أتمنى أن لا يغفل العراقيون عن تسجيل القصص والمآثر التي سطروها ويسطرونها منذ الاحتلال، فلهذه القصص والمآثر أهمية تاريخية، وأن يتحروا الدقة في تسجيلها لتصل حقيقية صافية إلى الأجيال المقبلة وتنير دروبهم في الاعتزاز بوطنهم وكيفية المحافظة عليه والدفاع عنه. ولا يفوتني، هنا، أن أحيي صديقي البروفيسور الرائع عبد الستار الراوي الذي يسجل كل صغيرة وكبيرة من هذه القصص تصل إلى مسامعه بعد أن يوثقها من مصادرها الأصلية، ونشر بعضها في "معجم العقل السياسي الأمريكي المعاصر" الذي صدرت منه أجزاء عدة إلى الآن، ومن تلك القصص التي وثقها قصة الكلب العراقي الباسل "سداح" الذي كتب أحد الشعراء قصيدة رائعة في رثائه. و"سداح" كان كلباً لأحد رجال العراق المقاومين يسكن في أطراف قرية من قرى العراق، وداهم الأمريكان بيته للقبض عليه فاستقبلهم سداح بالهجوم عليهم وتفريفهم فاضطروا للاستعانة بكلب ضخم من كلابهم الأمريكية فهجم عليه سداح وأرداه قتيلاً وظل يشاغل الجنود حتى ملأوا جسمه بالرصاص، ولكن صاحبه المقاوم استطاع خلال هذه المشاغلة الباسلة أن يترك البيت ويفلت من قبضة الأمريكان. ومع اعترافي بأن العمل الذي أنجزه الصديق الراوي لا يمكن أن تنجزه إلا مؤسسة ضخمة بموظفيها ومعداتها، لكنه لن يتاح له أن يغطي جميع قصص العراقيين ومآثرهم لذلك ينبغي أن يتصدى كل قادر على الكتابة على تسجيل هذه القصص. ومن قصص العراقيين ومآثرهم التي وصلت إلينا من ثورة العشرين سأروي القليل منها، هنا، وهي ما كانت لتصل إلينا لو لم يتصد عراقيون حريصون لتدوينها. فهذه أمرأة عراقية وجدت أبنها واسمه (جنيدي)، وهو تصغير اسم جندي، مضرجاً بدمائه في ساحة المعركة وأطبق بيديه على خناق جندي بريطاني كان قتيلاً إلى جانبه، فهزجت قائلة: حي ميت تكتل يجنيدي فأية مفاخرة هذه بولدها الذي يقتل الأعداء حياً وميتاً! وعراقية أخرى جيء إليها بولدها الوحيد وقد اخترق صدره رصاص الأعداء، فرفعت بندقيته قائلة: لميته وشال وصار آفه وفطيمة آل علي عراقية أخرى وهي مفخرة عشيرة الظوالم وابنة الرميثة الباسلة، كانت عنوان المجد والبسالة للمرأة العراقية، إذ خرج ولدها الوحيد مع خاله للمشاركة في المعركة، واستشهد وهو ينازل الأعداء ببطولة منقطعة النظير، وبعد انتهاء المعركة عاد أخوها وحيداً، فسألته عن ابنها، فقال: جن لا هزيتي ولوليتي ولمن لا يعرف لهجة أهل العراق فإنه قال لها: كأنك لم تهزيه في المهد وتغني له وتهدهديه. فأجابته بإباء وشمم من دون أن تئن أو تذرف دمعة: هزيت ولوليت الهذا أي أني ربيته وأعددته لمثل هذا اليوم. وعفته آل صويلح من آل زريج، عراقية أخرى، أسر الإنكليز ولدها ومرّوا من أمامها يقودونه مع الأسرى فأومأت له قائلة: بس لا يتعذر موش آنه أي أخشى أن يتنصل من المشاركة بالثورة، فأجابها ابنها: حطوني بحلكه وكلت آنه أي وضعوني في فوهة المدفع ولم أنكر اشتراكي بالثورة. وقال مرزوك العواد عندما شاهد القوات البريطانية المنهارة وهي ترتد هاربة مذعورة أمام هجمات الثوار الأبطال: ودوه يبلعنه وغص بينه أي أرسلوه للقضاء علينا فعاد خاسئاً مدحوراً، ولم يستطع أن يبلعنا، وإنما غص بنا. وقال عبد الواحد الحاج سكر وقيل غيره عندما شاهد الطائرات الحربية المغيرة تهدر في الجو: يل ترعد بالجو هز غيري إنه يخاطب الطائرة الحربية المحملة بالقنابل والموت أنها لا تخيفه فلتذهب إلى من يخاف منها. وعندما اشتبكت عشائر بني حجيم والظوالم وآل زياد مع الجيش الإنكليزي في معركة فاصلة دامت يوماً كاملاً انتصر فيها الثوار انتصاراً كبيراً، وملأت جثث القتلى النهر، قال المهوال مخاطبا شعلان أبو الجون: يشعيل يجري الشط سوجر أي جعلنا مياه النهر تجري من دماء الجيش المحتل، الذي يتكون من السيك والهنود . وهذه عراقية أخرى اسمها "ونسه" عيّرت زوجها لأنه لم يشارك في المعركة بقولها: شتواجه الوادم بعد ونسه وهاي الحرب عند الناس ونسه اشترك بيه زلم ورجال ونسه وأنه زلمتي جويعد بالثنية أي كيف سأواجه الناس وكل العراقيين نساء ورجالاً يعتبرون هذه المعركة نزهة ويشتركون فيها، وأنا زوجي مختبئ في البيت لا يغادره. لهذا أهيب بالجميع تسجيل ما يشاهدونه ويسمعونه بعد التحقق منه ونشره ليكون بين يدي المدونين والباحثين، كما أهيب بمراكز الدراسات والبحوث الوطنية تخصيص جزء من نشاطها لهذا الغرض. والمجد للشهداء.