لا يوجد في الدنيا كلها وضع غريب وشاذ في عدوانيته وباطنيته مثل نظام الملالي ، ومع ذلك يواصل تحدّيه اليومي للعالم وكأنه يضمن دوام عدم ملاحقته رغم التهديدات الكلامية التي توجّه إليه. نظام لا مثيل له في عدم الإكتراث ببشاعة ممارساته إلا الكيان الصهيوني ، مع فارق بينهما لا يمكن إغفاله إذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذا الكيان مدعوم تاريخيا وعلنا من قبل "الدولة الأكبر" وسائر حلفائها ، وهذا يعني أن وضعه في عالم العربدة والإجرام يبدو شبه طبيعي من هذه الزاوية . ولكن ماذا عن نظام الملالي ، وكيف يمكننا أن نفسّر وضع إيران التي ما زالت تتعرض منذ سنين طويلة لسلسلة من الإدانات اللفظية وقرارات الحصار الخالية من الردع الفعلي . وما سرّ هؤلاء الملالي الذين كلما ازداد تغوّلهم باتجاهنا نحن ـ كما باتجاه شعبهم ـ كلما واصلت الولايات المتحدة وحلفاؤها ومعهم الكيان الصهيوني إعطاءهم فرص التسويف المتتالية دون أن تُوَجّه إليهم ضربة كفّ واحدة حتى الآن. أكثر من ذلك ، ما هو الدافع وراء سكوت الأميركان عن هذا النظام عندما احتلّ بلدا كالعراق ، بعد أن تسلّمه منهم استلام اليد كما لو كان شقة مفروشه وليس بلد التاريخ والحضارة . ثم سارع إلى المشاركة في قتل شعب بلد عربي آخر كسورية دفاعا عن طائفية نظامه وجرائمه ، ووضع بلدا ثالثا كلبنان تحت سطوة حزب طائفي تابع له باعتباره مقاوما ، وعمل على تحويله إلى عصابة سيئة الصيت كمجموعة بلاك ووتر الأميركية الإرهابية المرتزقة تقتل وتدمّر على الهوية ، ولم يتورّع عن رفع عصا التهديد باحتلال بلدان أخرى سائرة في فلك الغرب كمشيخات الخليج التي كانت ومازالت نائمة في الحضن الأميركي مع شقيقتها الأكبر مملكة " طوال العمر". وفوق ذلك كله بتنا نسمع على ألسن مرتزقته وأزلام اجهزته في الفضائيات العربية لغة ولا أوقح في التعبير عن " طموحاتهم " ودفاعهم عن نظام بشار فريد عصره في إبادة البشر والحجر، وتركيزهم على وصف معارضيه بعملاء الصهاينة والناتو ، وكأن مئة ألف شهيد ومفقود في سائر أنحاء سورية العربية عدا ملايين المشردين ، يمكن أن يكونوا عملاء للناتو وأوباما المتواطئ مع الروس منذ البداية. وصية خميني يحاولون تنفيذها الآن ! ماذا يعني استمرار هذه الوضع الذي " شرّع " خميني نهجه قبل ثلاثين عاما في بنود وصيته الجنونية التي تصدّرت غلاف مجلة الدستور اللبنانية ـ اللندنية الصادرة مطلع آب 1983 ، بقوله نصا : "عندما تنتهي الحرب مع العراق علينا أن نبدأ حربا أخرى . أحلم أن يرفرف علمنا فوق عمان والرياض ودمشق والقاهرة والكويت .. ! وماذا يعني السكوت المتواصل عليه بحجة التمسك بالحكمة والصبر من أجل التوصل إلى حل تسووي لـ"الأزمة النووية" ، مع أن الولايات المتحدة زعيمة معسكر الساكتين عليه لا تسكت عن فرد واحد فقط من عملائها أو المحسوبين عليها إذا ما مُسّ تحت أي ظرف وفي أي مكان . ولنا في قضية سعد الدين وهبه مدير مركز ابن خلدون في القاهرة نموذجا لا يُنسى في هذا السياق ، حيث لوحق في العام 2007 بتهمة التخابر مع "السي.آي.إيه" وتلقّي الدعم المالي المشبوه ، وصدر حكم قضائي بسجنه ، فقامت قيامة الولايات المتحدة وشنّت هجوما على حليفها النظام المصري وهددت بقطع مساعدة القمح التي تقدمها له إذا لم يتراجع عن هذا القرار . ولم تتورع عن اقتطاع مبلغ الدعم المخصص لسعد من قيمة هذه المساعدات ، وقامت بتجميده في حساب خاص باسمه إلى حين الإفراج عنه ، ولم تكن تهديداتها ولا إجراءاتها هذه سرية بل بوقاحة علنية على مسمع العالم وعبر سائر وسائل الإعلام ! هذه الواقعة ليست إلا مثلا عالقا في الأذهان على الدرك الذي تسمح الدولة الكبرى لنفسها بالنزول إليه انتصارا لواحد من أزلامها ، حتى ولو لوحق بالقانون وليس بمافيات