منذ إنطلاقة ثورة 25 شباط/فبراير 2011 وتقديم 26 شهيداً وعشرات الجرحى وأعداد أخرى من المعتقلين، لكن الثورة لم تواكب أخواتها من الثورات الشعبية التي تُعرف بالربيع العربي. ورغم الوعي الجمعي بين عموم الشباب والشابات تجاه حكومات الإحتلال والعملية السياسية برمتها، إلا أن الأسباب التي عاقت الثورة من تحقيق نجاحها تكاد تكون هي نفسها مستمرة بوجود تكسرات تمنع فيها الربيع العراقي من وحدة قيامه. فالأسباب الرئيسة في تكسرات الربيع العراقي منها الداخلي والخارجي. فالطرف الأول يخص المراجع الدينية، وقمع الحكومة الوحشي، ومتاجرة السياسيين الضحلة. والطرف الآخر يتصل مباشرة بالسطوة الإيرانية الفتاكة للداخل. ولتوضيح ذلك بصورة أسهب، نبتدأ بما يلي: أولاً: المراجع الدينية. إن لينة الكثير من المراجع الدينية تجاه فساد وإستبداد السلطة الحاكمة، كونها مذهبية النزعة. قد ساعد بشكل واضح على تثبيط العزائم لشريحة كبيرة من المجتمع العراقي حيال تأجيج الحراك الشعبي ضد الظلم والجور. إذ بعد عشر سنوات من التأخر العلمي والمعرفي والثقافي وزيادة نسبة التخلف والأمية والجهل لتصل إلى ثلث الشعب. فإن هؤلاء الثلث، وبالضرورة، يخضعون لأوامر العمامة أكثر من إنقيادهم خلف الثوريين. وهذا الموقف للمرجعية الدينية في النجف الأشرف يعود جذره إلى بداية الإحتلال الأمريكي للعراق. حيث قدمت الجهاد السلمي وأخرت الجهاد المسلح ضد المحتل الصليبي الغازي لبلد إسلامي. ورغم جرائم الجيش الأمريكي الكثيرة والشنيعة ومنها في "سجن أبو غريب" أو "الفسفور الأبيض" في الفلوجة أو غيرها، فإن ردود أفعال مرجعية النجف أما تكون باهتة ضعيفة أو لا حضور لها إلبتة. مما ساعد على تمادي المحتل الأمريكي وحكوماته المتعاقبة على حقوق الشعب العراقي من جهة. وفرض قناعة ذاتية عند عامة الناس بقبول الأمر الواقع من جهة أخرى. ومن هنا تجد الطابع العام للتظاهرات التي تنطلق في المحافظات الجنوبية والوسطى، بأنها تطالب الحكومة بتوفير الماء والكهرباء وتحسين الخدمات لا أكثر. رغم إدراك الجميع بالحيف الذي لحق بهم، وبالسرقات لقوتِهم، والتبدبد لثروات بلدهم؛ وإن الذين يحكمونهم قد خدعوهم بالمظلومية، وما زالوا! ثانياً: وحشية القمع الحكومي. في مطلع آذار/مارس 2008 عندما زار الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد بغداد، وبقى ليلتان في أحضان وحماية المحتل الأمريكي بالمنطقة الخضراء. فإنه جاء ليرسخ قبضة الكتلة المصنوعة في إيران بالسيطرة على مقاليد الدولة في العراق. إذ أن الفترة ما بين 2005-2006 تعتبر الأساس الذي شيد فيه أذيال إيران وأمريكا هيكلهم العسكري والأمني. حيث عمل وزير الداخلية باقر صولاغ بإقصاء الضباط والمراتب في عهد سلفه فلاح حسن النقيب، وزج عناصر ميليشية بدلاً عنهم. ومن تلك الميليشيات أنشأ هادي العامري "جهاز الأمن الخاص" الذي طارد وقتل كل وطني عراقي رفض النفوذ الإيراني وقتذاك. ناهيك بتأسيس "دائرة نزع السلاح ودمج الميليشيات" بقطعات الجيش والشرطة وأجهزة الأمن في عهد دورة المالكي الأولى. وبالوقت الذي كانت فيه فصائل المقاومة العراقية البطلة تقارع قوات المحتل الأمريكي، وألحقت فيه هزيمة ميدانية تجلت بالإنسحاب الرسمي له قبل نهاية 2011. ففي غضون تلك الفترة كانت الكتلة الطائفية الممسكة بمقاليد الحُكم تمارس، وما زالت تمارس، شتى أنواع التعذيب الوحشي؛ وخصوصاً مع أهل السّنة، لا لأنهم سّنة فقط، بل لكي يزرعوا ويؤججوا فتنة طائفية، غايتها تهشيم التماسك الإجتماعي العراقي. وما تفجير المرقدين المقدسين في سامراء في 22 شباط 2007 إلا دالة واضحة لإشعال الفتنة الطائفية بين أبناء الدين الواحد والبلد الواحد. وإن كشف جورج كيسي، بمؤتمر في باريس بتاريخ 24- حزيران/يونيو 2013، بأن إيران هي وارء ذلك التفجير، لهو إعتراف واضح وإدانة جلية للنظام الصفوي الإيراني المسخ. إذ أن كيسي كان قائد القوات البرية الأمريكية في العراق. ثالثاً: المتاجرة السياسية. من أبذل ما يفعله سياسيو المنطقة الخضراء هو المتاجرة بدماء الشهداء والأبرياء والسجناء والمحتاجين والمعوزين. حيث أن مواقفهم عرضة للإهتزاز ساعة الهزّ. ويكفي أن نذكر مواقف بعض الوزراء بعد "مجزرة