في مثل هذا اليوم كنا نستقبل التهاني، واليوم نستقبل التعازي .. كنا ننتظر عيدنا لنحيا وترتفع بين الناس مكانتنا، وصار يأتينا لنموت وتزيد السلطات فيه قمعنا والتنكيل بنا وتشريدنا. في الزمن "الديكتاتوري"، وهذه شهادة لابد من الادلاء بها، كان بعض الصحفيين يحاذرون أن يقولوا كلمة خشية أن لا تُرضي هذا المسؤول أو ذاك، وكان زملائي ينصحونني بمغادرة النكهة الحادة اللاسعة في كتاباتي وانتقاداتي، ولكني لم أستطع، ومشيت في طريقي، ولم أجد فيه حارساً يمنعني أو سجاناً يسجنني أو شرطياً يحول بيني وبين ما أريد، بل كنت أرى فيه وزراء ومسؤولين ومديرين عامين وموظفين يزيد احترامهم لك وأنت تقول كلمة الحق ويسرونك بمعلومات لا يعطونها للخائفين. كان الصحفي ذا مكانة في المجتمع ولكن من يتورط في عمليات تزوير أو قضايا أخلاقية أو مخالفات مهنية أو استغلال هذه المكانة سيواجه بالعقوبة، وحتى بعض من عوقب على أخطائه استفاد من عقوبة النظام "الديكتاتوري" ليعود مناضلاً ذا شأن في النظام "الديمقراطي". كان "الديكتاتوريون" يقولون لك لا تكتب ما يضر المصلحة العليا للبلد والتزم بقواعد مهنتك والضوابط الأخلاقية في المجتمع ولا تتقرب من الطائفية، واكتب ما تشاء، ويا ويل من يعترض على ما تكتب من المسؤولين إذا كان ما تكتب ضمن هذه الضوابط. في العهد "الديمقراطي" طلبوا منك أن تتجاوز تلك الحدود كلها وتكتب ما تشاء، ويا ويل الصحفي إذا لم يرض عنه "السيد" فلان والمسؤول علان إذ وضعوا له الموت عقوبة، وهكذا، وبهذه الطريقة غادرنا زملاء أعزة وعراقيون نادرون في حبهم للعراق لن يكون آخرهم زميلنا الشهيد زامل غنام الذي قتلوه غيلة عشية عيد الصحافة. عملت في صحف ما بعد الاحتلال وجاء القوم وصورة أن لا ثقافة ولا صحافة في النظام "الديكتاتوري" تملأ أذهانهم، وأنهم كما يقول العراقيون سـ"يفتكون اليمني"، وأذكر أن صديقي الأعز منذر آل جعفر الكاتب العراقي ذا الأسلوب الأخاذ والمفردات العربية الرائعة جاء زائراً لي في الجريدة وفي مكتبي كان يجلس عدد من "علية" القوم اليوم، ويناقشون هذه الأفكار فاستأذن آل جعفر أن يدلي برأيه، وهم لا يعرفونه، ولما كانوا "ديمقراطيين للكشر" سمحوا له أن يقول رأيه ويعبر عما يجول في خاطره، فأخذ يثبت لهم بالبراهين والأدلة، وهو أيضاً محام علاوة على كونه كاتباً وصحفياً، بأن النظام "الديكتاتوري" كانت فيه ثقافة وصحافة، وقال لهم لو لم يكن الأمر كذلك ما اتكأتم على مثقفيه وصحفييه في إصدار صحفكم .. فصرخ في وجهه أحدهم ، والذي هو الآن مسؤول كبير وممثل للعراق في إحدى المؤسسات العربية الكبرى وقال له : أخرج من هنا فأنت كلب من كلاب صدام .. فغضب آل جعفر وكانت بيده عصاً يتوكأ عليها فنهض وأخذ يلوح بالعصا في وجوههم ويصرخ بهم : لئن أكون كلباً من كلاب صدام خير لي وأشرف من أن أكون خنزيراً من خنازير الاحتلال مثلكم، وخرج. أنا لا أنكر أن "الديمقراطيين" سمحوا بإصدار الصحف والمطبوعات، كما سمحوا للصحفيين أن يكتبوا من دون ضوابط، حتى الأخلاقية منها، ولكنهم وضعوا الميليشيات عقوبة لهم، فلا يدري الصحفي أي كلمة يرضى عنها الميليشياوي وأي كلمة سيغضب منها. في عيدكم زملائي الصحفيين الوطنيين أتوجه إليكم بخالص التعازي، ولكنكم تعرفون أن دوام الحال من المحال وأن الليل لابد منهزم أمام ضياء الفجر الآتي، وفي الصباح سنحتفل بعيدنا كما لم نحتفل به من قبل، وإذا كنا نستذكر، سابقاً، زملاءنا المتوفين، فسنستذكر، غداً، زملاءنا المستشهدين على يد الاحتلال ووكلائه ونحتفي بهم وبعائلاتهم. وسلام على الثابتين .. سلام على حملة الأقلام الحرة التي لم تتلوث سلام على الشهداء سلام على زامل غنام شهيد عيد الصحافة ..