للعملية السياسية الفاشلة بالإغتيالات، وشن حملات مداهمة وتفتيش بنفس طائفي مقيت، كما يجري حاليا فيما يسمى بعمليات حزام بغداد. منذ أن دخلت الميليشيات الطائفية الى وزارات الدفاع والداخلية والأمن الوطني بموجب قرار بريمر إنتشر السرطان سريعا في كل مؤسساتها. فقد دفعت الكتل السياسية ميليشياتها الإرهابية في هذه الوزرات لتنفيذ اجندتها ولأول مرة في تأريخ العراق تجد سيارات الشرطة والجيش تحمل صور الزعماء الدينيين والسياسيين! كل حسب ولائه. والأكثر خطورة ما قامت به هذه القوات من عمليات قتل للمعتصمين المسالمين في الحويجة والموصل والأنبار. مما يضع علامات إستفهام عن الإداء الحكومي، وهل يمكن إعادة الثقة بتلك المؤسسات الحكومية؟ وهل إن إستهداف عناصرها الإجرامية من قبل الأطراف المتضررة من سلوكها الطائفي العدائي له ما يبرره أم لا؟ لقد أصبحت العلاقة بين هذه الأجهزة والشعب علاقة عداوة لا يمكن إصلاحها. يشهد العراق الجديد الآلاف من القتلى والجرحى شهريا جراء التفجيرات الارهابية وعمليات الاغتيال والتصفيات السياسية. علاوة على حرق مؤسسات الدولة بفعل المس الكهربائي في بلد يفتقر أصلا للكهرباء! والمئات من حالات الأغتصاب في السجون، وعمليات المداهمة الحكومية الفاشلة والإعتقالات العشوائية المستمرة، وسرقة المليارات وآلاف الجرائم الأخرى، ومع هذا فالفاعل المعلوم يعتبر من وجهة نظر الحكومة أما مجهول، أو معلوم لكنه محمي من قبل الحزب الحاكم. هناك آلاف من الشواهد والأمثال التي يمكن أن تعزز كلامنا لا تُخفى على القاريء الكريم ولا توجد عائلة عراقية لم تلمس آثارها لذلك سنكتفي بهذا القدر ونكمل مشوارنا مع هذه الظاهرة الخطيرة. قبل الحديث عن أي تقدم أو أعمار أو خطط تنموية أو توجهات جديدة أو مشاريع قادمة أو وعود حكومية هناك مشكلة اكبر من ذلك. إنها العقدة الرئيسية التي أن فُكت تمكنت الحكومة بالمضي في مسارها وتفكيك بقية العقد المتفرعة عنها! إنها أزمة الثقة بين الحكومة والشعب. هذه هي المشكلة الحقيقة. فالحكومة قطعت على نفسها الكثير من الوعود مع شعبها والتي أصبحت حبرا على ورق فعمقت الهوة بدلا من طمرها بمنجزات واقعية. كلنا سمع ان الحكومة جادة في تصفية ملفات الفساد الحكومي منذ عام 2008 وظهر المالكي بنفسه أمام وسائل الاعلام ليزف لشعبه بشرى سارة فقد عزم على أن يكون عام 2008 عام القضاء على الفساد الحكومي، وإستبشر الناس خيرا. وقد إنتهى عام 2008 والفساد فاض في الحكومة ومجلس النواب وتفاقم ليغرق مؤسسات الدولة كلها بما فيها مكتب رئيس الحكومة نفسه! لماذا تقاعس المالكي عن واجبه وأنكث الوعد الذي الزم نفسه به دون أن يفرضه احدا عليه؟ ولماذا لم يستضيفه البرلمان ليكشف عن خططه وإجراءاته المتخذة بصدد القضاء على الفساد الحكومي؟ وما هو حجم الفساد الحقيقي في الحكومة؟ ولماذا فشلت خطة المالكي لإنهاء الفساد؟ وما هو عدد المفسدين الذين أحيلوا الى القضاء ومن أي الكتل السياسية؟ وما هي أكثر الوزارات فسادا وأقلها؟ وهل زاد أو قل حجم الفساد الحكومي عن السنوات الماضية وأن يوضح ذلك في أحصائيات دقيقة وليس كلام غير موثق وموثوق؟ ولماذا اعتذر وزير التخطيط عن كشف مقدار الفساد الحكومي عندما أنكر انه بحدود ( 250 ) مليار دولار ولكنه أكد من جهة ثانية إن الرقم خطيرجدا؟ وهل يمكن ان تتم معالجة المشكلة ان لم تكن هناك مكاشفة حقيقية مع الشعب؟ ولماذا التستر على المفسدين؟ وعلام يقف مجلس النواب من جهة والحكومة من جهة أخرى في حلبة الملاكمة دون أن يسدد أي منهما لكماته الى الآخر، بل يقفا متكاتفين متصافحين كـأنهما ليسا خصمين أو متنافسين؟ الا يعني هذا ان كلاهما يتستر على الآخر لأن الحاكم ( القضاء ) أعلن التعادل بينهما فكلاهما فائزان والخاسر هو الشعب المتفرج! ولماذا لا يكشف عن محاولات الاصلاح إن وجدت فعلا؟ وهل استوعبت خطة الحكومة دراسة جادة لأسباب هذه الظاهرة واستفحالها والحلول الجادة لمعالجتها أو كان مجرد رماد ذره المالكي في عيون الشعب؟ الكهرباء اللاوطنية والعميلة للغاز الإيراني، هي أفضل نموذج للفساد الحكومي فهي من الخدمات العامة ذات التماس الكبير بحياة المواطن، والمشرف عليها عالم نووي لامع في ذريات العمالة والفساد. ومع هذا ما يزال القطاع يترنح يمينا ويسارا دون أن يتقدم خطوة واحدة للأمام. رغم الإستثمارات الضخمة في هذا القطاع منذ عام 2003 ولحد الأن. استنادا إلى المتحدث باسم لجنة النفط والغاز البرلمانية، فانه في الوقت الذي تم فيه انفاق 27 مليار دولار على قطاع الكهرباء منذ عام 2003 فانه تمت زيادة التجهيز بالكهرباء لـ 1000 ميكا واط فقط! وبالمقارنة مع إقليم كردستان فقد زاد من توليده للطاقة الكهربائية بكمية 2000 ميكا واط بإنفاق استثماري مقداره واحد مليار دولار فقط. ويظهر المالكي في وسائل الإعلام مبينا للشعب المخدر، بأن الشهرستاني ووزير النفط قد خدعاه بمعلومات مضللة. والنتيجة بقي الجميع في مواقعهم ولم يفتح تحقيق بالقضية، وبقي القطاع النفطي على حاله الرث. وهذا القطاع المبتلى بالفساد، غالبا ما تحمله الحكومة مسؤولية حرق أرشيف الوزارات سيما أضابير الفساد! أليس من الأعاجيب في العراق الجديد أن تحرق محفوظات الوزارات بتماس كهربائي في بلد يعاني من أزمة الكهرباء؟ صدق من قال حدث" العاقل بما لا يُعقل، فإن صدق فلا عقل له".