الحويجة" في 23-4-2013. فقد سارع وزير التربية محمد علي تميم، وكذلك وزير العلوم والتكنلولوجيا عبد الكريم السامرائي إلى تقديم إستقالتهما، وتشدقوا بكلمات أثقل من وزنهم. وبعد شهرين، بدلاً من تفعيل الحق لشهداء المجزرة وذويهم، عاد الوزيران أدراجهم حيث كراسيهم ومناصبهم وما يدر عليهما من ثراء وجاه. بل حتى إنطلاقة الإعتصامات في مطلع هذا العام بمدينة الرمادي، قد أستغلها بعض السياسيين، لا سيما الذين جرى سيف نوري المالكي خلف رقابهم. أمثال وزير المالية رافع العيساوي وغيره. إن العملية السياسية البائسة والفاشلة التي أوجدها المحتل الأمريكي، لا يشارك ويستمر فيها إلا الإمعات الذين يتاجرون بالسحت من أجل منافعهم ومصالحهم الشخصية والفئوية الضيقة. ومع إستمرار الوقت فإن هذه الطبقة السياسية الفاسدة أصبحت مرضاً إجتماعياً يؤثر على ضعاف النفوس، أو المحتاجين، أو الذين لا يفقهون أن النصر صبر ساعة؛ فتفعل فعلها السلبي تجاه الوطن والمواطنين. رابعاً: السطوة الإيرانية بالداخل. بعد ثمانية شهور من دخول القوات الأمريكية إلى بغداد في 9-4-2003، قال محمد أبطحي مستشار الرئيس الإيراني محمد خاتمي، بمؤتمر في الإمارات: "لولا إيران ما سقطت كابل وبغداد". مما يعني عمق التعاوني الإيراني الخفي مع الولايات المتحدة الأمريكية. وأن شعارات "الشيطان الأكبر" و "دول الأستكبار العالمي" و "اليوم إيران وغداً فلسطين" وغيرها في عهد الخميني لم تكن غير شعارات مرحلية تكشفت حقيقتها في عهد خامنئي. والأخير كشف عن حقيقة نظامه بشكل أكثر، عندما قال في 4-2-2011 بأن: الربيع العربي يستلهم من الثورة الإسلامية في إيران. ومع إنطلاقة الربيع السوري في 15-3-2011، ولمدة ستة شهور لم يطلق الشعب رصاصة واحدة ضد دموية جلاديه؛ فإن خامنئي أصطف علناً مع النظام القاتل ضد الشعب الأعزل لدوافع مشروعه الطائفي المقيت والبغيض. وإذا كان هذا الأمر مع سوريا، فما بالك حيال الوضع في العراق على مدى عشر سنوات. فإن النفوذ الإيراني الذي تحول إلى إحتلال عبر الكتلة التي أوصلها لمقاليد السلطة، والتي هي بمثابة حكومة ظل إيرانية. فإن عمليات القتل والتصفيات والتهجير السكاني على أُسس طائفية، قد أحدثت شرخاً مؤلماً وموجعاً في الجسد العراقي. ومع ذلك يحاول بعض السياسيين، الذين أقصاهم المالكي من مناصبهم، أن يستغلوا هذا الشرخ بالدعوى لإقامة الأقليم الخاص بأهل السّنة. دون إكتراث إلى تقسيم وحدة العراق أرضاً وشعباً. إستنتاجإن الأسباب الآنفة الذكر، وغيرها التي لم نتطرق إليها كونها أقل شأناً، منها الوضع في الشمال العراقي وتركيا، أو الدور العربي، سيما مع قطر والسعودية. وكذلك دور المال والإعلام بشكل عام. إلا أن الأسباب الكبيرة التي عرضناها هي التي تجعل من الربيع العراقي متضعضع الأطراف، هزيل البنية، لا يقوى على تحشيد وتأدية الحراك المطلوب منه شعبياً وجماهيرياً. وبما أن هنالك حضوراً إيجابياً جارياً على أرض الواقع، سواء في المظاهرات المتكررة في المحافظات الجنوبية والوسطى، أو الإعتصامات المتواصلة منذ سبع شهور في محافظات الشمال والغرب. ويضاف إليها ضربات المقاومة لميليشيات حكومة المالكي المتمثلة في "قوات سوات"، أو المدمجة في قطعات الجيش والشرطة الإتحادية؛ فإن قراءة المستقبل وفقاً لحقائق التاريخ ومنطقه، تكون أبداً لصالح الإرادة الوطنية الصادقة. إذ شتان بين مَنْ جاء متشبثاً في بصطال المحتل الأمريكي، لا يملك مشروعاً وطنياً، بل القتل والنهب والإستبداد؛ وبين مَنْ يضحي بحياته فداءً للشعب وللوطن وللمشروع الذي يعيد للعراق دوره وهيبته أقليمياً ودولياً. ورغم ذلك، فإن العمل على تعديل تلك التكسرات التي تعترض طريق الربيع العراقي، يوجب على جميع الوطنيين العراقيين أن يبتدؤا من حواضنهم الإجتماعية ومناطقهم السكانية متظافرين مع أية نقطة حراك شعبي ضد ما لحق بالعراقيين من جبروت السلطة الحاكمة وطغيانها. فالحرية ثمنها اللون الأحمر الذي يصطبغ في خلوده الشهداء، ويسيل شرفه على أجساد الجرحى. وتاريخ العراقيين الأبي حافل بشهاداته الوفيرة تجاه المعتدين والمستبدين. وإن إلحاق الهزيمة الميدانية بقوات الإحتلال الأمريكي لهي شهادة حية ماثلة أمام العالم أجمع.