الملالي ولا عصابات بشار الجزار أو المالكي مالك كل صفات الدناوة ، بينما تُعتّم على الحقائق الساطعة وتشكك بها وبقائليها ، وهي حالة نرى صورها الصارخة في ممارساتها اليومية على غير صعيد . تعتيم مع سبق الإصرار والتصميمبالأمس فقط طالَعَتنا الأنباء بخبرين في وقت واحد يوضّح كل منهما سرّ السكوت على لعبة كسب الوقت التي يمارسها الملالي حيال المشروع النووي ، والأدق حيال مشروع قنبلتهم النووية التي يُفتَرض أنها أصبحت ملك يمينهم منذ العام 2005 . أولهما تصريح السفير الإسرائيلي في واشنطن مايكل أورن لصحيفة هاآرتس بتاريخ 11 تموز الحالي الذي كشف فيه عن وجود صفقة بين نتانياهو والرئيس الأميركي أوباما عنوانها " فلسطين مقابل إيران " ، وقوله أنها لم تتوصل إلى نتيجة لأن أوباما لم يُبادر إلى لجم إيران ونتانياهو لم يقم بخطوة تاريخية بالنسبة لقيام الدولة الفلسطينية . وهذا يعني بوضوح أنه مادام حل قيام الدولة لم يتم ـ ولن يتم في ظل المدى المنظور على الأقل ـ فإن موضوع النووي سيبقى يراوح مكانه ولن يطرأ عليه أي جديد .. أما ثاني هذين الخبرين فيتضمن إعلان حركة مجاهدي خلق عن معلومات جديدة حصلت عليها من مصادرها الخاصة في الداخل الإيراني تؤكد انتهاء العمل في موقع نووي سري بُدء بإنشائه في العام 2006 ، وهو يقع تحت الأرض في مجمع أنفاق بين الجبال على بعد حوالي خمسين كيلومترا الى الشمال الشرقي من طهران . وعلى الرغم من المعلومات الدقيقة التي تضمنها هذا الإعلان ، ومنها اسم الشركة التي قامت بإنجازه وهي إيمان غوستاران محيط ، واسم المشرف العام على إدارته وهو محسن فخري زاده ، وحتى الاسم السري للمشروع وهو منجم الشرق . إلا أن رهطا من المحللين والمنظّرين الأميركيين وغيرهم شككوا بهذه المعلومات الجديدة ، ورأى بعضهم أنها تصدر لاعتبارات سياسية لا أكثر! .مع أن سائر المعلومات التي سبق اعلانها حول مستجدات المشروع النووي قد ثبتت صدقيتها مع الأيام ــ بما في ذلك أيضا كشف المجاهدين مطلع العام 2007 قائمة بأسماء 32 ألف عميل لنظام الملالي على أرض العراق . حتى "إسرائيل" ، نأى مسؤول فيها بنفسه عن تقييم هذه المعلومات ، واكتفى بالقول ـ حسب رويترز التي لم تذكر اسمه ـ " ليس لدي علم بالأمر أكثر من التقرير" . والشيء نفسه كانت الولايات المتحدة قد قالته في العام 2010 تعليقا على تصريح مماثل للمجاهدين حول امتلاكهم أدلة على وجود منشأة نووية الى الغرب من طهران ، فردّ الأميركيون بأسلوب يُفهم منه نفي مصداقية هذا التصريح بقولهم إنهم على علم بذلك منذ أربع سنوات ، إلا أنه ليس لديهم ما يدعو للإعتقاد أنها منشأة نووية "!" .. وحتى وكالة رويترز نفسها شاركت في حملة التشكيك بقولها ان "هذا الإعلان جاء كأحدث زعم بعد أقل من شهر على انتخاب السياسي المعتدل حسن روحاني الذي عزز مجيئه التفاؤل في حل للنزاع النووي ، ولذلك فإن توقيت هذا الإعلان قد يستهدف تبديد هذا التفاؤل" ! أي باختصار ، عدم الإكتراث بأي معلومات تؤكد إصرار نظام الملالي على إقامة منشآت نووية جديدة ، مع أنه هو نفسه قد أعلن في العام 2009 عن عزمه على بناء عشرة مواقع جديدة لتخصيب اليورانيوم تهديد ووعيد باللسان فقط ! طبعا هذه المواقف التي تصب في خانة التعاطي اللّين مع نظام الملالي ليست بعيدة عن الوجه الآخر لها المتمثل بمسرحيات التهديد الكاذب بالضرب التي وجهت له ثم مُسحت بـ "إستيكة" على حد تعبير إخواننا المصريين . فقد سبق لإسرائيل أن سرّبت مطلع العام 1995 معلومات حول عزمها على تدمير مفاعل بوشهر النووي بأسلوب مختلف عما اتّبعته في تدمير مفاعل تمّوز العراقي عام 1981 ، بالإضافة الى عزمها على تدمير مفاعلين آخرين بالقرب من بحر قزوين . يومها كانت إيران على أبواب البدء بإنشاء مفاعلين جديدين أيضا بالإتفاق مع روسيا ، وبدء التفاوض مع مسؤول وكالة الطاقة الذرية الروسية فيكتور ميخائيلوف حول إنشاء اربعة مفاعلات أخرى تعمل بالماء الخفيف وفق معلومات" النيو يورك تايمز". لكن إسرائيل نفسها عادت بعد ذلك وسرّبت أنباء تؤشر على تراجعها ، وتومىء الى احتمال تأجيل هذه الضربة ، تحت ذريعة أن ضرب المفاعلات الخمسة مرة واحدة أجدى بكثير من ضرب مفاعل واحد . ثم ذهبت إلى أبعد من ذلك فسربت في 4 تشرين الثاني من العام نفسه خبرا آخر يحمل تهديدا مبطنا هذه المرة حول احتمال إقدام مجموعة من الإسرائيليين المتشددين على سرقة قنابل ذرية صغيرة بتسهيل من بعض العسكريين الرافضين لنهج التسوية مع الفلسطينيين ، وإن لم تفلح في ذلك فإنها قد تقوم بانقلاب عسكري محدود الأهداف يفتح مجال التفرّغ لمجابهة الخطر النووي الإيراني . غير أن الأيام والسنين قد مرّت ، ولم يُنفّذ من يومها لليوم أي تهديد أو تسريب .لا الضربة التي تكرّر الحديث عنها ، ولا سرقة القنابل ، ولا الإنقلاب المزعوم ! جدير بالتنويه أن هذه المواقف لها ما يماثلها وأفظع على صعيد التعاطي اللّين مع نظام الملالي من قبل الولايات المتحدة. وبالعودة إلى الوراء يمكننا رصد ما يُعبّر عن الموقف الأميركي الحقيقي في هذا الإتجاه ، مهما اختلفت الصيغ المعلنة عنه فيما يتعلق بالمشروع النووي تحديدا . فعندما اكتشف مفتشو الطاقة النووية مطلع العام 2003 أجهزة الطرد المركزي التي تُستعمل في إنتاج اليورانيوم المخصّب في موقع "نتناز" ، كانت إيران في ذروة انغماسها بمساعدة القوات الأميركية على احتلال العراق ، الأمر الذي أدى إلى فتح أبواب التنسيق بين الجانبين ، وساعد على تخفيف الضغط على إيران في الموضوع النووي ، رغم استمرار التهديد الكلامي لها. ثم تطوّر هذا التنسيق وسط انهماك قوات الاحتلال الأميركي بتثبيت ركائزها ودرء ضربات المقاومة الوليدة ضدها إلى "تطوّع" الملالي بمساعدة الأميركان على إدارة شؤون العراق بهدف اقتسام السيطرة عليه معها بالتدريج. وسرعان ما وصلت العلاقة بينهما إلى حدّ تعدّد اللقاءات بين الطرفين الأميركي والإيراني في بغداد بغياب ممثلين عن الجانب العراقي ـ صنيعة الإحتلال ، مع أن موضوع هذه اللقاءات هو العراق ذاته والوضع الأمني فيه. وكان من أغرب ما لفت انتباه المتابعين لما يجري خارج عدسات الإعلام التقاء الجنرالات الأميركان مع الجنرال الإيراني المطلوب للإنتربول الدولي جعفري صحراوردي على طاولة واحدة . وفي الوقت الذي كان فيه السفير الأميركي ببغداد المحتلة هو رئيس الوفد الفعلي لبلاده ، كان صحراوردي هو الرئيس الفعلي لوفد الملالي ، وليس السفير الإيراني الذي كان حاضراً كَضيف شرف! في ظل هذه الأجواء بقيت إيران تفاوض وتراوغ أميركا والغرب حتى اليوم الذي تسربت فيه معلومات موثوقة تؤكد أن إيران قد تمكنت أثناء هذه الفترة من نقل كل أجهزة الطرد المركزي التي اكتشفت في محطّة "نتناز" إلى أماكن أخرى محاطة بالسرية المطلقة ، ولم يعد لهذه الأجهزة أي أثر في المكان الذي اكتُشفت فيه، حتى أن فريق التفتيش الذي اكتشفها لم يتمكن بعد سنتين ونصف من ذلك التوصل إلى حقيقة ما جرى. وهكذا مرت السنين العشر الأخيرة بين أخذ وردّ دون أن نرى أي تحرك جدي ضد جرائم هذا النظام ومشروعه النووي الذي لم يعد مجرد مشروع فحسب ، بهمّة " الشرعية الدولية " وخنوع حكامنا ، ولم يبق لنا إلا انتظار كشف " معتدلي " الملالي عما في باطن باطنيّتهم . يقولون : .. وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر ونقول بدورنا : ... نفتقده دوما وسط هذا الهوان العربي الشامل ، مع كل طلعة شمس ومغيبها . ملاحظة : الصورة المرفقة لغلاف مجلة الدستور/ عدد 1 آب 1983 وهي على الرابط التالي :www.hawamer.com/vb/showthread.php?t=1251263